إذا اعتبرنا أن عام الذروة الاقتصادية التي سبقت الأزمة في لبنان، هو عام 2017 كما أشار إليه البنك الدولي في آخر تقرير له، وقسنا إيرادات الخزينة العامة في ذلك العام مقارنة مع الإيرادات المسجّلة في نهاية 2020 عليها، سيتبيّن أنها تقلصت بنسبة 15%. يُعدّ هذا التراجع كبيراً، قياساً على كل محاولات السلطة في خلق محفّزات لتغذية الإيرادات والتقشّف في النفقات من أجل بلوغ هدف أساسي حُدّد يومها بـ«صفر عجز» في الموازنة نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي.

المسافة الزمنية بين عامَي 2017 و2020، كافية لتبيان أمرين: حجم الكارثة التي أصابت لبنان، فشل السلطة الحاكمة. ففي هذه الفترة حدّدت السلطة أهدافها في إطار التناغم مع مقررات ما سمّي «سيدر» أو مؤتمر «باريس 4»، وقرّرت أن تصل إلى صفر عجز في الموازنة، وبدأت تتعامل ظاهرياً مع قرب حصول الانهيار، إلا أنها كانت فعلياً تقوم بما اعتادت القيام به، أي الغرف من المال العام بأشكال وطرق مختلفة. ففي بشاعة هذا الأمر تكمن اليوم مأساة المقيمين في لبنان. بين عام 2017 واليوم، زادت قوى السلطة عبر ممثليها في مجلسي الوزراء والنواب، ضريبة القيمة المضافة بمعدل 1%، وزادت الرسوم الجمركية بمعدل 2%، وزادت ضريبة الفوائد من 5% إلى 10%، وزادت ضريبة توزيع الأرباح، فضلاً عن خلق ضرائب عقارية جديدة... وضمن السياق نفسه، تمّ تشريع التهرّب الضريبي عبر الإعفاءات والتسويات الضريبية وحتى العفو الضريبي.
كان أمل هذه السلطة بأن تتمكن من تجميل حسابات الخزينة العامة لتفوز بأموال «سيدر» التي كانت تُعدّ يومها بنحو 11 مليار دولار. كل هذه المليارات مثّلت إغراء كبيراً دفع هذه القوى إلى العمل بجهد واسع انتهى إلى إغفالها أن مخاطر الانهيار ليست محصورة بالمالية العامة كما روّجت هذه القوى ووجهها التقني - حاكم مصرف لبنان رياض سلامة- بل بأصل بنية النظام وسلوك القوى القيّمة على تطبيقه واستغلاله. صحيح أن المالية العامة كانت إحدى قنوات التوزيع للمال المتدفق إلى لبنان، لكنها لم تكن سوى قناة واحدة من بين قنوات أخرى تستهلك الدفق الكبير من الدولارات الآتية إلى لبنان. طبعاً كان هذا الدفق يتقلص بمرور الوقت وانكشاف اللعبة، إضافة إلى عوامل خارجية.
في نهاية الأمر، حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر. فالإيرادات المحفَّزة، عادت سنوات إلى الوراء (يجب أن يؤخذ في الحسبان أن مفاعيل القرارات الضريبية لا تظهر مباشرة ويتطلب الأمر أكثر من بضعة أشهر لتبيانها). بدأ التدهور يظهر على الإيرادات، منذ 2017 ولغاية اليوم. تراجعت في هذه الفترة إيرادات الضريبة على القيمة المضافة بنسبة 46%، وإيرادات الرسوم الجمركية بنسبة 40%، وإيرادات الرسوم الداخلية على السلع والخدمات بنسبة 13%، وإيرادات الأملاك المبنية بنسبة 27%، وغيرها من الإيرادات، لكن الضريبة الوحيدة التي لم تتراجع بشكل تراكمي في ظل هذه السنوات، هي ضريبة الدخل على الشركات والأفراد، بل ازدادت إيراداتها بنسبة 16% بسبب الزيادة في حاصلات ضريبة الفوائد. لكن في عام 2020، سجّلت هذه الضريبة تراجعاً بنسبة 28.3%، ما يعني أن المؤسسات تضرّرت كثيراً، وأن المصارف لم تعد تدفع ضرائب وافرة كما في السابق بعدما اتخذ مصرف لبنان قراراً بخفض الفوائد في السنة الماضية، وأن مساهمة الأفراد في هذه الضريبة باتت تتقلص يوماً بعد يوم بسبب الصرف من العمل وتقليص الرواتب وانخفاض قيمة العملة بشكل عام.
حالياً، لا يمكن تحديد مدى الضرر اللاحق بالإيرادات بعد، لأن القياس بين عام 2020 وعام 2019 فيه الكثير من الثغرات، من بينها التوقف عن العمل بسبب إجراءات كورونا، توقف الناس عن التسديد في الفصل الأخير من عام 2019 ثم معاودة الدفع لاحقاً، استغلال فروقات أسعار الصرف المتعددة في السوق لتسديد الضرائب بالليرة، تأجيل تسديد الضرائب في فترات زمنية مختلفة... القياس الحقيقي ليس واضحاً وقد لا يكون واضحاً للأسباب المذكورة، ولسبب إضافي يتعلق بأن منهجية الموازنة في لبنان تعتمد على قراءة الدفق النقدي بين ما هو مقبوض وما هو مدفوع، وليست موازنة يمكن أن تقيس كل قرش مصروف منها بحسب الوجهة المحدّدة له. فعلى جانب النفقات سيكون صعباً تقدير حجم الخسائر لسبب أساسي وهو أن مشروع موازنة 2021 أُعدّ على أساس أن سعر الصرف يبلغ 1507.5 ليرات وسطياً، أي ما يناقض الوقائع السوقية المتداولة يومياً. «الطمس» هو أمر اعتادت قوى السلطة القيام به، لكنها ستمارسه مباشرة على الناس خلال الأيام المقبلة من خلال وقف الدعم كما مارسته لغاية اليوم في عملية إطفاء خسائر النظام المالي عبر طباعة النقود وتغذية تضخّم الأسعار... هذه وصفة للفقر والتهجير، أو ما يمكن تسميته «الطريق إلى جهنم» التي لا تأتي على يد المؤسّسات الدولية النيوليبرالية المناهضة للفقراء مثل صندوق النقد الدولي، بل على يد قوى السلطة المحلية في لبنان.




اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام