تتّسم منظومة الاقتصاد السياسي اللبناني بالثبات النسبي. فهذه المنظومة لم تشهد إلاّ تغيّراً بنيوياً واحداً في الخمسينيات حين توسّع القطاع المصرفي ليحتلّ الحصّة الكبرى من حجم الاقتصاد اللبناني بعدما كان قطاع التجارة هو الأكبر. حتى إن إنشاء مؤسّسات ناظمة وأجهزة رقابية على القطاع المصرفي، لم يغيّر كثيراً في بنية المنظومة ولا في شكلها وفي أطر إعادة توزيع رأس المال على طبقات المجتمع. وبينما شهد نصف القرن الأول من عمر الكيان ثباتاً نسبياً في حصص الطوائف من منظومة الاقتصاد السياسي، أتت الحرب الأهلية اللبنانية وعبثت بذلك الثبات مؤدية إلى تغيّر بنيويّ جديد. يمكن القول إن ما حصل خلال الحرب وبعدها كان أول حالة إعادة توزيع حصص منظومة الاقتصاد بين الطوائف وأيضاً بين اللاعبين الأساسيين داخلها، بالإضافة إلى أنّه أسّس لتغيير طريقة عمل قطاع المصارف في سنوات ما بعد الحرب.
ضمور الدولة
تنقسم التغييرات التي طاولت منظومة الاقتصاد السياسي اللبناني، خلال الحرب الأهلية، إلى مرحلتين، بحسب ورقة أعدّها الياس سابا بعنوان «تحليل الأزمة الاقتصادية وأسبابها في ضوء تداعيات الحرب وسياسات إعادة الإعمار»؛
المرحلة الأولى: تمتد بين عامَي 1975و1982 وتحديداً حتى تاريخ الاجتياح الإسرائيلي. تميّزت هذه الفترة بسعر صرف مرتفع نسبياً. كان سعر الصرف قبيل الاجتياح أقل بـ30% فقط من سعر صرف عام 1974، فيما انخفض الناتج المحليّ بنسبة 30% و40% توالياً في عامَي 1976 و1977. واستمر ميزان المدفوعات في تسجيل الفوائض مع بقاء الدين العام ضمن حدود مقبولة. شهدت تلك المرحلة أيضاً استمرار سياسات النفقات المتحفّظة التي اتبعتها الدولة اللبنانية منذ تأسيس الكيان، واستمرار ضبط حساباتها.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

بشكل عام يمكن القول إن الدولة كانت لا تزال قادرة على التحكم بسياسات الاقتصاد الكليّ. فحكومة الرئيس الحص في عهد الرئيس الياس سركيس أصدرت مرسوماً «حرّر» القطاع المصرفي، الذي كان مغلقاً على مجموعة من ممثّلي الطوائف من العائلات المساهمة في تأسيس وتوسيع القطاع في الخمسينيات من القرن الماضي، كما يقول نجيب حوراني في ورقته البحثية «صراع رأسماليين: إعادة النظر في الحرب الأهلية». لكن تلك الفترة شهدت أيضاً بداية سيطرة الميليشيات على بعض الموارد عبر سياسات افتراسية وإكراهية، وفق وصف إليزابيث بيكارد في «الاقتصاد السياسي للحرب الأهلية اللبنانية». حوراني، يضيف بأن الميليشيات بدأت خلال تلك المرحلة تبني شبكات تشاركية مع العائلات التجارية التقليدية وأسّست شبكاتها المالية بالتشارك مع هذه العائلات والمصارف، فيما انحصر الدمار في وسط بيروت وضواحيها الشرقية والجنوبية، بحسب بيكارد.
تمتدّ المرحلة الثانية من الاجتياح الإسرائيلي في عام 1982 إلى اتفاق الطائف في عام 1989. شهدت هذه المرحلة، بحسب سابا، تدمير البنية التحتية الإنتاجية في المنطقة الممتدة من الكورة شمالاً إلى الدامور جنوباً، وهي المنطقة المسؤولة عن تأمين 70% من الناتج المحليّ اللبناني. كذلك، دخل الجيش اللبناني، تحت سلطة أمين الجميل، طرفاً أساسياً في الحرب، ما رتّب أكلافاً كبيرة، لم تكن الخزينة اللبنانية قادرة على تحمّلها. وفوق الإنفاق العسكري، ارتأت حكومات أمين الجميل الإنفاق على مشاريع إنشائية غير ضرورية وغير مفيدة، وعلى مجالات غير إنتاجية لا أولويات اقتصادية أو اجتماعية لها. باختصار انتهج الجميّل سياسات مالية ومحاسبية توسعيّة وفوضوية لم يشهد لبنان مثيلاً لها من قبل أسهمت في انفلات الدين العام إلى مستويات غير مقبولة ورتّبت أعباء كبيرة على الخزينة، واستنزفت احتياطات الدولة بالعملات الأجنبية، بينما انهار سعر صرف الليرة بشكل دراماتيكي، وتدولر الاقتصاد بدءاً من عام 1987. وفي هذه المرحلة أيضاً، تغوّلت الميليشيات، كذلك بحسب توصيف بيكارد. فقد زادت سيطرتها على كلّ الموارد الاحتكارية الأساسية مثل المشتقات النفطية والغاز والإسمنت والمواد الغذائية الأساسية. تم ذلك، عبر علاقاتها مع العائلات التجارية التقليدية، أو عبر فرض الضرائب والخوات (إدارات مدنية، أو بالتعاون مع الدولة).
هذا التغوّل، لم يحصل إلّا لأن سياسات عهد أمين الجميل وضعت الدولة طرفاً واضحاً في الصراع، وفق سابا. ورغم الدمار والموت، وجدت العائلات التجارية طرقاً لتكثيف أرباحها مع أنّ الميليشيات كانت تقاسمها في عوائد الاحتكارات والتجارة. ظاهرياً، كانت البلاد مقسّمة بين كانتونات ذات حدود واضحة، لكنّ الشبكات التجارية والمالية العابرة لحدود الدويلات حافظت على الفضاء الاقتصادي الوطني تحت رعاية الميليشيات التي حاولت إنشاء أسواق مركزية ومرافئ خاصة بها في المناطق الواقعة تحت سيطرتها، وفق بيكارد. حصّة التجار الاحتكاريين من الأرباح لم تقلّ، بل كل ما حصل، هو أن كلفة التشارك مع الميليشيات كانت تضاف إلى أسعار السلع.

حرب بين وكيلين
كذلك تشارك القطاع المصرفي أيضاً مع الميليشيات بأشكال مباشرة وغير مباشرة. قبل الحرب كان القطاع المصرفي مغلقاً على مجموعة من العائلات التي ساهمت في تأسيسه وتطويره، كما يقول حوراني. دخولها إليه جاء بعد إنشاء مصرف لبنان. إلا أنه بعد صدور المرسوم 29/1977 الذي أنشأ المنطقة المصرفية الحرّة، فُتح الباب أمام لاعبين جدد. وبالفعل نما عدد فروع المصارف الأجنبية في لبنان من 54 فرعاً إلى 76فرعاً، بينما دخلت المزيد من العائلات التجارية إلى القطاع المصرفي. غالبيتها دخلت متشاركةً مع الميليشيات الراعية لها ولطوائفها. فالميليشيات أدركت بأن السيطرة على قطاع المصارف أو على جزء منه تؤمّن شبكات مالية تفتح الأبواب إلى التمويل من وإلى الخارج، وإلى استثمار الأرباح المحقّقة من الاحتكارات. لكن، خلافاً لما حصل في الخمسينيات حين دخلت العائلات التجارية إلى القطاع، لم يكن رأس المال مموّلاً من أميركا والغرب، بل كان سعودياً. السبب متصل بطفرة أسعار النفط بعد عام 1973. في تلك الفترة تحفّز السعوديون للبحث عن نسب أعلى من الأرباح الاستثمارية (ما بات يُعرف بالبترودولار)، فاكتشفوا أن القطاع المصرفي اللبناني كان يجيد مراكمة الأرباح في أسواق الأسهم والمال العالمية، وخصوصاً فقاعة إقراض دول العالم الثالث والمضاربة على العملات الأجنبية. هذا ما التفتت إليه الميليشيات أيضاً ورأت فيه فرصة لتكثيف الأرباح. كانت الأرباح المتراكمة كبيرة بما يكفي لتمويل استيراد لبنان خلال سنوات ما قبل الحرب. كان لبنان يستورد ما يفوق الـ 50% من استهلاكه. فعلى سبيل المثال، كانت للقوات اللبنانية مجموعة مصارف تدور في فلكها منها بنك الرفاه وميتروبوليتان، بينما تقاربت حركة أمل مع آل جلبي الذين أسّسوا MEBCO، وتقرّب الحزب التقدمي الاشتراكي من مجموعات مصرفية تدور في فلك رفيق الحريري.
ودخل رأس المال السعودي في ملكيات المصارف عبر وكلاء محليين، من أبرزهم روجيه تمرز ورفيق الحريري. تمرز لبناني مصريّ الأصل، عمل في وول ستريت وبدأ في منتصف السبعينيات بالاستثمار في الأسواق المالية العالمية بالشراكة مع رأس المال السعودي. واستطاع من خلال شبكة استثماراته أن يدخل إلى السوق المالية اللبنانية وأن يستثمر في القطاع المصرفي مستغلاً الاندفاعة السعودية. بينما دخل رفيق الحريري من بوابة الاستثمار في مجموعة نشاطات تجارية تحت سيطرة مختلف الميليشيات، باعتباره رجل أعمال لبنانياً مقرّباً من العائلة المالكة السعودية، ويستثمر في القطاع المصرفي في فرنسا والولايات المتحدة؛ بالإضافة إلى لعبه دوراً أساسياً في انتخاب بشير الجميّل رئيساً، ثم أمين الجميّل بعده، كما يشير حوراني.
في الواقع، كان انتخاب أمين الجميل فاتحة لصراع بين تمرز والحريري. الجميّل عيّن تمرز في شركة إنترا للاستثمار، الذراع الاستثمارية الأقوى للدولة اللبنانية. كانت استراتيجية الجميل تقوم على فصل الشبكة المالية- المصرفية لحزب الكتائب عن تلك التابعة للقوات اللبنانية. وبالفعل بقيادة تمرز تمكّن الجميل من إيصال حليف الكتائب أنطوان شادر رئيساً لجمعية مصارف لبنان، فيما توسّعت شبكة المصارف التي تدور في فلك الجميّل وتمرز لتشمل ربع حجم القطاع مع حلول عام 1988. في المقابل كان رفيق الحريري يتوسّع في القطاع المصرفي بشكل متناغم مع أمين الجميّل حتى عام 1985. يومها حال تمرز بين الحريري وبين تملّك بنك «كريديه ليبانيه»، واشترى تمرز أغلب حصص المصرف المذكور، مستعيناً بحجّة حماية التفوّق المسيحي في القطاع المصرفي. وتحوّل رفيق الحريري إلى تهديد لهذا التفوّق ما دفع به إلى قطع علاقاته الاستثمارية بآل الجميل والكتائب، والاستعانة بوكلاء مسيحيين آخرين لضخّ رأس المال السعودي من خلالهم (مثل آل عودة الأرثوذوكس ونموّ مصرفهم الصغير على يدي الحريري).
لا يوجد دليل على التشابك بين القطاع المصرفي والطوائف كبنى مؤسساتية اقتصادية ودينية وثقافية، أوضح من صراع السيطرة على الحصّة الكبرى منه بين أمين الجميّل ورفيق الحريري


لا يوجد دليل على التشابك بين القطاع المصرفي والطوائف (كبنى مؤسساتية اقتصادية ودينية وثقافية)، أوضح من صراع السيطرة على الحصّة الكبرى منه بين أمين الجميّل ورفيق الحريري. القطاع هو درّة تاج منظومة الاقتصاد السياسي اللبناني. معركة فاز فيها رفيق الحريري كممثّل لرأس المال الغالب على ملكيات القطاع. فمسار القطاع الصعودي توقّف عام 1988. في حينه، كانت مجموعة عوامل أخذت مداها على صحّة القطاع والسيولة فيه، مثل استنزاف احتياطات المصرف المركزي بالعملات الأجنبية، خروج أموال منظمة التحرير من لبنان بعد الاجتياح، انهيار أسعار النفط في عام 1984، انفجار فقّاعة إقراض دول العالم الثالث. وفي شهر كانون الثاني من عام 1989، أي بعد خروج أمين الجميل من السلطة إلى المنفى (إثر خلافه مع القوات اللبنانية)، راسل حاكم مصرف لبنان في حينه (إدمون نعيم) المصارف المركزية حول العالم ليعلن أن بنك المشرق (المملوك من تمرز) يواجه مشكلة سيولة، وأنّ مصرف لبنان المركزي لن يضمن الودائع والمطلوبات الأجنبية في البنك. أدّى ذلك إلى انهيار شبكة تمرز - الجميّل المصرفية وانهيار MEBCO أيضاً، فيما وضع مصرف لبنان يده على «كريديه ليبانيه».
على الأثر أصبح القطاع كلّه مهدّداً بالانهيار. عندها تدخّل نعيم (بتعليمات أميركية) بحزمة Bail In ضخمة لتنقذ باقي المصارف (منها من كان يدور في فلك القوات اللبنانية)، بحسب حوراني. هكذا أنقذ مصرف لبنان، بتغطية من منظومة الاقتصاد السياسي اللبناني وامتدادتها الخارجية، المصارف التي كانت تحظى بتغطية من الطوائف المؤسّسة للقطاع؛ بينما كان خروج أمين الجميّل من دائرة رضى الطائفة سبباً لانهيار حصّته من القطاع ولم يحظ MEBCO بتغطية من طائفة مؤثرة في القطاع.
في المحصّلة، أدخلت الحرب اللبنانية لاعبين جدداً شركاء في الاحتكارات وفي القطاع المصرفي مع ممثلي الطوائف التقليديين. كذلك غيّرت نسب التمثيل الطائفي التاريخية في قطاعَي التجارة والمصارف. لكنّ الأهم كان التغيير البنيوي الذي أحدثته الحرب في منظومة الاقتصاد السياسي اللبناني، وهو تغيير نموذج الإنفاق الحكومي وما يعنيه هذا من تبعات على الدين العام.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام