نشرت مبادرة الإصلاح العربي ورقة بحثية أعدّها أربعة مؤلفون * هم: ألان بيفاني، ليديا أسود، كريم ضاهر، اسحاق ديوان، بعنوان: «ما هي السياسات الضريبية التي ينبغي اعتمادها في لبنان؟ دروس من الماضي لمواجهة تحديات المستقبل». ترى الورقة أن النظام الضريبي الحالي في لبنان يتّسم بانعدام العدالة ما أتاح لأصحاب المداخيل الأكبر التهرّب من تسديد الضريبة، وهو غير فعال ما انعكس تراجعاً في الإيرادات. هو نظام عقيم بقاعدته الضيّقة وثغراته الكبيرة، لذا يحتاج إلى إصلاحات كبرى تهدف إلى أمرين: زيادة الإيرادات الضريبية، وبناء مجتمع أكثر شمولية وإنتاجية. من أجل ذلك يجب إعادة هيكلة النظام الضريبي ليكون أكثر عدلاً، وتعزيزاً للامتثال الضريبي، وتوسيعاً للمطرح الضريبي، وتعديلاً للإعفاءات الحالية التي تخدم الدوافع الريعية بأخرى تحقق المنفعة العامة.سيتم نشر مقتطفات من هذه الورقة على مرحلتين: الأولى عن التعديلات المقترحة على النظام الضريبي، والثانية عن إعادة النظر بالإعفاءات الضريبية لتصبح هادفة نحو بناء اقتصاد ومجتمع أفضل


يعدّ إصلاح النظام الضريبي موضوعاً قديماً في لبنان، فقد كان هناك العديد من المقترحات، ولكنها قوبلت بمعارضة قوية من النخب السياسية والاقتصادية. يتمثّل اقتراحنا الرئيسي في إجراء إصلاح عميق لنظام ضريبة الدخل الشخصي من خلال الانتقال إلى نظام ضريبة الدخل العام الذي يفرض ضريبة موحّدة على جميع مصادر الدخل («إجمالي الإيرادات»)، وليس بشكل منفصل كما هو الحال في النظام الحالي، والذي يحتوي على مستوى أعلى من تصاعدية معدلات الضرائب كما نبحث أيضاً في كيفية إعادة ترتيب الإعفاءات بطرق تؤدي إلى تعزيز الصالح العام، وكيفية توسيع الوعاء الضريبي والتصدي للاحتيال والتهرب الضريبيين

6% - 8%

هي نسبة الإيرادات من الناتج المحلي الإجمالي التي يمكن زيادتها. فإلى جانب كون «ضرائب الدخل والإرث عديمة الجدوى على نحو بالغ، هناك فجوة امتثال في ضريبة القيمة المضافة تُقدّر بنحو 3.3% من الناتج المحلي الإجمالي، فيما يمكن أن يؤدي تشديد الرقابة على الحدود إلى زيادة إيرادات ضريبة القيمة المضافة والجمارك بنسبة 3 إلى 4% من الناتج المحلي الإجمالي»


◄ فرض الضريبة الموحّدة على الدخل
من أجل تطبيق مبدأ فرض الضرائب التصاعدية، من المهم الانتقال من النظام المُجزَّأ الحالي الذي يعالج الأنواع المختلفة من المداخيل معالجة منفصلة (ما يسمى بنظام الضرائب النوعية)، إلى تطبيق نظام «الضريبة الموحدة على الدخل»، الذي يُدرج جميع إيرادات الأفراد الخاضعة للضريبة في وعاء ضريبي موحد: بدءاً من الرواتب والأجور، ومروراً بالأرباح الرأسمالية، وأرباح الأسهم، والفوائد، والمداخيل المتأتية من إيرادات الأملاك المبنية والإيرادات التجارية والمهنية، ووصولاً إلى الأرباح الرأسمالية التي يجنيها سكان البلاد [لبنان] من خارج لبنان. ينطوي هذا الإصلاح على جهود طموحة في التنسيق الضريبي، تُبذل عبر إعادة تجميع الأحكام الضريبية المتفاوتة ووضعها في قانون عام موحدّ للضرائب.
في إطار تلك الخطة، يرمي مقترحنا إلى زيادة معدل الضريبة الهامشية على كامل الإيرادات حتى 30-40% على الأقل على أصحاب الدخل الأكثر ارتفاعاً. وتظل مثل هذه المعدلات أقل من المعدلات الدولية، ولا ينبغي أن تثبط اللبنانيين ذوي المهارات العالية عن البقاء في لبنان والعمل فيه.

ماذا عن ضرائب الشركات؟
تعدّ الضرائب على دخل الشركات منخفضة في لبنان، فهي بمعدل 17% حالياً. وقد انخفضت معدلات ضرائب الشركات عالمياً، وتبلغ الآن نحو 20% في العديد من البلاد نظراً للمنافسة الضريبية. ساهم ذلك في تآكل القاعدة الضريبية للشركات والاتجاه المتزايد لعدم المساواة في الدخل في العديد من مناطق العالم.
هناك جهد عالميّ مستمر لوضع حدّ أدنى لضريبة الشركات في حدود 20٪ - 25٪. لكن نظراً إلى أن الهدف الرئيسي في المدى المتوسط في لبنان سيكون تعزيز استثمارات القطاع الخاص، فينبغي أن يكون توقيت زيادة الضرائب على الشركات والأعمال التجارية مدروس بعناية. في نفس الوقت، هناك حاجة في بداية الأمر إلى وجود تشريع ضريبي ملائم يعزّز أنواعاً خاصة من الاستثمارات، علماً بأنه يقتضي أن تُدار هذه الأحكام من أجل تحسين الأداء، لا أن تكون مدفوعة بالسعي وراء تحقيق الريع (انظر القسم التالي).

بمجرد أن يستقر الاقتصاد ويجري تقدير الخسائر تقديراً ملائماً، ينبغي أن توضع في الحسبان ضريبة تضامنية على الثروة، (على سبيل المثال بمعدل 0.5%) على أن تفرض على الأسر التي تتجاوز ثروتها عتبةً محددةً (5 ملايين دولار أميركي مثلاً)


◄ ضرائب الأملاك المبنيّة
تعدّ معدلات الضرائب على إيرادات الأملاك المبنية (لا سيما الإيجارات) تصاعدية (من 4% إلى 14%)، ولكنها دون المعدلات الضريبية المطبّقة على الرواتب والأجور. ريثما تدمج إيرادات الرواتب والأجور بسائر الإيرادات على الدخل من خلال نظام الضريبة الموحدة على الدخل، ثمة حاجة إلى إحداث تقارب بين هذه المعدلات الضريبية. وفي هذا السياق، نقترح أيضاً إخضاع الأملاك العينية الخالية والشاغرة للضريبة من أجل التحفيز على استخدامها في أنشطة إنتاجية، مثلما يُتَّبع في بلاد عديدة.

◄ الضرائب على رأس المال
في حالة تأجيل الانتقال إلى نظام الضريبة الموحدة على الدخل، نقترح في غضون ذلك زيادة المعدلات الضريبية على مختلف أجزاء الدخل، ولا سيما تلك التي تفرض ضريبة على عائدات رأس المال، وهكذا تصبح متجانسة مع فرض الضرائب على الرواتب والأجور، على صعيد كل من المعدلات والتصاعدية. ونقترح على وجه الخصوص الانتقال بسرعة إلى فرض ضرائب على إيجار الممتلكات والفوائد وإيرادات توزيع الأرباح بمستويات مماثلة لما يُدفع من دخل الأجراء. فقد يساعد هذا -مع مرور الوقت- على رد الاعتبار إلى قيمة العمل الجاد مقارنةً بإيرادات الإيجار.

◄ ضريبة التركات
يعدّ لبنان استثناءً في المنطقة لجهة إعماله بضريبة التركات ورسوم الانتقال، لكن الضرائب لا تُحصّل بطريقة فعّالة. يلزم إجراء مراجعة شاملة على قانون رسوم الانتقال (للإرث والهبات والأوقاف)، لمعالجة الثغرات الهائلة التي تسمح للأفراد، عبر آليات مختلفة، بدفع معدلات فعلية منخفضة، بما في ذلك المركبات المُعفاة من الضرائب والهبات المُقنَّعة والمستترة.

◄ ماذا عن ضريبة الثروة؟
كانت هناك مؤخّراً دعوات واسعة النطاق لفرض ضريبة على الثروة، في ظل ما تشهده البلاد من مستوى مرتفع للغاية من عدم المساواة في توزيع الثروة. ثمة مقترحات لفرض ضريبة على الثروة تُدفع مرة واحدة في إطار برنامج استقرار يرمي إلى حل الأزمة المالية المصرفية، إضافة إلى جهود من أجل استعادة الثروات المتراكمة بطريقة غير شرعية. على المدى المتوسط، وبمجرد أن يستقر الاقتصاد ويجري تقدير الخسائر تقديراً ملائماً، ينبغي أن توضع في الحسبان ضريبة تضامنية على الثروة، (على سبيل المثال بمعدل 0.5%) على أن تفرض على الأسر التي تتجاوز ثروتها عتبةً محددةً (5 ملايين دولار أميركي مثلاً)، علاوة على ضرائب الدخل. يتمثّل المبرر الاقتصادي في تشجيع الأثرياء على تبديد ثرواتهم في الاستثمارات، إلى جانب تعزيز الإيرادات.

◄ إيرادات المجالس البلدية
نجد الآن أن الإيرادات التي تجنيها المجالس البلدية تأتي في معظمها من التحويلات المقدمة من الخزينة، بشكل حصص من مختلف الضرائب المُحصَّلة: نحو 10% من معظم الضرائب. على أقل تقدير، سيَحتاج نظام تقاسم الضرائب أن يتكيّف مع الإصلاحات المقترحة بفرض ضريبة موحدة على الدخل. فضلاً عن أنه سيكون من المهم إعادة النظر في صيغة التقاسم. فالمجالس البلدية تحصل على حصّة استناداً إلى عدد الأشخاص المسجلين في دوائرها الانتخابية. يفيد هذا المدن الكبرى، التي تحصل الآن على معظم الإيرادات بصرف النظر عن الاحتياجات الحقيقية، لكنه يضرّ المجالس البلدية الصغيرة التي يكون العديد من سكان دوائرها الانتخابية مسجلين في أماكن أخرى. إضافة إلى أنه في العديد من المجالس البلدية يجري خصم تكاليف إدارة النفايات مباشرة من حصة هذه المجالس، ما يترك لها موارد شحيحة للغاية. يمكن لبعض الضرائب، مثل ضرائب الأملاك المبنيّة، أن تُحصَّل مباشرة على المستوى المحلي للحد من الفساد وتخفيف اعتمادية المجالس البلدية على الحكومة المركزية (ويمكن أن تُعوَّض الخسائر التي ستتكبّدها الخزانة، عن طريق تقليل تحويلاتها إلى السلطات المحلية، بما يتوافق مع ذلك).

◄ الضريبة على القيمة المضافة
مقارنة مع باقي دول العالم، لا تُعتبر نسبة الضريبة على القيمة المضافة مرتفعة للغاية في لبنان، إذ تصل إلى 11%. غير أن نسبة الإيرادات الضريبية المتأتية من الضرائب التنازلية غير المباشرة تعدّ كبيرة. بيد أنه لن يكون هناك من مجال لزيادة معدل الضريبة على القيمة المضافة في السنوات القادمة بصورة معتدلة وموضوعية، إلا في سياق إعادة تنظيم شاملة للنظام الضريبي بطرقٍ تجعله أكثر تصاعدية، وبهدف جمع نحو 20% من الناتج المحلي الإجمالي من خلال الإيرادات الضريبية.

تعدّ معدلات الضرائب على إيرادات الأملاك المبنية (لا سيما الإيجارات) تصاعدية (من 4% إلى 14%)، ولكنها دون المعدلات الضريبية المطبّقة على الرواتب والأجور


◄ هموم الاغتراب
يُعَدّ كثير من المواطنين في لبنان دائمي الترحال، بما فيهم أصحاب الكفاءات العالية، فيعيشون ويعملون متنقّلين بين الوطن وبين دول الخليج أو أوروبا على وجه التحديد. فمن ضمن الأهداف المتوخاة والمزايا المهمة أن تُقدَّم إليهم حوافز للإقامة في لبنان ودفع الضرائب فيه، وبشكل أعمّ، لتوطين أنشطتهم الأساسية في لبنان (لا سيما في المجالات والخدمات الإبداعية والتقنية). في «نظام التكليف الإقليمي» الحالي، تعتمد طريقة تكليف المداخيل التي اكتسبها المقيمون في لبنان من أعمالهم وتوظيفاتهم في الخارج على طبيعة تلك المداخيل: فالإيرادات المالية (على «الأملاك المنقولة») تخضع للضريبة في محل إقامة المستفيد، والدخل المتأتي من أداء الخدمات ومن العقارات يخضع للضريبة حيث تؤدَّى هذه الخدمات وحيث تقع هذه الأملاك. ولذا فإن للمعدلات الضريبية على مداخيل المقيمين دائمي الترحال ورؤوس أموالهم دوراً في تحديد مكان إقامتهم. وبينما تبدأ الضرائب في الارتفاع في دول مجلس التعاون الخليجي، فإن الميزة الرئيسية التي يمكن أن يقدمها لبنان في المستقبل المنظور تتعلق بالظروف المعيشية الأفضل. ومقارنة بأوروبا، سيحتاج لبنان لأن يستمر في فرض ضرائب أكثر انخفاضاً (لكن هذا يترك مجالاً كبيراً لزيادة الأعباء الضريبية).

◄ التحديات الجديدة للتكنولوجيا الرقمية
يتّجه العالم نحو الرقمنة ما يمثل فرصة لمكافحة التهرب الضريبي؛ لكنه يخلق أيضاً مخاطر جديدة لجهة التهرب الضريبي، نظراً إلى أن نمو التجارة الإلكترونية والتحول الذي تشهده النماذج التجارية يخلقان منافسة غير عادلة بين الشركات المحلية والشركات الرقمية المتعددة الجنسيات (مثل شركات التقنية الخمس الكبرى، وأوبر، وإير بي إن بي). تتأثر بهذا كلٌ من الضرائب المباشرة وغير المباشرة؛ إذ إن قدرة الشركات متعددة الجنسيات على خلق أنظمة مؤسّسية معقدة واستخدام التسعير التحويلي لصالحها، تسمح لها أن تحول الأرباح إلى وجهات تكون نسبة الضرائب فيها منخفضة. والمبادرات العالمية الرئيسية الرامية إلى التصدي لتقلص الوعاء الضريبي وتحويل الأرباح (BEPS) هي جهود تقودها مجموعة العشرين وتحتضنها منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، وتقترح بأن تُفرض الضرائب على الأرباح حيث تُؤدَّى الأنشطة الاقتصادية التي تولدّها. ومع أنه ينبغي على لبنان الانضمام إلى هذه المبادرة، يمكنه راهناً أن يمضي قدماً بطريقة مستقلة بذاتها لكنها في الوقت ذاته منسقة (مثل الهند والمملكة المتحدة)، عن طريق الجمع بين العوامل الجغرافية التشغيلية وتلك الخاصة بالمستهلكين (على سبيل المثال، العمليات الخاصة بشركات إير بي إن بي وأوبر وأمازون).

* ألان بيفاني: مدير عام وزارة المالية السابق (لبنان)، كريم ضاهر: رئيس الجمعية اللبنانية لحقوق المكلفين، ليديا أسود: زميلة باحثة في World Inequality Lab، اسحاق ديوان: أستاذ علوم الاقتصاد في جامعة باريس للعلوم والآداب



سيناريو إبقاء الحال على ما هو عليه
تنطوي طريقة حل أزمة الاقتصاد الكلي الحالية على مخاطر زيادة مستويات عدم المساواة المرتفعة بالفعل بشكل ملحوظ. علاوةً على أن الخسائر المالية الضخمة التي لا بد من تحملها لكي تستعيد البلاد الجدارة الائتمانية، ويستعيد النظام المصرفي قدرته على السداد، تُقدر بنحو 60 مليار دولار. وفي ظل عدم اتخاذ أي إجراء حكومي للمساعدة في حل الأزمة، فضلاً عن عدم وجود حتى قانون لوضع ضوابط استثنائية وقيود على السحوبات والتحويلات المصرفية، فإن استراتيجية عدم القيام بأي شيء، ترقى إلى أن تكون استراتيجية تقاعس ضمنية تهدف إلى حماية الأغنياء من أصحاب رؤوس الأموال والبنوك. أما على الصعيد المصرفي والديون، فإن استراتيجية «لبننة الودائع والرواتب/ الاستعاضة عن الدولار بالليرة اللبنانية» الحالية ستتسبب في خسائر بمليارات الدولارات تتكبدها الطبقة الوسطى. بالتوازي مع ذلك، يؤدي تمويل العجز المالي من خلال ضريبة التضخم إلى تآكل سريع للأجور الحقيقية وقيمة الديون المقوّمة بالليرة اللبنانية. بالنظر إلى تجارب البلدان الأخرى التي شهدت أزمات مطولة، فقد شهدت تلك البلدان دورات مماثلة من العجز الممول بالتضخم والمتبوع بتعديلات جزئية للأجور دامت لسنوات، ما أسفر عن خسائر في النمو دامت لما يربو على العقد، وخلف آثاراً عميقة في المجتمع والاقتصاد. وعلى النقيض من ذلك، من أجل التوصل إلى تقاسم عادل وأكثر فعالية للأعباء الناجمة عن إجراء تعديلات، فلا بد من توزيع الخسائر في القطاع المصرفي بشكل متفاوت على الحسابات الكبيرة.