زخرت الأشهر الممتدة من بدايات عام 2019 إلى شهر آب من العام الماضي 2020 بنقاشات حيوية ومشتعلة حول السياسات الاقتصادية التي أدّت إلى الأزمة، وحول تلك التي يجب أن تُتّبع للخروج منها. وشاركت في هذه النقاشات معظم القوى التي تؤلّف الطيف السياسي اللبناني، سواء كانت أحزاباً في السلطة أو خارجها أو شخصيات منغمسة في الشأن العام. وكما هو جليّ اليوم، هذه النقاشات لم تفضِ إلى أيّ نتيجة، حتى على مستوى بناء رأي عام مدرك للأزمة وطبيعتها ومآلاتها المحتملة. والسبب الرئيسي هو المسار العام الذي نشأت فيه هذه النقاشات، وهو مسار نيوليبرالي ترك بصماته عليها
أنجل بوليغان ــ المكسيك

أصبح شائعاً، عند الحديث عن النيوليبرالية، الاكتفاء باستحضار مجموعة من السياسات والإجراءات الاقتصادية المعروفة، ثم الحكم من خلال وجودها (أو عدمه) على نوعية المقترحات التي تشتمل عليها النقاشات والخطط. لكن النيوليبرالية ليست محصورة بمجموعة إجراءات سياسية اقتصادية واضحة المعالم، بل يمكن لروحيتها - كمنهج لفهم الحياة العامة والخاصة - أن تسيطر على أيّ سياق من دون أن تظهر معالم السياسات النيوليبرالية. هذا ما يحصل في لبنان.
نقاشات السنتين الأخيرتين حول الأزمة والسياسات الاقتصادية، حفلت باقتراحات نيوليبرالية فجّة وباقتراحات مقابلة تعاكسها في المضمون. لكن السياق العام لهذا المسار لم يخرج عن روحية نيوليبرالية تتحكّم بعمل الدولة وبالاقتصاد اللبناني منذ وصول رفيق الحريري إلى السلطة. وكل الخطط والمقترحات المتكاملة، التي طُرحت في حيّز النقاش العام، لم تشذّ عن هذا المسار النيوليبرالي. وذلك أدّى إلى ما نراه اليوم من غياب رأي عام موحّد يشخّص مسبّبات الأزمة ومساراتها المستقبلية بشكل واضح. وحتى أضعف الإيمان لم يحصل، أي انقسام الرأي العام إلى كتلتين واضحتي المعالم- تنقسمان حول مصير منظومة الاقتصاد السياسي اللبناني. كلّ ما نراه هو انقسام شعبيّ حول أيّ تفصيل من تفاصيل الأزمة يُفرض راهناً، ثم ما تلبث النقاشات أن تختفي. لنفهم هذا السياق وتشبّعه بالروح النيوليبرالية، لا بدّ بداية من أن نسلّم بأن العمل الاقتصادي فعل سياسيّ بحت، ولا يمكن فصله عن البنى السياسية والاجتماعية في الكيان. بالإضافة إلى هذا يجب أن نستعرض النيوليبرالية كمنهج، اختطّه فريديرتش فون هايك، لا مجرّد سياسات وإجراءات.

المجال الأصغر: الدولة
حتى اليوم، لا يزال النقاش في لبنان يتجنّب الخوض في تحليل شامل لمنظومة الاقتصاد السياسي اللبناني. فجلّ النقاشات والطروحات تتمحور حول فشل أُطر الدولة في إدارة الاقتصاد وسوء تعامل الحكومات مع التحدّيات المتتالية. ويتم التركيز بشكل أساسي على الفترة الممتدة منذ اتفاق الطائف إلى اليوم. وهذا التجاهل للبنى الاجتماعية وسلخ البنى السياسية عنها وحصر المآلات الاقتصادية بأطر الدولة هو من الأسس التي بنى عليها هايك، وتالياً من صلب المنهج النيوليبرالي. وعملياً يرفض هايك الاعتراف بشرعية المباني الاجتماعية «السوسيولوجية» وتأثيرها على الحيّز العام. وكذلك يصنّف دور السكان المعنيين «بالسلبية التاريخية»، أي أنّهم ككتلة غير مؤثرة على مسار الأمور في الأطر السياسية للدولة، وتالياً في السوق. فالآراء الذاتية (عكس الموضوعية) مرفوضة بالنسبة إلى هايك، والحقيقة واحدة لا تتجزّأ، وتالياً كل ما يمكن أن يكون آراء متضادّة تتبناها مجموعات اجتماعية مختلفة غير ذات تأثير. لذا، فإن التغيير الحقيقي لا يمكن أن يحصل إلا من خلال الدفع من قبل الحكومات والأطر السياسية للدولة. لماذا؟ لأن هذه الأطر تمثل مجموعات ضغط وقوى صاحبة مصالح، تنتج عن تطور السوق وعمله، فتصبح السياسة عبارة عن سوق للأصوات، وميدان منافسة على المصالح والامتيازات بين الفئات الاجتماعية ذات الحظوة في السوق. ولأن السياسة تصبح بالتحديد سوقاً تتحكم فيه المصلحة الذاتية، لا يمكن للنظام السياسي أن يعتمد على «خير» الرجال، ولكن فقط على «صلاح» النظام. هذا يعني أن هايك يقلّص العمل السياسي إلى صراع على المصالح بين مجموعة نخب يفرزها السوق في لعبة صفرية، لذا نشأت الدولة وأنظمتها لتكون المنظّم الصالح لعلمية تناتش الحصص. وتكمن المحصّلة، في أن أي فشل للعملية السياسية، هو نتيجة لفشل النخب التي تشكّل الحكومات وأطر الدولة. وهذا التنظير شبيه إلى حدّ التطابق للتركيز في النقاشات اللبنانية حول الحكومات والنخب الحاكمة كسبب رئيسي لانهيار الاقتصاد في لبنان، وكأن هذه الأطر هي نتيجة تطور دارويني نشأ بسبب التفاعلات بين القوى المهيمنة في السوق اللبناني. والسوق بالمفهوم النيوليبرالي، هو الإطار الأوسع الذي تنتمي إليه العملية السياسية.
المسار الحالي للنقاشات والطروحات لا يخدم ضرورة بناء رأي عام صلب وفاعل في مسار الأزمة اللبنانية. فالتمحيص في النقاشات التي دارت في السنتين الأخيرتين، يُظهر أن أغلبيتها الساحقة ذات شكل أو مضمون نيوليبراليين. لا بدّ أن تكون نقطة بداية أي طرح متكامل يُقدّم هو الانطلاق من أن القرار الاقتصادي هو قرار سياسي بحت


السوق: بيئة التطور الكبيرة
في هذه النقطة بالذات يمكن أن نرى انعكاس الروح النيوليبرالية على النقاشات التي طبعت مسار الأزمة اللبنانية. فإلى اليوم لا تزال هذه النقاشات تتمحور حول السوق على أساس أن آلياته هي انعكاس تامّ للصراعات بين القوى المتنفّذة فيه، وأنّه بذاته محور الأزمة والانهيار. حتى أن الكثير من القوى والعناصر «الراديكالية»، التي طرحت رؤى وتصورات اقتصادية، تعزل الاقتصاد (أو السوق بحسب النيوليبرالية) عن البنى الاجتماعية اللبنانية. فجلّ النقاشات اليوم تعامل الجماعات والأفراد المنتمين إليها كقوى سلبية - سابقاً أو في المستقبل - غير قادرة على التأثير المباشر. وأبلغ تعبير عن هذا، القول إن كل الرؤى التي قُدّمت بشكل جدّي إلى الآن تتعامل مع الاقتصاد كمجال نخبويّ، لا يمكن ممارسة العمل الفاعل ضمن أطره من دون حيازة المعرفة اللازمة. وحتى المعارف التي تقدمها النقاشات إلى الآن كلّها تأتي بمفعول رجعي، أي إنّها تأتي ضمن تفسير وشرح ما تم رصده من تفاصيل الأزمة، بينما لا نرى إلى الآن طروحات جديّة تقدّم رؤى تستند إلى معارف منهجية. وهذا أحد الانعكاسات الجليّة للروح النيوليبرالية، فبالنسبة إلى هايك، السوق هو عملية اكتشاف للمعارف عبر مجموعة من المؤسسات التي تعمل كوسيلة لنشر المعرفة. بمعنى آخر الأسواق هي عمليات تكوين ونشر المعرفة، عن طريق إرسال الإشارات من خلال المؤشّرات التي نكتشفها. وباستعمال نظام توصيل المعلومات هذا، على المجتمع أن يتكيّف بسرعة مع التغيرات في الظروف الخاصة بالزمان والمكان. ولا يمكن الهروب من هذا النظام التطوري، فهو ليس نتاج عقل بشري واحد ولا يعكس تصميماً واعياً، بل هو نتاج عملية تطورية يتم فيها اختيار المؤسسات الاجتماعية المثلى من قبل البيئة استجابة لمجموعة من الإشارات. وهذا التطوّر يكون عبر اتفاقيات بين القوى المهيمنة، ليس نتيجة تصميم ذكي منها، بل نتيجة البيئة المحيطة. وعليه، الأقدر على ممارسة العمل الاقتصادي الفاعل هم من يتمكّنون من التقاط المعلومات التي يوصلها السوق (أي من يملكون المعرفة التقنية لاستخراج المؤشرات الرقمية) وفي الوقت نفسه يكونون مستعدين للتكيّف مع هذه المؤشرات. وهذا التوصيف هو ما يغرق به الحيّز العام اللبناني، فاختزال الاقتصاد بكليّته على أنّه مجموعة مؤشّرات تُبنى على أساسها سياسات تكيّفية هو عين النيوليبرالية. وحينما كان يجب أن تدخل على هذه النقاشات رؤى تقدّم كليّات منهجية واضحة تبني تصوّرات كاملة لمنظومة اقتصاد سياسي فاعلة، اقتصرت كلّ الرؤى على الانطلاق من تحليل مؤشرات العقود الثلاثة الماضية كمدخل أوحد لمعالجة الأزمة؛ وهذا بحدّ ذاته فعل تكيّفيّ مع ما أفرزته بيئة السوق.

النخب وأسهل المعارف
السبب الرئيسي خلف غرق النقاشات، وتالياً إغراق الرأي العام، في سياقات نيوليبرالية، يكمن في نوع النخب المعنية بالاقتصاد الذي تنتجه منظومة الاقتصاد السياسي اللبناني. فهذه النخب بطبيعتها تكنوقراطية خرّيجة جامعات، إمّا غربية أو محلّية غربية الهوى، وتجد في تصوّر فون هايك القطعي للعالم (قطعية معرفية) ملاذاً آمناً. فالأخير قدّم نظرية عن المعرفة تتفق مع التحوّل المعرفي المعاصر، في حينه، نظرية يقينيّة حاسمة تقلّل التعقيدات التي قد تواجه من يريد تفسير العالم من حوله. هايك يرى أن فهم الإنسان لا يمكن أن يتمّ إلّا من خلال تحليل التصرفات الفردية. وهذه تتراكم بشكل مشترك لتبني المؤسّسات التي يقوم عليها المجتمع. وعليه فإن تصرفات الجماعات ليست سوى تفاعل بين مجموعة متنوعة من الأفراد. لذا فإن تفسير هذه التصرفات الفردية لن يتمّ إلّا عبر قراءة تشتمل على انحياز القارئ وتصوّراته المسبقة. لذلك فإن تطوير نظرية تقوم على الملاحظات التجريبية هو حماقة. وكل ما يمكننا القيام به هو تطوير سلسلة من الافتراضات التي تتناسب مع نمط منطقي ومتماسك. وعملياً ما يقدّمه هايك هو نموذج معرفي تطوري يتعامل مع عملية تكيّف مستمر مع أحداث غير متوقعة، حيث لا نحاول أن نقوم بتنبؤ عقلاني للتطورات المستقبلية أو التحكم بها. كل ما يمكن للنموذج فعله هو إظهار كيف تحمل الهياكل المعقدة داخل نفسها وسيلة تصحيح تؤدي إلى مزيد من الخطوات التطورية. وهذا اليقين الاختزالي للمعرفة يناسب النخب الباحثة عن توظيف وإسقاط معارفها على مجالات أشمل وأوسع من حدود اختصاصاتها، بما يضمن تحييد الجزء الأكبر من المجتمع عن بناء وتنفيذ التصورات.

نيوليبرالية مستترة
في المحصّلة، المسار الحالي للنقاشات والطروحات لا يخدم ضرورة بناء رأي عام صلب وفاعل في مسار الأزمة اللبنانية. فالتمحيص في النقاشات التي دارت في السنتين الأخيرتين، يظهر أن أغلبيتها الساحقة ذات شكل أو مضمون نيوليبراليين. لا بد أن تكون نقطة بداية أي طرح متكامل يُقدّم هو الانطلاق من أن القرار الاقتصادي هو قرار سياسي بحت، مع ما يعنيه هذا من أن المجال الاقتصادي لا ينفصل عن المجال السياسي وهو مكوّن رئيسي وأساسي فيه، وليس العكس. أما عدم الاعتراف بدور البنى الاجتماعية في تكوين منظومة الاقتصاد السياسي فهو بوّابة أكيدة لتحوّل أي طرح إلى طرح نيوليبرالي، حتى وإن لم يكن في بال أصحابه أن يكون كذلك. فتجاهل دور الجماعات، السابق أو المستقبلي، في صياغة المنظومة لن يؤدي إلى تشكيل رأي عام حقيقي، وسيحصر الفاعلية الاقتصادية بأصحاب المعرفة. تشكيل رأي عام حقيقي ووازن ضرورة فعلية للانتقال إلى منظومة اقتصاد سياسي جديدة، تبتعد عن السياسات النيوليبرالية، بالإضافة إلى تصحيح مكامن الخلل الأخرى (ولكن هذا موضوع نقاش ليوم آخر). أما الركون إلى الطروحات التي أُغرق بها الحيز العام فلن تكون نتيجته إلّا ضمان هيمنة النيوليبرالية على أي منظومة اقتصاد سياسي جديدة أو مستنسخة. اليوم، العودة إلى الأساسيات والمراجعة ضروريتان للقوى التي تعلن نيتها تغيير الاقتصاد السياسي، وذلك لأن الروح النيوليبرالية بطبيعتها جذّابة للنخب.

المصادر المستعملة في هذه المقالة:
«هربرت سبنسر، فريدريك هايك: نظريتان متوازيتان» - إنزو دي نوتشيو
«سياسة المعرفة: هايك والتكنوقراطية» - ميغيل سينتينو

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام