رغم الضرر الفادح الذي ألحقه اليوم مصرف لبنان والمصارف الخاصة بمعيشة اللبنانيين، ما زال حاكم مصرف لبنان وأصحاب المصارف ومديرو الصف الأول ـ أقلّه حتى كتابة هذه السطور ـ بمنأى من المحاسبة، وما زالوا يستأثرون، الى جانب شركائهم من الطبقة الحاكمة، بالثروة، وما زالت أجهزة الدولة القمعية تؤمّن لهم ولممتلكاتهم الحماية. لكن سطوة المصارف تتعدى ذلك لتشمل البنية المؤسّسية الناظمة للقطاع المالي بمعزل عن الأشخاص، وتشمل أيضاً الأيديولوجية السائدة عن الاقتصاد السياسي عمومًا، كعلاقة الدولة بالقطاع المصرفي والاقتصاد «الحرّ»، في مقابل الاقتصاد الموجَّه. لذا، لا يمكن إحداث تغيير جذري في بنية القطاع، ما لم يتم فهم جذور تشكيلها تاريخياً، وعلى رأسها فترة تأسيس جمعية المصارف ومصرف لبنان بعيد الاستقلال، وما دار حينها من صراع حول مشروع النقد والتسليف، في الخفاء والعلن، وذلك بحسب الوثائق التاريخية، بما فيها الأرشيف الأميركي. هذا ما يتناوله بالتفصيل كتاب دولة المصارف: تاريخ لبنان المالي، الصادر حديثاً عن مركز دراسات الوحدة العربية (٢٠٢١). «الأخبار» تنشر مقتطفاً من فصله الثالث على جزأين، وبتصرّف
كان قانون النقد والتسليف الذي أُقرّ عام 1963 مفترق تحوّل في تاريخ تنظيم العمل المصرفيّ في لبنان؛ فلأول مرّة، عوملت المصارف على أنها، بخلاف بقية الشركات، تخضع لقانون خاص، لا لقوانين التجارة. فبموجب القانون الجديد، حُظِر على المؤسسات المصرفيّة أن تمارس أي نوع من الأعمال التجاريّة، أو الزراعيّة، أو الصناعيّة. وكان يتعيّن أن تكون ملكيتها وفق نظم الشركات، وأن يدفع المصرف جزءاً من رأس المال، لا يقل عن 3 ملايين ليرة لبنانيّة. وكان يعني تخلّفُ المصرف عن التزام بنود القانون، أو نظام المصرف الخاص نفسه، احتمال شطبه من قائمة المصارف التي يوافق عليها المصرف المركزيّ، الذي أُقِرّ تأسيسه بالقانون ذاته. لم يكن اعتراض بارونات المصارف على هذه النُّظُم الأساسيّة ذا قيمة؛ فهواجسهم كانت في منحى آخر. إذ كان مصرف لبنان، خلافاً لبنك سوريا ولبنان، يملك وفق مسوّدة قانون النقد والتسليف، أن يعمل مصرفاً للمصارف، لا أن يكون مجرد دائرة تُصدِر أوراق النقد. وعملياً، كان هذا يعني تنظيم قطاع المصارف من خلال ثلاث أدوات: جمع إحصاءات العمل المصرفيّ ونشرها، وتصنيف المصارف، وشروط نسبة الاحتياطي النقدي. وقد قاومت جمعيّة مصارف لبنان الأدوات الثلاث جميعاً.
…بذل مجلس النقد والتسليف جهوداً كبيرة لضمان ألا تنتهِك السلطةُ المقترَح منحها للمصرف المركزيّ على المصارف، قانونَ السريّة المصرفيّة الصادر عام 1956. وقد أُعطي قسم الإشراف المكلَّف جمع الإحصاءات، وضعاً مستقلاً، وكان على موظفيه أن يُقسموا على الكتمان، حتى على موظفي المصرف المركزيّ الآخرين. إلا أن هذه الإجراءات فشلت في إرضاء منتقدي النُّظُم المقترَحة في القطاع المصرفيّ، وقد اعترض المصرفيون على اعتبار أن قانون السرية يتعلّق بامتياز مؤسساتهم، أكثر مما يتعلّق بسريّة زبائنهم. ففي أواخر عام 1962، ولدى إنجاز مشروع قانون النقد والتسليف، دعا مجلسُ النقد والتسليف جمعيّةَ مصارف لبنان ومجلس التصميم والإنماء الاقتصادي، إلى التعقيب عليه. فكان ردّ مجلس التخطيط تجميلياً. أما رد جمعيّة المصارف فكان جوهرياً أكثر، ومضى أبعد من مسألة جمع الداتا. إحساساً بالحاجة الماسّة إلى صوغ موقف جماعي في شأن القانون المقترَح، اجتمع مجلس الجمعيّة عدداً قياسياً من الاجتماعات، بلغ ثلاثة عشر، وعقد أربع جمعيات عموميّة، واجتماعين استثنائيين للجمعيّة العموميّة. وكان اعتراض أعضاء جمعيّة المصارف على المبدأ نفسه لتنظيم أي جهة حكوميّة لمهنة العمل المصرفيّ، بما فيها المصرف المركزيّ. فهذا المصرف، كما قالوا، يجب ألا يكون مصرف المصارف، بل مصرفاً لإصدار العملة فقط.
كان تمييز جمعيّة المصارف إصدار العملة من تنظيم العمل المصرفيّ، يتحجّج بمنطق عدم التدخُّل، الذي ارتُئِي أنه مسألة أمن وازدهار وطنيّين. وفي مذكرة أولى إلى رئيس الوزراء رشيد كرامي في 12 شباط/فبراير عام 1963، اتخذت الجمعيّة موقفاً مفاده أن «إصدار العملة هو رمز لسيادة الدولة، وليس المصرف المركزيّ سوى مؤسسة حكوميّة، بينما تنظيم العمل المصرفيّ يتعلّق بمهنة حرّة، وهو إذن شأن المبادرة الفرديّة». ورغم اعتراف الجمعيّة الظاهري بالحاجة إلى تنظيم المهنة، إلا أنها حاولت كذلك أن تؤخّر إصدار التشريع الذي ينظم العمل المصرفيّ، وزعمت أن الأولوية ينبغي أن تُمنَح لاستبدال بنك سوريا ولبنان، بوصفه مصرفَ إصدار. وأوصت بأن تُقسَم مسودة القانون إلى قسمين تشريعيّين منفصلين: الأول، الأكثر إلحاحاً، يتعلّق بالعملة والمصرف المركزيّ، بينما يتناول الثاني تنظيم العمل المصرفيّ. شدّدت مذكرة الجمعيّة أيضاً على أوليّة قانون سريّة المصارف لعام 1956، كونه مبدأً يحكم العمل المصرفيّ في لبنان، ومصدراً لازدهاره واستقراره في مواجهة هروب رؤوس الأموال، خلال الأزمات السياسيّة.
نجحت جمعية المصارف في إلغاء بنود تنص على التصنيف الإلزامي للمصارف، بناءً على سياستها الائتمانيّة


رفضت الحكومة أن تقسم القانون قسمين، لكنها أجرت بعض التعديلات التي رأت جمعيّة المصارف أنها «أساسيّة،» رغم كونها غير ملائمة، لجهة حماية سريّة العمل المصرفيّ. فأرسلت الجمعية رسالة ثانية إلى كرامي، في 12 آذار 1963، رأى فيها رئيس الجمعيّة بيار إدّه أن آلية الإشراف الواردة في مسودة القانون كانت على تناقض مباشر مع قانون سريّة المصارف عام 1956. ووصف هذه السريّة المصرفيّة بأنها واجب مفروض على المصارف لمصلحة الزبائن، أكثر مما هي امتياز للمصارف. فالسريّة المصرفيّة هي في مصلحة الجمهور عموماً، كما قال، وليست مجرد مهنة يمتهنها العمل المصرفيّ. لقد كانت «ميزة للبنان» ـ والضمانة القصوى لبقاء الاقتصاد الوطني ـ وأي عبث بها قد يكون كارثة. وكتب إدّه يقول لكرامي:
«القانون [قانون السريّة المصرفيّة] هو الذي أصلح التنظيم الاقتصاديّ القائم في لبنان وهو يشكل أحد أعمدة بنيته الأساسيّة.
إنّ آثار قانون السريّة المصرفيّة في الواقع محسوسة خارج حدود لبنان، وتصل حدودها إلى جميع الذين يثقون بقوانيننا، وبقائها واستقرارها. وما دام الأمر كذلك، فإن المسّ بحقوق الذين وثقوا بنا غير ممكن، ولا يجوز التفكير فيه. لقد عزّزت هذه الثقة مواردنا الاقتصاديّة، وأسهمت في نمونا وازدهارنا.
لذلك، ترى جمعيّة مصارف لبنان، أن أي محاولة، حتى لو كانت غير مباشرة أو منفصلة، للمسّ بقانون السريّة المصرفيّة هي محاولة لتغيير أساس نظامنا الاقتصاديّ، وأساس ثروتنا في المستقبل، وأساس رفاه شعبنا».
اعترف إدّه بأن «نوعاً ما من الرقابة ضروريٌّ ومفيد» لكنه قال، إن البند الأهم هو ضمان أن أسماء الأشخاص المحميّين بقانون السريّة المصرفيّة، أي المودِعين، لن تُذكَر أبداً. كذلك حثّ رئيسُ جمعيّة مصارف لبنان الحكومةَ على تشريع دور للجمعيّة في عملية تنفيذ النظام، أسوةً بـ«عدد كبير من البلدان». واقترح أن يعقد مجلس النقد والتسليف والجمعيّة سلسلة اجتماعات قبل وضع مسوّدة القانون أمام مجلس الوزراء للتصديق عليه فكان له ما طلب. بدعوة من الرئيس شهاب، أقيمت سلسلة اجتماعات ماراتونيّة بين المجلس والجمعيّة في آذار ونيسان عام 1963. وبعد أخذ وردّ، كسبت الجمعيّة الجولة؛ فبحسب الترتيب الذي اتُّفق عليه أخيراً سُمِح للمصارف الخاصّة أن تستعمل أرقاماً، بدلًا من الأسماء، لتنظيم حسابات الزبائن وجدولتها. ومُنِع مفتّشو المصرف المركزيّ من الحصول على معلومات المصارف، إلا من خلال مديريها، وعبر استمارات موحّدة (Standardized Forms). كذلك مُنع المفتشون من حق طلب أسماء الزبائن في ميزان حساباتهم، إلا إذا كان الميزان هو ميزان تسليف. وكان يجب أيضاً على موظفي المصرف المركزيّ أن يُقسِموا على السريّة، في ما يخص المعلومات عن الداتا المجمّعة للمؤسسات المصرفيّة، لا لزبائنها فقط. وشُدِّدَت عقوبات الموظفين الذين ينتهكون السريّة المصرفيّة، عما كانت في قانون السريّة المصرفيّة عام 1956.
وأحرزت جمعيّة مصارف لبنان انتصاراً مهماً آخر يتعلّق بالأداة الثانية للتنظيم المصرفيّ؛ فقد نجحت في إلغاء بنود تنص على التصنيف الإلزامي للمصارف، بناءً على سياستها الائتمانيّة. كانت مسوّدة القانون تسعى إلى تصنيف المصارف، بحسب ما إذا كانت تمنح قروضاً قصيرة أو متوسطة أو طويلة الآجال. كان يمكن لهذا التصنيف أن يسهم في المزيد من التخصّص في سوق المال، وفي القدرة على تحديد وتشجيع مصارف التسليف المتوسط والبعيد الأجل، المطلوب للتنمية الاقتصاديّة. أثناء التفاوض بين المجلس والجمعيّة، قالت الأخيرة إن مثل هذا التصنيف غير واقعي. وأشار مسؤولو الجمعيّة إلى أن قانون النقد والتسليف، لا يتضمّن موادّ تنظّم عمليات السوق المالية. وكان يمكن لذلك أن يسمح للمصارف أن تمارس أنواعاً محدّدة من الأعمال المصرفيّة، بحسب التصنيف. نتيجة لذلك، خفّف مجلس النقد والتسليف من قوة التشريع. وحُصِرَت الفئتان في مصارف «متخصّصة» وأخرى «تجاريّة». لكنّ مسؤولي الجمعيّة ادّعوا أن هذا التصنيف في فئتين، لا ينسجم مع حاجات لبنان التنمويّة، وطالبوا بأن تضع وزارة المالية معايير أوضح لكيفية عمل هذا التصنيف، وجدّدوا رفضهم الشامل لأي نوع من التصنيف. أُخذ اعتراضهم كلياً في الحسبان؛ إذ إن المشروع النهائي لقانون النقد والتسليف لم يأتِ على ذكر تصنيف المصارف. وهكذا أُضيعت فرصة تاريخيّة لتوفير بيئة أكثر حفزاً للمبادرة الخلّاقة، وهي بيئة أسف لغيابها يوسف صايغ المذكور آنفاً.
أما الأداة المهمّة الثالثة التي تُمكّن المصرف المركزيّ من التنظيم المباشر للمصارف، فهي شروط نسبة الاحتياطي النقدي. في هذا الأمر لم تحرز جمعيّة مصارف لبنان انتصاراً تاماً. وكان اقتصاديو الجامعة الأميركيّة في بيروت، كسليم الحص، يرون أن تغيير شروط الاحتياطي، هو أداة حيويّة لمراقبة الحركة الائتمانيّة (Credit Control) في البلدان النامية، في غياب السوق المالية الناضجة. وخصَّ قانون النقد والتسليف، في صيغته النهائيّة، المصرف المركزيّ، بسلطة فرض حد أدنى من نسبة الاحتياطي على المصارف الخاصة، لا يتجاوز 25% من الودائع تحت الطلب، و15% من الودائع الأخرى. وفرض القانون عقوبات ماليّة على المصارف المخالفة. غير أن الجمعيّة وجدت أن السقف عالٍ جداً، واقترحت أن تكون النسب 10% و5% على التوالي. لم تكن الجمعيّة المعارِض الوحيد لاعتماد هاتين النسبتين؛ فرفيق نجا، وزير الاقتصاد الوطني، عارض الأمر علناً، وقال إن إلزام المصارف بتجميد هذه النسب من الودائع، يرفع فوائد القروض، وتالياً أسعار السلع. إلا أن كون هاتين النسبتين هما مجرد سقفين، وأن المصارف أُمهِلَت ما لا يقل عن ثلاثين يوماً لتعديل احتياطياتها، وفقاً للنسبتين المفروضتين من الحكومة، لَطّفا حدّة الاعتراض. وقبل أن يبدأ مصرف لبنان العمل، استبعد مصدرٌ من داخل الجمعيّة لمجلة المصارف أن تزيد النسبة الحالية المفروضة على 3% أو 4%. وما إن بدأ مصرف لبنان العمل، حتى زايد المصرف المركزي على آمال جمعيّة مصارف لبنان؛ فلم تُفرَض شروط احتياطي حتى عام 1969، بعد أزمة إنترا، وعندئذ بلغت النسبة المفروضة 2.5% فقط. باختصار، تمكنت جمعيّة مصارف لبنان من إفراغ المواد التنظيميّة للعمل المصرفيّ في قانون النقد والتسليف، من عدة بنود رئيسة تنظم القطاع. وجسّد نجاحها النفوذ المتعاظم للمصرفيّين.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام