من الواضح أن هناك علاقة طردية بين رأس المال والفلاحين. رأس المال بطبيعته يسعى إلى الربح، وهذا يتطلب السيطرة على حيازات زراعية كبيرة يجري استعمالها بشكل مكثّف عبر مواد كيماوية تلوّث المياه السطحية والجوفية، وتستنزف خصوبة التربة. هكذا طُرد فلاحو لبنان من أراضيهم، وهكذا هي حال الزراعة المروية والبعلية اليوم.

تعاني الزراعة اللبنانية، بشكل عام، والزراعة المروية بشكل خاص، من معضلات بنيوية خطيرة:
- الأولى: هجوم رأس المال الريعي على شراء الأرض، واعتبارها ملاذاً آمناً للتوظيف الذي يحقق في زمن الانهيار المالي أرباحاً مادية ضخمة من دون الحاجة إلى استثمارها وتشغيلها في عمليات إنتاج لا تضمن المردود الكبير وسلامة التوظيف.
- الثانية: سيطرة الحيازة الكبيرة على مساحات واسعة في القطاع المروي الذي يمثل الوجه الغني للزراعة اللبنانية.
- الثالثة: ظاهرة غياب الفلاحين في القطاعين المروي والبعلي.
تعبّر المعضلتين الأولى والثانية عن واقع الحيازة الزراعية في مشروعي «ري القاسمية ورأس العين»، الذي تصل مساحته المروية الافتراضية إلى 3100 هكتار، و«ري البقاع الجنوبي الكبير» الذي تزيد مساحته المنوي ريّها على 20500 هكتار.
لكن أظهرت دراسة أولية لمشروع ريّ الجنوب في أواسط سبعينيات القرن الماضي، أن غياب الفلاحين هو ظاهرة خطيرة ومدمّرة. فقد بلغ عدد الحيازات الناشطة في الجنوب نحو 21000 حيازة. وفي الدوير مثلاً، بلغ عدد الحيازات نحو 450 حيازة من بينها نحو 350 حيازة تبغية، وعدد رؤوس الأبقار نحو 1500 بقرة وثور، مع 4 قطعان غنم وماعز. إلا أنه تبيّن بعد تحديث الدراسة في عام 2000 أن هناك تراجعاً في عدد الحيازات الزراعية إلى النصف في الجنوب، وفي الدوير انخفض إلى 10 حيازات، وغاب قطيع الأبقار كلياً عن القرية، ولم يبق فيها سوى قطيع واحد من الأغنام لا يزيد عدد رؤوسه على 100 رأس.

ما الذي حصل؟
مع تنفيذ مشاريع الري الكبرى والمتوسطة، في القاسمية والبقاع الغربي، وفي مناطق أخرى من لبنان، بدأت رؤوس الأموال الوافدة من قطاع التجارة والخدمات والمهن الحرّة تغزو أراضي البقاع والسهل الساحلي الجنوبي. فقد توجّهت عائلات من صيدا وصور وسائر المدن، تعمل في قطاع التجارة والخدمات والمهن الحرة، إلى شراء الأراضي العائدة للإقطاع السياسي القديم ولكبار ملاك الأراضي الآخرين. وتقاسمت عائلات صيداوية أراضي واسعة في سهل عدلون والعيتانية. وحازت عائلة نحولي، وحدها، نحو 1400دونم كانت تعود ملكيتها إلى آل الأمين والسلمان في عدلون. وتملّكت عائلات أخرى (زعتري 670 دونماً)، وبساط وبزري، أراضي واسعة في سهول عين أبو عبد الله، عيتانية، عدلون، صرفند... فيما حافظ بعض كبار الملاكين على مساحات واسعة من ملكياتهم القديمة.
ومع اندلاع الحرب الأهلية، تدفّقت رؤوس أموال ضخمة من بلدان الاغتراب نحو السهل الساحلي لشرا ء الأراضي. فتقاسم رفيق الحريري، مع مغتربين آخرين، ملكية آل فران في عدلون التي تفوق مساحتها 700 دونم تقريباً. كما تحولت إليه ملكية آل عيسى الخوري (نحو 500دونم) في الواسطة - مطرية. واستحوذ مغتربون آخرون: كمال سلهب (500 دونم)، وغندور (300 دونم)، وحجيج (234 دونماً)، وسكيكي (390 دونماً)، على أراضي تعود لملاكين كبار أخلوها في عدلون والعيتانية، وعين أبو عبد الله، وصور، بعدما تعذّر عليهم الاستمرار في استثمارها بسبب الفرز الطائفي الذي تسبّبت فيه الحرب.
يسيطر كبار ملاك الأراضي على القسم الأكبر من المساحات المروية وغالبيتهم لا يمارسون الزراعة ويعيشون خارج القطاع


وتقاسمت رؤوس أموال وافدة من خارج القطاع، العيش المشترك مع حفنة من صغار الملاكين الذين اقتصرت حيازاتهم على الأراضي المحيطة بالقرى الساحلية، من المنصوري في الجنوب، إلى عدلون وأنصارية عند أبو الأسود، وصولاً إلى الزهراني والغازية شمالاً.
هكذا أصبحت ملكية الأراضي في السهل الساحلي (قطاع القاسمية) موزّعة على الشكل الآتي:
- 60% من المشتركين (730) يعيشون خارج القطاع ويمارسون مهنة بعيدة عن هموم الزراعة ومشاكلها.
- 30% من عدد المشتركين (365مشتركاً) ممن تراوح مساحات حيازاتهم بين (1 و5 دونمات) يملكون 5% فقط من المساحات المروية في القطاع.

الإقطاع والريع: عوامل طرديّة
وتظهر «سيادة الحيازة الكبيرة»، إلى جانب «ظاهرة غياب الفلاحين»، بشكل أعمق في مشروع ري البقاع الجنوبي. وقد لفتت ظاهرة سيطرة الحيازة الكبيرة نظر رئيس البنك الدولي (ما كنمارا) عندما زار لبنان في مطلع السبعينيات، حين كان يعاين القطاع بهدف الموافقة على قرض لتمويل المشروع. يومها صرّح أمامنا: «إن أكثر ما لفت نظري في المشروع هو سيطرة عائلات إقطاعية معدودة على ربع المساحات المطلوب ريها في المنطقة». (من بين هذه العائلات: عائلة جوزيف سكاف التي تملك نحو 6000 هكتار في عميق، وعائلات: إدّة، بسترس، ضاهر، جنبلاط، دي فريج (حديثاً) وسواها).
يظهر ذلك بوضوح، في الدراسة الأولية للمشروع التي نفّذتها مصلحة الليطاني عام 1974، وذلك وفق الترتيب التالي:
- 64 ملاكاً كبيراً (1%) من أصل 6439 ملاكاً، يحوزون 24% من المساحة الإجمالية للمشروع.
- 80% من عدد الحائزين لا يملكون سوى 17% من هذه المساحة.
وتصل ظاهرة «غياب الفلاحين عن حيازاتهم» إلى 80% من عدد المشتركين في مياه المرحلة الأولى من المشروع؛ إذ تتولى بلديات القرعون، ولالا، وجب جنين، تأجير أراضي الغائبين في كولومبيا إلى شركات تحويل الإنتاج الزراعي التي تلجأ إلى اتباع طريقة الاستثمار المكثّف للأرض من خلال استعمال المزيد من الأسمدة الكيماوية (آزوت، فوسفات) للحصول على إنتاجية أعلى. وينتج من ذلك تلويث المياه السطحية والجوفية، وتستنزف خصوبة التربة، ما دفع المزارعين إلى قطع مياه البحيرة الملوثة عن أراضيهم، ولجأوا إلى سدّ مدخل القناة 900م بالردميات والحجارة للحيلولة دون وصول مياه البحيرة الملوّثة إلى أراضيهم. حصل ذلك عشية موسم ري 2017.
في هذين المشروعين (القاسمية، البقاع الغربي)، وفي مشاريع ري أخرى يسيطر فيها الرأسمال الريعي والحيازة الكبيرة على كامل النشاط الاستثماري، يسيطر كبار ملاك الأراضي على القسم الأكبر من المساحات المروية، وهم بغالبيتهم المطلقة: يعيشون خارج القطاع، أو يمارسون عملاً رئيسياً بعيداً من الزراعة. بالنسبة إلى هؤلاء، تعدّ الأرض ملاذاً آمناً لتوظيف أموالهم الهاربة من قطاعات غير آمنة، بل هي سلعة رائجة تحقّق أرباحاً ضخمة في السوق العقارية.

القطاع البعلي أيضاً
لا تغيب ظواهر: «هجمة» رأس المال الريعي، سيادة الحيازة الكبيرة، وغياب الفلاحين، عن القطاع البعلي الذي تبلغ مساحته 4 أضعاف مساحة القطاع المروي، فيما لا يزال الإقطاع السياسي التقليدي يسيطر على مزارع وقرى بكاملها في عكار وبعلبك والشوف والبقاع والجنوب. وقد شهد هذا القطاع معارك «شنّها» رأس المال الريعي للاستيلاء على الأرض التي قضمها هجوم الباطون. فنشأت مدن صناعية وتجارية كاملة في مناطق عديدة من السهل الساحلي على جانبي طريق شتورة - المصنع، وعلى امتداد الطريق الساحلي من صيدا إلى صور. كذلك شهد القطاع هجرة واسعة في صفوف الفلاحين باتجاه المدن، فانخفض عدد الحائزين في لبنان من 169000حائزاً (إحصاء عام 2010) إلى نحو 97000 حائز حالياً. كذلك تراجعت المساحة المزروعة تبغاً من 10000هكتار عام 1960 إلى نحو 8340 هكتاراً حالياً، مع أن الزراعة مدعومة بأسعار تشجيعية من قبل الدولة. وتراجعت مساحة الأراضي المخصّصة لإنتاج الغذاء إلى نصف ما كانت عليه في مطلع الستينيات، وبات لبنان حالياً يستورد 85% من حاجاته للغذاء.

* مهندس وخبير بيئي محلّف