«الليبرالية، كأيديولوجيا، تختلف عن ما كتبه آدم سميث، والماركسية تختلف عن رؤى كارل ماركس - وقد هيمنت على آفاقنا هذه الليبرالية والماركسية، وليس أفكار كارل ماركس أو آدم سميث»ايمانويل والرشتاين

«حين نحلّ مشكلة الطعام والكساء بالنسبة إلى الجماهير، عندها يحقّ لنا أن نقود الجماهير»
تشِن يون، اقتصادي ومخطّط صيني خلال مرحلة حرب التحرير (في كتاب ويبر، صفحة 103)

كان عند المؤرّخ الفرنسي فرنان بروديل طريقة شهيرة وطريفة لشرح نظرته إلى الرأسماليّة ومنظومتها. يعتبر بروديل أنّ علينا أن نتخيّل النظام الاقتصادي كبيتٍ من ثلاثة طوابق. فلنأخذ مجتمعاً زراعياً أوروبياً كمثال، فيه فلّاحون يزرعون الأرض وينتجون الحبوب. قسمٌ من هذا الإنتاج سيستهلكه الفلاحون أنفسهم، أو يقايضونه في محيطهم المباشر، ولن يدخل هذا الإنتاج إلى السّوق. هذا هو «الطّابق الأوّل»، وهو مجال الاقتصاد البدائي عند بروديل. ولكن هناك قسمٌ آخر من الإنتاج سيبيعه الفلاحون في السوق المحلّي. بمعنى أنّه، في يوم الأحد، سينزل إلى سوق المدينة القريبة مئات المزارعين والحرفيين والمنتجين والتجار وبائعي الشاورما، وسيعرضون منتجاتهم ويتنافسون على بيع سلع متشابهة، وتجري عمليات البيع والشراء والمفاوضات التي تحدّد مستوى العرض والطّلب. هذا هو «الطّابق الثاني»، مجال الحياة الاقتصادية أو ببساطة مجال «السّوق» بالنسبة إلى بروديل. بمعنى أن هذه سوقٌ «حقيقية»، شفّافة، تنافسية. هو مكانٌ للناس الصغار والأرباح الصغيرة.
أمّا في «الطابق الثالث» فلديك أناسٌ لا يشترون ويبيعون في السوق مع الباقين، بل هو يكتري - مثلاً - سفناً تشتري القمح في روسيا ثم تنقله لبيعه في أمستردام، أو هو يخزّن كميات كبيرة من القمح لبيعها بسعرٍ أعلى في موسمٍ لاحق، أو لديه شبكة من العملاء في مختلف مدن أوروبا، يبلّغونه قبل غيره عن الأسعار في كلّ مكان وكيفية الاستفادة من التفاوت بينها. هنا، يقول بروديل، نجد مجال الأرباح الكبيرة والمضمونة. لكنها أيضاً ليست «سوقاً» بالمعنى الذي نفهمه عبر التاريخ البشري، بل تقوم على الاحتكار والتمايز: في هذا السيناريو، يجب أن يكون لديك سفينة مثلاً، ووصول إلى اعتمادات مالية، ومعرفة بالأسعار لا يحصل عليها الإنسان العادي، وقوة عسكرية تحمي كلّ هذا. هذه ليست سوقاً، يكتب بروديل، بل عكس السّوق تماماًَ، هو «اللاسوق» (anti-market). ومن يعيش في هذا الطابق الثالث لا ينزل إلى مستوى «السوق» التنافسي، بل يتركه لصغار المنتجين (يقول بروديل إنه يمكن للرأسمالية أن تترك أكثر من نصف اقتصاد البلد في أميركا، مثلاً، للسوق التنافسي وصغار التجار، ولكن النصف الآخر هو الذي يحوي الأرباح والريع وفائض القيمة).
يمكن استخدام شركة «أمازون» كمثال معاصر عن هذه البنية. في «الطابق الأسفل» تقيم «أمازون» سوقاً مفتوحة، يتنافس فيه عشرات آلاف الباعة بشكل محموم. لكن الشركة لا تدخل في هذه المعمعة، بل هي تحصّل «ريعاً احتكارياً» مضموناً كحصّة من كلّ عملية بيع، وهي حين تعرض منتجاتها في السوق، لا تفعل ذلك إّلا من موقع الامتياز (عدا عن أنها تملك المنصّة، فهي تملك أيضاً «داتا» تخبرها بكل ما يبيع وما يبيع وهوامش السعر). بالنسبة إلى بروديل، هذا الجانب الريعي والاحتكاري ليس «تشويهاً» للرأسمالية أو انحرافاً عنها، بل هو الرأسمالية نفسها. «اللاسوق» هو الأساس، وكلّ النظام قد بُني من أجله. توجد اليوم خمس شركات تفوق قيمتها السوقية ألف مليار دولار: أمازون، آبل، غوغل («الفابت»)، وفايسبوك. ما المشترك بينها كلّها، عدا عن كونها شركات تقانة (يتكلم بروديل عن مهارة رأس المال في الانتقال بسرعة من قطاعٍ إلى آخر بحسب المرحلة التاريخية)؟ إنّ كلّاً منها قد اقتطع لنفسه احتكاراً في قطاعٍ ما على مستوى العالم، وكلّها أميركية.

«جدال الملح والحديد»
نشرت الباحثة إيزابيلا ويبر مؤخراً كتاباً نال الكثير من الاهتمام عن تجربة الصين الاقتصادية في مرحلة الانفتاح («كيف تجنّبت الصين علاج الصدمة»، روتلدج، 2021). يتكلّم الكتاب أساساً عن النقاشات والصراعات التي جرت في الثمانينيات خلال مرحلة الإصلاح الاقتصادي، وكيف اقتربت الصين مرتين على الأقل (عام 85-86 وعام 1988) من اعتماد نمط «علاج الصدمة» الذي دمّر اقتصادات أوروبا الشرقية وروسيا وغيرها من الدول التي اعتمدت هذه الوصفات.
لكن ما نودّ استخدامه هنا هو جزءٌ مثيرٌ من الكتاب يتحدث عن الفكر الاقتصادي في التراث الصيني، وهو - على طريقة بروديل - يعطيك نظرة مختلفة إلى مفهوم السوق والدولة والمجتمع عن ذاك الذي تجده في السرديات الغربية السائدة. اعتمدت ويبر هنا على نصَّين كلاسيكيين من التاريخ الصيني: الـ«غوانزي» و«جدال الملح والحديد». يجب أن نعود هنا إلى التاريخ القديم، إلى قرونٍ ثمانية قبل الميلاد، قبل أن تتوحّد الصين وتخرج فيها السلالات الإمبراطورية، حتى نفهم السياق الذي خرجت فيه هذه الأعمال.
بين القرن التاسع ق.م. والقرن الثالث ق.م. مرّت الصين بمرحلة طويلة جداً من القلاقل والحروب، ودول تنهار وأخرى تصعد وتتنافس. تُقسم هذه المرحلة إلى حقبتين، الأولى اسمها «مرحلة الربيع والخريف»، والثانية «مرحلة الدّول المتحاربة» (لاحظوا الأسماء السينمائية التي يختارها الصينيون لحقبات تاريخهم، فيما نحن عالقون مع أسماء جاهلة وغبية على طريقة «عصر الانحطاط»)، وهذه الفترة تنتهي في القرن الثالث قبل الميلاد مع توحيد الصين، للمرة الأولى، تحت حكم إمبراطور الـ«تشين». المثير هو أن هذه المرحلة المديدة من عدم الاستقرار كانت أيضاً المرحلة الذهبية للصين فكرياً. تقول ويبر إن أغلب المفاهيم التأسيسية في الفكر والفلسفة والاقتصاد في الصين الكلاسيكية قد خرجت من هذه المرحلة. الكونفوشيوسية انطلقت فيها، ومفاهيم الإدارة والحكم، وكانت أيضاً مرحلة «ثورة الحديد» التي غيّرت طبيعة الزراعة والاقتصاد في الصين (تسمّى تلك الحقبة أيضاً «عصر المئة مدرسة» للتدليل على الغليان الفكري الذي اعتراها).
كلام الزعماء الصينيين عن التجارة الحرّة والتبادل بلا عوائق سياسية، يقصدون به السوق بمعناها التنافسي الحرّ حيث تفوّقت الصين على أغلب منافسيها، أمّا منظومة العقوبات الأميركية والتكتّلات «المضادّة» والحصار التكنولوجي... فهي كلّها وسائل لتثبيت «اللاسوق» واحتكاراته، الرأسمالية «الحقيقية» التي تقوم على «مزيجٍ بين القوّة والدّهاء»


في هذه المرحلة أيضاً، احتاجت الدّول المتنافسة، بشكلٍ ماسّ، إلى تطوير مناهج الاقتصاد وخبراته. وجدت هذه الدول المتصارعة نفسها، وبشكلٍ مكثّف، أمام المعضلة التاريخية للدول: الترابط اللازم بين أن تموّل جيشاً وتصمد في المنافسة العسكرية وتحافظ، في الوقت نفسه، على مجتمعك وإنتاجه لتمويل الدولة والحرب. الـ«غوانزي» هو على طريقة «رسائل اخوان الصفا» نصُّ لا يُعرف كاتبه، وقد خطّه على الأرجح مجموعة أفراد، كانوا بيروقراطيين أو مستشارين جعلوه دليلاً للحاكم في إدارة دولته (وهو موضوع على شكل حواراتٍ بين ملكٍ قديمٍ ومستشاريه، يسألهم في أمور الاقتصاد والمال وهم يجيبون).
الغوانزي تنظر إلى السوق والاقتصاد بشكلٍ يختلف تماماً عن النماذج السائدة. السوق عندهم تشبه النّهر، عليك (أي الدولة) أن تؤثّر على منسوبه ومساره، ولكن من غير أن تحاول سدّه ولا أن تتركه على حاله. يجب أن ننظر إلى السلع، بحسب الغوانزي، ضمن ثنائية «الخفيف والثقيل». حين يكون غرضٌ ما نادراً ومطلوباً فهو يصبح «ثقيلاً»، وحين يكون متوافراً يصبح «خفيفاً». حين يتم احتكار سلعة ما تصبح «ثقيلة» فيما تحرير إنتاجها يجعلها «خفيفة». وهذه الطبيعة، كما في حالة الحبوب، قد تتغيّر من موسمٍ إلى موسم، ودور الدولة هو إنفاد لعبة توازن مستمرّة: تشتري الأرز حين يكون «خفيفاً» ورخيصاً، ثم تعيده إلى السوق حين يصبح نادراً و«ثقيلاً» (وتكسب في العملية من غير أن تفرض ضرائب على الناس). وقد تحوّلت هذه الفلسفة بالفعل إلى سياسةٍ لتنظيم وتقنين إنتاج الحبوب استمرّت لأكثر من ألفي عام، وقد تحوّلت في وقتٍ لاحق إلى عملية تمويل بدلاً من شراء الحبوب مباشرة عبر الدولة (تدفع الدولة قروضاً للمزارعين في فصل الربيع، ثم تستردها في فصل الخريف بعد الحصاد. وتقول ويبر إن الحكم الشيوعي استمرّ باعتماد سياسة مماثلة فعلياً، ولكن من غير استيفاء فوائد على القروض).
اللافت هنا هو أنّه حين كان هذا النظام يتوقّف لسبب ما (حرب، تحوّل سياسي...) ويتوقّف «تدخّل الدولة»، النتيجة لم تكن في خروج أسواق «حرّة» ونشطة كما يتوقّع النموذج الليبرالي، بل كان يعمّ الربا والاحتكار، ويتفتّت السوق الوطني، وتسيطر قلّة على فائض القيمة، بمعنى أنّ وقف تدخّل الدولة لم يكن ينتج «سوقاً» بل يخرج عنه «اللاسوق» بتعبير بروديل.
في الوقت نفسه أوصى الغوانزي الحاكم باحتكار الملح والحديد، باعتبارها مواد أساسية و«ثقيلة»، يحتاج لها الجميع وهي أساسية لصنع أدوات الزراعة والإنتاج. الفكرة هنا، بحسب نقاشٍ شهير حول الملح والحديد جرى خلال حكم أسرة الـ«هان»، هي ليست في تشجيع الدولة على الاحتكار، بل هي أن موادّ مثل الملح والحديد هي بطبيعتها احتكارية (مواردها في مناطق نائية، تحتاج إلى رأسمال كبير لاستخراجها...). فإن كان الاحتكار هنا سمةً اجبارية، فليكن احتكاراً للدولة وليس للأفراد وهكذا، يضيف الغوانزي، تحصّل الدولة مواردَ من غير أن تفرض الضرائب.
النقاش هنا يشبه إلى حدٍّ بعيد فكرة بروديل عن «القمم الحاكمة» في الاقتصاد التي يحتكرها الرأسماليون، وتعطي ما يشبه «حلاً» قديماً لهذه المعضلة. تشرح ويبر أن من أسباب الانهيار الاقتصادي لحكومة الوطنيين في الثلاثينيات كان تخلّيها - تحت ضغط مستشارين أميركيين - عن امتياز الملح القديم الذي كان يؤمّن، حتى في تلك المرحلة، قرابة خُمس دخل الدولة.

خاتمة
يقول والرشتاين إن من أهم إنجازات بروديل هو أن نظرته إلى الرأسمالية تتجاوز، في الآن نفسه، النموذج الليبرالي والماركسي الغربيين. وبخاصة فكرة «المسار الإجباري» أو التطوّر الخطّي للرأسمالية (رأسمالية تجارية ثم صناعية ثم مالية)، الذي ينتهي إمّا بسوقٍ مثالية بحسب الليبراليين أو بانفجار النظام والتحوّل التام إلى الشيوعية.
السّوق عند بروديل، بمعناها القديم التنافسي، هو ليس مكاناً سيئاً أو «رأسمالياً» بطبيعته، بل على العكس هو مكانٌ إيجابي وإنساني للتبادل، فيه «حرية» وفيه اتصال بعوالم جديدة. والناس يشعرون بضيقٍ إن منعتهم عن هذا النمط من التبادل الأساسي. المشكلة هي في «اللاسوق» الرأسمالي، الذي يصنع العرض والطلب بدلاً من التفاعل معه، ولا يقبل إلا بالأرباح الكبيرة المضمونة، ويقوم على احتكاراتٍ تحرسها الدولة الرأسمالية.
حين يتكلّم الزعماء الصينيون اليوم عن أهمية التجارة الحرّة والتبادل بلا عوائق سياسية بين الدّول، فهم يقصدون السوق بمعناها التنافسي الحرّ (حيث تفوّقت الصين على أغلب منافسيها)، أمّا منظومة العقوبات الأميركية والتكتلات «المضادّة» والحصار التكنولوجي... فهي كلّها وسائل لتثبيت «اللاسوق» واحتكاراته، الرأسمالية «الحقيقية» التي تقوم، بحسب بروديل، على «مزيجٍ بين القوّة والدّهاء».
المشكلة بالمعنى الأعمق هي أن أكثر الفكر الاقتصادي الذي نستخدمه اليوم للتنظير في شؤون بلادنا وبناء نماذج لها هو فعلياً نتاج «الطابق الأعلى» للرأسمالية، وهذا ينطبق على الليبراليين كما على الكثير ممن يعتبر نفسه يساراً في سياق المركز الغربي (انظروا إلى دايفيد هارفي مثلاً، هذا حتى لا نتكلم عن ذوي السحنات العربية الذين يستوطنون جامعات الغرب ومؤسساته، ويخدمون الإمبريالية بكلّ إخلاصٍ وشراسة ويساريّة). ومن دون نماذج بديلة بشكلٍ جذريّ، فإنك ستعلق إمّا في إطارٍ نظريّ خالص غير قابلٍ للتطبيق، أو ستظل ضمن النموذج الليبرالي الذي يقدّس الأسعار والملكيّة الخاصّة والسلطة الدّولية (وعندها فإنك، وإن حكمت، فلن تقدر على تغيير شيءٍ حقيقي)، وفي الحالتين أنت لن تخدم بلدك.