قبل 70 عاماً، أفصح قادة الحركة الصهيونية عن أطماعهم بالمياه العربية كشرط رئيسي لقيام الكيان. يزعمون أن التوراة أورد حدود دولتهم من الفرات إلى النيل، ومن نهر دان إلى بئر السبع. هكذا أنشأ القادمون الأوائل، من دول أوروبا الشرقية، 79 مستعمرة حول بحيرة طبريا، كما انتشرت المستعمرات على منابع الروافد العليا لنهر الأردن: الدان، الحاصباني، 500 هكتار في مرج الخيام بمحاذاة الدردارة، والوزاني، ونهر البراغيث، فضلاً عن مستعمرات أخرى في الغور والضفة الغربية التي تحتوي على 750 مليون متر مكعب من المياه.
خمس حروب على «جبهة المياه»
في حروبها الخمس التي شنّتها إسرائيل على العرب، حقّقت في كل منها، مكاسب على «جبهة المياه». جاءت أول عملية سطو في حرب عام 1948، التي أعقبت قرار تقسيم فلسطين، ثم وسّعت حدودها على حساب حصّة العرب بهدف ملامسة ما تبقّى من مصادر مائية.
- في حرب عام 1967 سيطرت إسرائيل نهائياً على المنابع العليا لروافد نهر الأردن التي تسبّبت بإبعاد الجيش السوري المرابط على الضفة الشرقية لبحيرة طبريا، إذ كان وجوده يشكل خطراً على منشآت مشروعها المائي الذي نفّذته في عام 1964 (الناقل القطري، طبريا - النقب). وأتاحت لها حرب الأيام الستة، أن تستولي على الجزء الأكبر من هضبة الجولان، ولامس توسّعها قمم جبل الشيخ المشرفة على دمشق. الجولان يشكل مع تلال كفرشوبا، وجبل الشيخ خزان المياه الأكبر الذي يزوّد إسرائيل حالياً، بنحو 34%من حاجاتها المائية.
- جرت عملية السطو الثانية على المياه العربية، في عام 1964. يومها أقدمت إسرائيل على سرقة مياه الروافد العليا لنهر الأردن، وسحب مياهها عبر تنفيذ مشروعها الاستراتيجي عبر الناقل القطري: طبريا – النقب الذي أمّن لإسرائيل ثاني عملية سطو موصوفة على مياه العرب. استغرق تنفيذ هذه العملية سبع سنوات ونيفاً، وخلالها حاولت إسرائيل ضخّ مياه الروافد قبل دخولها إلى بحيرة طبريا. لكنّ مدفعية الجيش السوري المرابط على الضفة الشرقية والشمالية حالت دون تنفيذ الأشغال ما دفع بإسرائيل إلى ضخّها من قعر البحيرة إلى الضفة الغربية بواسطة محطّة ضخّ عملاقة مكوّنة من أربع مضخات، طاقة الواحدة منها 23 ألف حصان وهي قادرة على رفع المياه إلى المنسوب 250م حيث توجد محطة الطابغة.
في المقابل ردّ العرب على عملية السرقة هذه، بدعوة مجلس الجامعة العربية إلى عقد مؤتمر قمّة في القاهرة حضره الرئيس جمال عبد الناصر وكلّ الرؤساء العرب. واتخذ المؤتمر قراراً بالإجماع، دعا فيه دول المنابع العليا (لبنان، سوريا والأردن)، إلى تحويل الروافد. ومن أجل حماية ورش التحويل، شكّل المؤتمر قوّة عسكرية بقيادة علي علي عامر، رابطت عند نقاط التحويل. وباشر لبنان بفتح ورشة على نهر الحاصباني قرب بلدة كوكبا (320م)، لتحويل مياه النهر باتجاه الخردلي (240م) بواسطة الجاذبية، ثم ضخّها إلى سدّ ميفذون. كذلك باشرت سوريا، بالتعاون مع الأردن، بتحويل أنهر بانياس، والدان، والرقاد، في اتجاه سدّ مشترك (سدّ الوحدة).
الردّ الإسرائيلي جاء سريعاً بشنّ حرب استمرت عدة أيام دمّرت كل الأشغال المنفذة في منطقة التحويل. في الواقع، أتاحت المياه التي حولتها إسرائيل من الروافد، توفير ما بين 400 و500 مليون م3، لري أراض في النقب تبلغ مساحتها نحو 30 ألف هكتار، واستقبال نحو مليون ونصف مليون مهاجر جديد. وعندما توقف القصف الإسرائيلي، قامت المصلحة الوطنية لنهر الليطاني، بنقل ما تبقّى سليماً في ورشة كوكبا، من أنابيب ضخمة، ومضخات إلى مستودع قريب من بحيرة القرعون. لكن المثير للدهشة، أن إسرائيل استولت على هذه التجهيزات أثناء احتلالها للمنطقة في اجتياح 1982، وهي موضبة توضيباً جيداً في صناديقها، ولم يبادر القيمون على قطاع المياه في لبنان من استعمالها في مشروع ري آخر.
بحروبها الخمس التي شنتها إسرائيل على العرب حققت مكاسب على جبهة المياه بحصولها على كمية تُقدر بنحو 500 مليون م3، بينما حصلت عبر المفاوضات على مكاسب أعلى


- أما ثالث عملية سطو على المياه العربية فقد حصلت في أعقاب حرب الأيام الستة. ففي هذه الحرب التي اندلعت في حزيران عام 1967، شنّت إسرائيل حربها الثالثة على بلدان الطوق وتمكّنت من التوسع شرقاً عبر إبعاد الجيش السوري عن الضفة الشرقية لبحيرة طبريا، وعن أنهر الدان والرقاد وبانياس، حتى وصل جيشها إلى تلال كفرشوبا فاحتلها مع بعض تلال جبل الشيخ.
وبذلك تكون إسرائيل قد استولت نهائياً على جميع مصادر المياه التي تشكل الروافد العليا لنهر الأردن والجولان السوري المحتل الذي يُعد خزان المياه الأكبر والذي بات يزود إسرائيل بنسبة 34% من حاجاتها إلى المياه.
من أهم نتائج حرب الأيام الستة على جبهة المياه، الاستيلاء على جميع مصادر المياه التي تغذي بحيرة طبريا. كذلك أمّن الكيان الإسرائيلي، حماية منشآت مشروعه الاستراتيجي (الناقل القطري: طبريا - النقب)، وأبعد الجيش السوري إلى ما وراء هضبة الجولان. ومنذ احتلالها هضبة الجولان، بدأت إسرائيل بتنفيذ سياستها التوسعية الاستيطانية من خلال إنشاء مستوطنات بلغ عددها حتى عام 2000 نحو34 مستوطنة يقيم فيها أكثر من 10 آلاف مستوطن. كما استولت على أربعة سدود من أصل عشرة. وفي عملية تخريبية للسدود الواقعة في الجزء المحرر من الجولان، في عام 1992، فتحت إسرائيل كوّة في منخفض سد المنطرة لتمرير فيضان هائل من المياه، أدى تدفقه إلى تدمير السدود السورية التي تقع تحت سد المنطرة وتدفق تيار هائل من المياه نحو بحيرة طبريا.
يُذكر أن إسرائيل حفرت أيضاً عشرات الآبار الارتوازية في الجزء المحتلّ من الجولان.
- في حرب الغفران التي شنّتها على سوريا ومصر، وسّعت إسرائيل حدودها على الجبهة الشرقية، واحتلت ينابيع مياه أخرى، وبحيرات طبيعية في هضبة الجولان وجبل الشيخ.
- في حربها الخامسة التي شنتها على لبنان في حزيران 1982 تمكّنت إسرائيل من تنفيذ منشآت مشروع جر مياه الليطاني إلى الجليل الأعلى، وصولاً إلى بحيرة طبريا. يقوم هذا المشروع على سرقة مياه الليطاني عبر نفق أرضي ينقل المياه من نقطة تقع تحت جسر الخردلي (240م)، إلى الجليل الأعلى عند جسر بنات يعقوب. قدرة الأنبوب الناقل للمياه من النهر تُقدّر بنحو 150 مليون م3، ومنها إلى محطة الطابغة (نقطة انطلاق مشروع طبريا - النقب). إلا أن إسرائيل لم تتمكن من إنجاز المشروع بشكل كامل إذ كان يتطلب بناء جدار في عرض النهر للتمكن من تحويل المياه. المقاومة اللبنانية الباسلة كانت لها بالمرصاد، ومنعتها من استكمال مشروع السرقة. وفي عام 2000، انسحبت إسرائيل مندحرة من الشريط الحدودي، من دون أن تحقق أطماعها التاريخية بالاستيلاء على مياه الليطاني (انظر إلى الخريطة).

أدوات التفاوض
- في اتفاقية وادي عربة، التي أبرمتها مع الأردن، حققت إسرائيل مكسباً على جبهة المياه، بحصولها على حصّة من مياه اليرموك.
- في اتفاقية كامب دافيد، كانت مياه النيل من بين البنود السريّة للاتفاقية. إذ سبق للسادات، خلال زيارته إسرائيل، أن أعطى وعداً للصهاينة، بتزويدهم بحصّة من مياه النيل تُقدّر بنحو 750 مليون م3. وهذه الحصّة تفوق بكثير كمية المياه التي حصلت عليها إسرائيل في حروبها الخمس التي شنتها على العرب. وقد أطلق على هذه الاتفاقية اسم "شرعة السلام" وهي تنقل كمية المياه المتفق عليها عبر خطين: الأول ينطلق من نقطة قرب بور سعيد عبر أنبوب يخترق غزة وخان يونس، وصولاً إلى صحراء النقب. بينما الثاني ينطلق من الإسماعيلية نحو النقب.
وقد اشترط السادات مقابل تزويد إسرائيل بهذه الحصة من مياه النيل، أن يُنقل سكان المستوطنات في الضفة الغربية إلى داخل إسرائيل، إلا أن اغتيال السادات، أوقف تنفيذ هذا المشروع.
وفي أي مفاوضات مستقبلية مع لبنان، إذا وافق هذا الوطن المقاوم الدخول فيها، فسوف تطرح إسرائيل السيناريو التالي:
أن تُترك المياه المشغّلة لمعامل الطاقة الثلاثة والتي تُقدر بنحو 350 مليون م3 تجري في المجرى الطبيعي للنهر، لتسحب إسرائيل منها 250 مليون م3، من نقطة انطلاق مشروعها، أي عبر نفق الخردلي - جسر بنات يعقوب – طبريا. وتبقى كمية 100 مليون م3، لمشروع ري الجنوب على أن يُعوض على لبنان كمية من الطاقة الكهربائية تعادل ما تنتجه معامل الليطاني حالياً وقدرها 190 ميغاوات.
وباستغلال مساقط المياه بين معمل عبد العال (680م) وطبريا، يتم إنشاء ثلاثة معامل جديدة هي: معمل عبد العال 34 ميغاوات، معمل عند الخردلي (240م) ينتج نحو 70 ميغاوات، معمل عند جسر بنات يعقوب ينتج نحو 60 ميغاوات، ومعمل عند ملامسة المياه حدود طبريا ( -212م) ينتج نحو 34 ميغاوات.
في مشروع كهذا، تربح إسرائيل بحصولها على كمية مياه تُقدر بنحو 250 مليون م3، ويحصل لبنان على كمية الطاقة المنتجة في معامله الثلاثة كما يحصل مشروع ري الجنوب على حاجاته من المياه.

الحروب VS المفاوضات
إذاً، بحروبها الخمس التي شنتها إسرائيل على العرب حققت مكاسب على جبهة المياه بحصولها على كمية تُقدر بنحو 500 مليون م3، بينما حصلت عبر المفاوضات على مكاسب أعلى!
وفي زمن التطبيع مع الدول المنتجة للنفط، ستستولي إسرائيل على نفط العرب. اليوم نفط الإمارات والبحرين، وغداً نفط المملكة العربية السعودية ربما. وبذلك، أصبحت إسرائيل شريكاً «شرعياً» يقاسم العرب نفطهم ومياههم. فهل تسمح لها عملية التطبيع مع السودان أن تحصل على أمنها الغذائي عن طريق استثمار 15 مليون هكتار تُروى من مياه النيل؟ هل ستحصل إسرائيل على حصة من مياه «أنابيب السلام» التي تنقل مياه الفرات إلى الأردن، ودول الخليج، والمشروع يُنفّذ بتمويل عربي.
بحصولها على مياه النيل والفرات تحقق إسرائيل شعارها التاريخي: «حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل»!