يعكس النظام الضريبي صورة واضحة للنظام الاقتصادي الذي تبنى المفاهيم النيوليبرالية وكفالة المبادرة الفردية والملكية الخاصة وحرية التعاقد، واعتماده على الاستيراد بما يعنيه ذلك من اختلال في الهيكل الاقتصادي وانعدام التوازن بين نمو القطاعات الاقتصادية، ونمو المناطق. فالإنتاج الزراعي والصناعي لم يمثّل أكثر من 24% من الإنتاج الوطني، بينما يمثّل قطاع الخدمات النسبة الباقية من الدخل القومي، رغم أن العاملين في القطاعين الزراعي والصناعي يشكلون الأغلبية. كذلك تأثّر الاقتصاد اللبناني بالأزمات المحلية والإقليمية، وكان من سماته التفاوت في توزيع الدخل القومي.هكذا جاء النظام الضريبي متركّزاً في الضرائب النوعية على الدخل، رغم أن الغالبية الساحقة من الدول تخلت عنها واستبدلتها بنظام الضريبة الموحدة على الدخل، وإلى جانبها أقرّت الضرائب المتعدّدة على النفقات التي تمثّل القسم الأكبر والأهم من الإيرادات الضريبية، ورغم أنه منذ صدور القوانين الضريبية لم تطرأ أي تغييرات جذرية تمس أسس النظام الضريبي، بل أجريت عليه بعض التعديلات الجزئية من دون أي اعتبار لضرورات مواكبة التطورات الاقتصادية والمالية والاجتماعية، وكان من أبرزها استحداث الضريبة العامة على الإنفاق (الضريبة على القيمة المضافة) التي فرضت اعتباراً من عام 2002 باعتبارها ضريبة مستقلّة على العديد من السلع والخدمات أياً كانت وجهة استعمالها وسواء كانت ضرورية أو شائعة الاستعمال أو كمالية.
وفي موازاة الاعتماد أيضاً على الرسوم الإدارية التي تعتبر غير اقتصادية والرسوم الداخلية على الخدمات والرسوم الجمركية على الاستيراد والتصدير، انخفضت أهمية الضرائب على رأس المال، والتي تمثّل جزءاً ضئيلاً من الإيرادات الضريبية، واتسم النظام الضريبي بانعدام الفعالية والتفاوتات الكبيرة في فرض الضرائب وتحصيلها وسط تقادم القوانين وانعدام الانسجام بينها، ما حفّز التهرّب الضريبي أيضاً، وأرهق المكلفين بأكثر من ضريبة ورسم، وغرامات هائلة ومهل اعتراض تمتد إلى أكثر من عشر سنوات، فضلاً عن التعقيدات الإدارية.
من أبرز ما يتّسم به النظام الضريبي في لبنان:
- سوء توزيع العبء الضريبي: 95% من المكلفين الذين يكلفون بالضريبة على أساس الربح الحقيقي يخضعون لمعدل وسطي لا يتعدى 4%، انخفاض معدل الضريبة الوسطي إذ لم يتجاوز سنة 2001 الـ 3% بالنسبة إلى 88% من المكلفين على أساس الربح الحقيقي والـ 92 % من الأشخاص المكلفين على أساس الربح المقطوع.
- انهيار العدالة الضريبية: إن ضرائب الدخل على أصحاب الرساميل المستثمرة في المصارف والتجارة والخدمات والمهن الحرة تشكل 7.69% من إجمالي إيرادات الموازنة، في حين يملك هؤلاء نحو 90% من الدخل والثروة الوطنية. في المقابل يسهم العمال والمستخدمون والأجراء في إيرادات الموازنة بـ3.94%، أي ما يعادل 51% من الضرائب التي يؤديها أصحاب الرساميل، وإذا أضيفت إليها الحسومات التقاعدية 1.16% تصبح مساهمتهم 5.1%، أي ما يعادل 66,3% من الضرائب التي يؤديها أصحاب الرساميل.
- إن الضرائب على رأس المال العقاري لا تشكل إلا نحو 5.4%، علماً بأن الريوع العقارية كثيرة جداً، ولا تمثّل استثماراً خطراً كالاستثمار الصناعي أو التجاري.
- إن الضرائب على الفوائد تمثّل 6.41% فقط، علماً بأن فوائد الدين العام وحدها تشكل 45% من الإنفاق الحكومي وتستوعب 65% من إيرادات الموازنة.
- إن الضرائب والرسوم التي يتحمل عبئها الفقراء وأصحاب الدخل المحدود تشكل 71.13%، وهي: TVA - الرسوم الجمركية – رسوم الاتصالات- رسوم الاستهلاك، بينما الضرائب التي يتحمل عبئها الأغنياء بشكل رئيسي تشكل 29% فقط.
إن أسباب انهيار العدالة الضريبية تكمن في التهرّب الضريبي. فأصحاب الرساميل، ولا سيما في الصناعة والتجارة والمصارف، لا يصرّحون عن حقيقة أرباحهم، فضلاً عن أن الإدارة الضريبية ضعيفة في القيام بإجراءات التحقق من الضريبة بشكل صحيح لأسباب سياسة، جغرافية، كفاءة ونزاهة. ويضاف إلى ذلك أن هناك تهرباً قانونياً عبر الإعفاءات الضريبية، ولا سيما إعفاء أسهم شركات الأموال من الضريبة، واعتماد معدل ضريبي نسبي منخفض على الرسوم العقارية 5%، الفوائد 5%، توزيعات الأرباح 10%، الضريبة على القيمة المضافة 10%. في المقابل، اعتمدت ضريبة تصاعدية على الأرباح والرواتب والأجور (على الأرباح من 4% حتى 21% على الأفراد وشركات الأشخاص و17% على شركات الأموال، أما معدل الضريبة على الرواتب والأجور فيتراوح بين 2% و20%)، وأعفيت الفوائد من الضريبة منذ عام 1993 لغاية 2002 ضمناً، ولا سيما فوائد الدين العام التي بلغت عن هذه الفترة 30833 مليار ليرة.
يسهم العمال والمستخدمون والأجراء في إيرادات الموازنة بـ3.94%، أي ما يعادل 51% من الضرائب التي يؤدّيها أصحاب الرساميل


فوق كل ذلك تأتي السرية المصرفية التي تلعب دوراً أساسياً في عملية التهرّب الضريبي.
إذاً، ما هو الإصلاح المطلوب؟
من متطلبات الاصلاح الضريبي أن تتخذ الدولة التدابير المناسبة لمنع ضلوع القطاع الخاص في الفساد، وتفرض عند الاقتضاء عقوبات مدنية أو إدارية أو جنائية تكون فعالة ومتناسبة ورادعة على عدم الامتثال لهذه التدابير. كذلك يجب إصلاح الأنظمة المحاسبية، بأن على الدولة اتخاذ ما يلزم من تدابير وفقاً لقوانينها الداخلية ولوائحها المتعلقة بمسك الدفاتر والسجلات والكشف عن البيانات المالية ومعايير المحاسبة ومراجعة الحسابات لمنع القيام بالأفعال التالية: إنشاء حسابات خارج الدفاتر، إجراء معاملات دون تدوينها في الدفاتر أو دون تبيينها بصورة وافية، تسجيل نفقات وهمية، قيد التزامات مالية دون تبيان غرضها على الوجه الصحيح، استخدام مستندات زائفة، الإتلاف المتعمد لمستندات المحاسبة قبل الموعد الذي يفرضه القانون.
ومن المهم أيضاً اعتماد معايير المحاسبة الدولية. مفوّضو المراقبة ومدقّقو الحسابات وخبراء المحاسبة ملزمون بالتأكد من اعتماد عملائهم (أي عند تدقيق البيانات المالية للمؤسسات والشركات الخاصة والمؤسسات والمرافق العامة الخاضعة لنظام التدقيق الخارجي المستقل وكذلك للتدقيق الداخلي) المعايير الدولية للمحاسبة، والإفصاح في فقرة «الرأي» عن مدى تقيّدهم بذلك والإبلاغ عن التهرّب الضريبي عملاً بأحكام القانون الرقم 44 «قانون مكافحة تبييض الأموال».
بناءً على ما تقدم، فقد أصبح ضرورياً اعتماد الإصلاحات الضريبية الجذرية التي تزيد نسبة الاقتطاع الضريبي إلى نحو 35% من الناتج القومي ضمن أهداف اقتصادية واجتماعية واضحة. لذا، يجب الانتقال من نظام الضرائب النوعية على الدخل إلى نظام الضريبة العامة (الموحدة) على الدخل وبنسب تصاعدية، وتحديد حدّ أعلى للغرامات لا يتجاوز 50% من الضرائب المفروضة، وإلغاء العديد من الضرائب والرسوم والإبقاء على عدد يراوح بين 12 و15 ضريبة ورسماً من أصل 55 حالياً، وشمول جميع المداخيل المهنية والعارضة للضريبة. ومن المهم أيضاً الحفاظ على الاستقرار الضريبي لتبقى أحكامه سارية لمدة ما بين 15 سنة و20 سنة، وتقصير مهل بتّ الاعتراضات لدى الإدارة الضريبية أو لدى لجنة الاعتراضات إلى 3 أشهر و6 أشهر، وتنظيم مهنة المحاسبة عبر إنشاء المجلس الأعلى للمحاسبة، وإنشاء المجلس الأعلى للتشريع الضريبي.
لكن من المهم أن تكون الضريبة تصاعدية على الشطور بدلاً من النسبية على:
- الرسوم العقارية (بين 5% و15%)
- الفوائد وتوزيعات الأرباح وغيرها من إيرادات رؤوس الأموال المنقولة (بين 5% و15%).
- أرباح شركات الأموال ( زيادة المعدلات من 17% إلى 25%).
في هذا الإطار، يجب أن يُعتمد معدلان على الضريبة على القيمة المضافة: 10% على السلع الشائعة الاستعمال ( المعدل الحالي)، 15% على السلع الكمالية. كذلك يجب إلغاء الإعفاءات المتعلقة بالعمليات المصرفية والمالية والتأمين وتجارة الأحجار الكريمة واليخوت والطائرات الخاصة واليانصيب وألعاب الحظ والقمار، وتعديل أساس فرض الضريبة لدى الاستيراد وإلغاء الرسم الجمركي ورسم الاستهلاك من هذا الأساس. أيضاً يجب إلغاء جميع أنواع الإعفاءات الضريبية ما عدا التنزيلات العائلية، وإخضاع الربح الناتج عن التفرغ عن الأسهم وباقي الأوراق المالية إلى معدل 15%، وإخضاع جميع عمليات البيع العقاري لضريبة دخل بمعدل 3% وحسمها من الضريبة التصاعدية على الأرباح، ووضع جدول جديد بالمعدلات الضريبية يضمن تقليص عدد المعدلات الضريبية وتوسيع الشطور الخاضعة للضريبة، ووضع معدلات ضريبية متساوية للشركات والأفراد.

* المدير السابق للمحاسبة العامة في وزارة المالية في لبنان، النقيب الأسبق لخبراء المحاسبة في لبنان، المدير العام للمؤسسة اللبنانية للخدمة الضريبية




اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام