أصدر المنتدى الاقتصادي والاجتماعي في لبنان، ورقة اقتصادية تحدّد أولويات خطّة إنقاذ الاقتصاد اللبناني. انطلاقاً من أن لبنان محاصر اقتصادياً ومالياً من دول ادّعت صداقتها له لأنها غير راضية عن تنامي دور المقاومة وحلفائها في الحياة السياسية. تخلص الورقة إلى أن لبنان يعاني من بنية هشّة، شديدة التبعية للخارج، وتعمل بمنسوب عالٍ من هدر الموارد المالية والبشرية وتدمير البيئة الطبيعية، وتفاوتات اقتصادية اجتماعية واسعة، تمثّلت بتركّز النشاطات الاقتصادية الأكثر إنتاجية والخدمات العامة الأكثر جودة في بيروت ومحيطها القريب من جبل لبنان، وتركز الدخل الوطني والثروة عند قلة قليلة جداً من اللبنانيين. لذا، ترى الورقة أن الخروج من الأزمة المعيشية الكارثية وإعادة الاعتبار للاقتصاد العيني الانتاجي وتخفيف الانكشاف الاقتصادي تجاه الخارج وخاصة التبعية للغرب، يبدأ من توفير شكة أمن اجتماعي، وتقليص الاستيراد، وعزل حاكم مصرف لبنان ومجلسه المركزي... ثم العمل على أولويات متوسطة المدى ودائمة
أنجل بوليغان ــ المكسيك

أبرز ما في ورقة المنتدى الاقتصادي والاجتماعي، أنها تقدّم مقاربة تربط بين التغيير الاقتصادي والسياسي، وترفض بشكل قاطع الخيارات والتوجهات والسياسات المتبعة منذ الاستقلال، إلى جانب رفضها المطلق أيضاً لخيارات قوى السلطة الحاكمة مثل اللجوء إلى صندوق النقد الدولي للحصول على التمويل الخارجي. كذلك ترفض دعوات الخصخصة التي تشكّل مخرجاً لأصحاب المصارف وكبار المودعين للتهرّب من مسؤولياتهم في تسبّب الكارثة ومعاناة وإذلال المواطنين. بناء النموذج الجديد يعني أن تتقدّم طبقات اجتماعية لا تستند إلى اقتصاد ريعي بل إلى اقتصاد منتج يتلازم مع ثقافة المساءلة والمحاسبة للمسؤولين المرتقبين. نموذج كهذا، يتطلب مراجعة جذرية للبرامج التربوية من الحضانة إلى الجامعي وما بعده، إلا أنه لا يمكن أن يأخذ طريقه إلى حيّز الواقع من خلال المبادئ العامة التي حكمت التطور الاقتصادي الاجتماعي منذ الاستقلال وحتى الآن، ولا سيما المتعلق منها بدور الدولة الاقتصادي والاجتماعي وعلاقة الاقتصاد اللبناني بالخارج. ففي ما يتعلق بدور الدولة، يجب التخلّص من نظام الليبرالية المتفلتة والانتقائية، الذي وضع أجهزة الدولة وسياساتها في خدمة المصالح الخاصة الاحتكارية كالكارتيلات مثلاً، وترك القطاع الخاص يعمل من دون حسيب أو رقيب. لذا ما يقتضي بحسب الورقة، هو:
1- الأخذ بمبدأ التخطيط على المستويين الوطني والمناطقي، بما يؤمّن التكامل والتنسيق بين نشاطات القطاع العام والقطاع الخاص، ويجعلها تصبّ في خدمة الأهداف الاستراتيجية للنموذج العتيد وفقاً لخطّة اقتصادية اجتماعية قطاعية ومناطقية متفق عليها بين أربعة فرقاء هم: الدولة، ممثلو القوى العاملة، ممثلو أرباب العمل، وممثلو الحرفيين والمزارعين.
2- أن تأخذ الدولة على عاتقها تقديم الخدمات الصحية والتعليمية والتأمينات الاجتماعية إلى عموم المواطنين، بالإضافة إلى تأمين البنى التحتية والمرافق العامة.
3- قيام الدولة بدور الموجّه والمحفّز والمنظّم لنشاط القطاع الخاص في مجال الإنتاج، والحلول محله عندما تدعو الحاجة.
بالنسبة إلى العلاقة مع الخارج، يجب تخليص القرار الاقتصادي اللبناني من تبعيته المفرطة تجاه الخارج، وخصوصاً تجاه الغرب، أي أن تكون العلاقات الخارجية خاضعة بالدرجة الأولى لمقتضيات المصلحة الوطنية، واعتبار لبنان جزءاً لا يتجزأ من المنطقة العربية، والعمل على بناء فضاء اقتصادي تكاملي بين أقطار المشرق العربي يندرج بدوره في فضاء اقتصادي تكاملي يشمل جميع الأقطار العربية.
من الأولويات عزل حاكم مصرف لبنان ومجلسه المركزي، لأن الحاكم مسؤول مباشر ورئيسي عن خيارات وصياغة السياسات النقدية وتجاوزات قانون النقد والتسليف وأحكام القضاء والشريك الفاعل في تهريب الرساميل وفي الفساد المالي والنقدي الذي شمل كبار المسؤولين في الدولة اللبنانية


إلى جانب ذلك، ترى الورقة أن هناك تلازماً في التغيير الاقتصادي مع التغيير السياسي. مدخل هذا الأخير هو قانون انتخاب جديد على قاعدة النسبية والدائرة الواحدة أو المكبّرة، بالإضافة إلى تغيير قضائي يؤكّد استقلالية القضاء من التدخّل السياسي، ومراجعة إدارية تعيد الاعتبار إلى الإدارة العامة عبر إعادة هيكلها وفقاً لمتطلّبات المرحلة، وإصلاح تشريعي لمواكبة التغيير الاقتصادي والاجتماعي. في السابق لم تكن موازين القوّة الداخلية والعربية والدولية لمصلحة التغيير، لكن الموازين الداخلية تغيّرت، كما تغيّرت في المشرق العربي وفي الإقليم وحتى دولياً «القوى الحيّة التي شكّلت في الماضي رافعة للتغيير، تلاشت وحلّ مكانها المقاومة اللبنانية (التي حرّرت الأرض وساهمت في دحر الإرهاب التكفيري) وحلفاء هذه المقاومة. هناك سؤال: هل هذه القوى كافية لإطلاق مسيرة التغيير الداخلي وما زال الصراع مع الكيان الصهيوني أولوية للمقاومة؟».
الورقة تحسم بأن لا جدوى من الإصلاح. فالمطلوب التغيير على قاعدة اقتصاد منتج وعدالة اجتماعية في آن واحد. أما الخيار الاستراتيجي، فهو الالتصاق بالمحيط العربي والمشرقي كجزءٍ أساسي، وليس «صلة وصل» مع الغرب كما كان منذ نشوء الكيان اللبناني.
في ما يلي أبرز ما جاء في الورقة:

الأهداف والتوجهات
الرؤية المطروحة لها ستة أهداف؛
• الخروج من الأزمة المعيشية الكارثية التي سبّبتها أزمة مالية خانقة ومفتعلة التي لها أهداف سياسية على الصعيدين اللبناني والإقليمي.
• الخروج من المستنقع الذي يحيط بالنشاط الاقتصادي اللبناني والمضي في إعادة الاعتبار إلى الاقتصاد العيني الإنتاجي عبر دعم كلّ القطاعات الإنتاجية التي أُهملت منذ البدء بالعمل باتفاقية الطائف.
• إعادة التنمية في مختلف المناطق التي أُهملت بسبب سياسات الحكومات المتتالية في حقبة جمهورية الطائف بما فيها مناطق الشمال والبقاع التي تجاهلتها النخب الحاكمة خلال العقود الثلاثة الماضية.
• تقليص هجرة الطاقات المنتجة من عقول ومهارات وإيجاد فرص للإبداع والإنتاج.
• مقاربة الفوارق الاجتماعية التي أوجدتها سياسات الريع والمحسوبية وإهمال الطبقات الوسطى والفقيرة. فلا نهوض اقتصادياً مع إهمال الواقع الاجتماعي بين مكوّنات الشعب في لبنان.
• تخفيف الانكشاف الاقتصادي تجاه الخارج وخاصة التبعية للغرب وفتح آفاق جديدة مع دول الجوار العربي وثم الإقليمي أي الجمهورية الإسلامية في إيران وتركيا، وشرق آسيا عبر الالتحاق بالكتلة الاقتصادية الأوراسية المتجسّدة في طريق الحرير الجديدة.
في التوجهات، ندعو إلى بناء اقتصاد متوازن في القطاعات الإنتاجية والمناطق والطبقات الاجتماعية وخارج عن الطابع الريعي وغير منكشف تجاه الخارج، ونعني هنا الغرب. التوجه جغرافياً واقتصادياً وسياسياً هو نحو الشرق من دون إجراء القطيعة مع الغرب. كما أن التوجه الاقتصادي هو نحو إعادة تأهيل القطاع العام وترشيده والحفاظ على قوّامته وإلزام القطاع الخاص في تنفيذ مسؤولياته تجاه البيئة والأجراء. لذلك المشروع المعروض هو مشروع نمو (بمعنى زيادة المتغيّرات الكلّية كالناتج الداخلي والتجارة الخارجية عبر التصدير والاستثمار العام والخاص على سبيل المثال) وتنموي (بمعنى تطوير مكوّنات المجتمع للوصول إلى الرفاهية عبر التربية والصحة والحفاظ على البيئة والإنفاق على البحوث والتكنولوجيا على سبيل المثال) للبنان. الدقة في التمييز في المصطلحات هدفها إبراز البعد السياسي للمشروع كما هو انعكاس لواقع نريد تغييره بالشكل (نمو وتطوير) والمضمون (الرفاهية) الشاملة.
الخطة المقترحة لا تستند إلى بعض الخيارات التي تريد فرضها الطبقة السياسة الحاكمة كاللجوء إلى صندوق النقد الدولي كركيزة لما يعتبرونها «خطة إنقاذ» عبر الحصول على تمويل خارجي، ولا على دعوات الخصخصة التي تشكّل المخرج لأصحاب المصارف وكبار المودعين للتهرّب من مسؤولياتهم في تسبّب الكارثة ومعاناة وإذلال المواطنين. هناك إجماع في المنتدى حول التحفّظ الشديد تجاه تلك الحلول التي تقوّض استقلالية الدولة وتسهم في تهريب المسؤولية لمن ارتكب الجرائم الاقتصادية والمالية بحق الشعب اللبناني.
رؤية المنتدى للخروج من الأزمة تنطوي على ثلاث مراحل في كلّ منها مجموعة أولويات. هي مجرّد خريطة طريق قابلة للتطوير.

من الضروري إعادة بناء الاقتصاد اللبناني على قواعد جديدة ولا سيما أن جدوى الإصلاح بحدّ ذاته أصبحت غير مجدية إن لم تكن مستعصية



الأولويات في المدى القصير جدّاً
تم ترتيب الأولويات وفقاً للفترة الزمنية الضاغطة على لبنان ضمن فترة تُراوح بين 3 أشهر إلى سنتين.
- توفير شبكة أمن اجتماعي للفئات المتضررة من فقدان الدعم وفقدان العمل وتدهور سعر الصرف. الأولوية هي مساعدة الفئات المسحوقة بسبب التدهور الحاصل في القوّة الشرائية وفقدان الدعم للسلع الأساسية. المقترحات عديدة تتناول إيجاد بطاقة تمويلية تسهّل الحصول على تلك المواد، وتأمين الاستشفاء عبر دعم الضمان الصحي وإلزام المستشفيات باستقبال المرضى، وتوسيع قدرات التعليم في المدارس الرسمية، وتأمين النقل المشترك. إن تمويل هذه الإجراءات يكمن في عدم دفع الفوائد لحاملي سندات الخزينة إلى أن تتم إعادة هيكلة الدين العام.
- استقرار سعر الصرف لليرة اللبنانية (خلال 3 أشهر). الأولوية في توفير استقرار (لا تثبيت) سعر الصرف تعود إلى تداعياته المباشرة على حياة المواطنين. فمعظم حاجات المواطنين مستوردة وحتى الإنتاج الداخلي يتأثّر بسعر الصرف لاستيراد بعض المواد الأولية في صنع المُنتَج. لكن ما هي آليات توفير الاستقرار في سعر الصرف؟ تحديد الطلب على العملات الأجنبية وخاصة الدولار، وتوفير العرض للدولار. هذه البديهيات تستدعي سلسلة من الإجراءات أولها:
• التدقيق الجنائي في وزارة المالية ومصرف لبنان.
• عزل حاكم مصرف لبنان ومجلسه المركزي فوراً وإحالة الحاكم إلى القضاء. فالحاكم في رأي المنتدى، مسؤول مباشر ورئيسي في خيارات وصوغ سياسات نقدية، وتجاوز قانون النقد والتسليف وأحكام القضاء، والشريك الفاعل في تهريب الرساميل إلى الخارج، والشريك في الفساد المالي والنقدي الذي شمل كبار المسؤولين في الدولة اللبنانية. تهرّبه ومماطلته في التعاون لإنجاز التدقيق الجنائي قرينة أساسية على تثبيت مسؤوليته. وهو الذي يتبجّح بأن الاقتصاد اللبناني أصبح «مدولراً» بنسبة 80%، وبالتالي مخالفاً لمهمته الأولى، وهي الحفاظ على النقد اللبناني واستقراره. يعود ذلك إلى سياساته التي هدّدت الأمن القومي اللبناني وقد ترتقي إلى مستوى الخيانة العظمى! كما أن طواقم المجلس المركزي القديمة، ولجان الرقابة السابقة على المصارف مسؤولون عن عدم مراقبة المصارف وسلوكها، وبالتالي يتحمّلون مسؤولية مع حاكم مصرف لبنان لما جرى وما زال جارياً.
• عدم التعامل بالدولار في المبادلات الداخلية دون استثناء كما هو مطلوب قانوناً، وتجريمه إذا لم يلتزم اللبنانيون بهذا القرار. التسعير للسلع والخدمات يجب أن يكون بالليرة اللبنانية ولا داعيَ ولا مبرر لحمل الدولار. هذا يخفّف من الطلب على الدولار النقدي.
• استيراد بعض المواد الأساسية من دول شقيقة وصديقة تقبل أن يكون الدفع بالليرة اللبنانية مع فترات تسامح تريح الخزينة والاقتصاد. هذا سيخفف من الطلب على الدولار ويحفظ إلى حدّ ما الاحتياط العام للنقد الأجنبي.
• تخفيف الاستيراد قدر الإمكان وقد حصل ذلك فعلاً بسبب جائحة الكورونا وشحّ الدولار. لكن في مرحلة إعادة بناء الاقتصاد اللبناني يجب أن تكون سياسة الاستيراد مرتبطة بحاجات الاقتصاد اللبناني قبل الإقبال على الكماليات. الصناعات الوطنية لها أولوية ويجب حمايتها من الإغراق التجاري التي تمارسه بعض الدول عبر دعم صادراتها. هذا يتطلّب مراجعة كلّ الاتفاقيات التجارية التي جعلت الساحة اللبنانية مرتعاً للبضائع الأجنبية وعلى حساب البضائع الوطنية. ويواكب ذلك، مراجعة داخلية للوكالات الحصرية التي تفرض ممارسات احتكارية تمسّ بأمن المواطن اللبناني في قطاعات الدواء والغذاء وغيرها ورفاهيته في العديد من السلع.
• إيقاف لفترة سنتين، عمل الصيرفيين كي لا تكون لهم إمكانية للتداول بالعملات الأجنبية. فالحصول على النقد الأجنبي وخاصة الدولار يجب أن يكون عبر المصارف ولأغراض مشروعة كالسفر والتجارة والاستثمار.
• في سياق تخفيف الطلب على النقد الأجنبي يجب ضبط إيقاع التحويل إلى الخارج وفقاً لمعايير تتفق مع السياسة النقدية والمالية التي يجب وضعها لتوفير الاستقرار في سعر الصرف. حرّية التحويلات إلى الخارج يجب أن تكون مقيّدة حتى استعادة عافية الليرة اللبنانية وفي ما بعد مرتبطة بسياسة نقدية متماهية مع مشروع التنمية الاقتصادية التي تحدّدها الخطة المركزية. فالاستيراد يجب أن يرتبط بحاجات الاقتصاد وليس بأولوية الاستهلاك وخاصة في الكماليات. لا نطالب بإلغائها ولكن بعقلنة الاستيراد بما يفيد الاقتصاد اللبناني وتسديد الحاجات التي لا تستطيع البنية الإنتاجية في لبنان توفيرها. الحرّية المفرطة للتجارة الخارجية والتحويلات المالية التي ترافقها كانت من أسباب الأزمة الاقتصادية والنقدية والمالية التي يمرّ بها لبنان. فالحرّية الاقتصادية بالمطلق وهم يجب العزوف عنه وإحلال الواقعية في تقدير حاجات البلد وليس وفقاً لرغبات القوى المهيمنة على الاقتصاد الوطني التي يجب إخضاعها لمستلزمات الخطة الوطنية. دراسة النموذج الصيني قد تكون مفيدة من تجربة ناجحة حقّقت أرقاماً قياسية في النمو والتنمية واستطاعت خلال عقدين رفع أكثر من 250 مليون صيني من مستوى الفقر إلى مستوى الطبقة الوسطى.
في ما يتعلّق بزيادة عرض الدولار، فهذه عملية قد تأخذ وقتاً لجهة إعادة الاعتبار للتصدير وإعادة تأهيل القطاع السياحي. فمثل هذا الأمر يتطلّب فترة قد لا تقلّ عن ستة أشهر. لكن من ضمن الإجراءات التي قد تكون فورية لو كانت هناك موافقة دولية على ذلك فهو الضغط لاسترجاع الأموال المهرّبة إلى الخارج. لكن هذا الضغط لن يحصل إلا مقابل ثمن قد لا تتحمّله الدولة اللبنانية. لذا نعتقد أنه من الأنسب اعتماد حلول لا ترتكز أساساً على مساعدة غربية مالية ولا التعويل على رغبتها في ردّ الأموال المهرّبة. يعود ذلك إلى ما لهذه الدول من مسؤولية في تغطية المسؤولين عن الأزمة في لبنان خلال العقود الماضية وإلى أجندتها السياسية تجاه لبنان والمنطقة التي لم تتغيّر حتى الساعة رغم التغيير في موازين القوّة على الصعيد الدولي والإقليمي لمصلحة المحور الذي يناهض هيمنتها.
بالمناسبة، ليست هناك دراسة تستطيع أن تجزم كيف يتم تحديد سعر الصرف. بدعة «السوق» هي تغطية للتلاعب في الطلب والعرض، والقطاع المصرفي هو المسؤول الأول عن ذلك. سعر الصرف هو سلاح ضاغط على الشعب اللبناني ليقبل بحلول لا يمكن قبولها في أحوال طبيعية. وبما أن الاستيراد تراجع بشكل ملحوظ (من نحو 19 مليار دولار إلى أقل من 12 مليار دولار)، فإن الحاجة إلى الدولار قد تكون تراجعت إذا اعتبرنا العامل الاقتصادي الصرف. الطلب على الدولار ما زال عملاً سياسياً للضغط ليس إلا.
- توفير السلع الضرورية (فترة بين 3 و6 أشهر)
هناك عروض لتزويد لبنان بسلع ضرورية كالمشتقات النفطية والأدوية والقمح. يمكن توسيع الرقعة لضم بعض السلع الغذائية التي باتت مفقودة كاللحوم والدجاج. هذه الإجراءات تسهم في دعم شبكة الأمن الاجتماعي. كما يمكن تحفيز زيادة إنتاجها محلياً بسرعة، خصوصاً أن قسماً مهماً منها كان يُنتج في العقود السابقة.
- إلغاء أو تجميد الديون الاستهلاكية وديون الإسكان (خلال شهرين). يمكن إلغاء الديون الاستهلاكية لدى المصارف أو تعليق تسديدها دون فوائد لفترة سنة حتى تستعيد الليرة عافيتها وتعود العجلة الاقتصادية إلى دورتها الطبيعية.

الأولويات في المدى القصير/المتوسط (من سنة إلى سنتين)
- إعادة هيكلة الدين العام (6 أشهر/سنة). تسهم إعادة الهيكلة في تحقيق الاستقرار لسعر الصرف، وإن لم تكن هناك علاقة عضوية بين المسألتين، بل هي علاقة «انطباع» حول مصداقية السياسات الاقتصادية بشكل عام والمالية والنقدية بشكل خاص. هناك طريقتان لإعادة الهيكلة: مقترح النقيب أمين صالح، عبر تغطية خسائر أطراف عدة وإلغاء الدين العام، وطريقة توزيع عبء الهيكلة على المصارف وكبار المودعين وحماية الودائع التي تقل عن نصف مليون دولار. الطريقتان تتكاملان ويمكن العمل بهما في آن واحد. الطريقتان تهدفان إلى تخفيف عبء خدمة الدين العام وتحرير موارد الموازنة لأغراض الخدمات الاجتماعية وإعادة تأهيل البنى التحتية وتنميتها.
وفي إطار إعادة هيكلة الدين العام يشدّد المنتدى الاقتصادي والاجتماعي على ضرورة إجراء التدقيق الجنائي بغية الحصول على الأموال المنهوبة والمهرّبة إلى الخارج.
- إعادة هيكلة القطاع المصرفي (من سنة الى سنتين) ما سيكون له تأثير مباشر على القطاع المصرفي بشقَّيه العام والخاص.
• في ما يتعلّق بالشق العام، إن الأولوية لإعادة هيكلة مصرف لبنان بدءاً من رأس الهرم، فالمجلس المركزي، ثم لجنة الرقابة على المصارف، الذين أخلّوا بمسؤولياتهم الرقابية على سلوك حاكم مصرف لبنان والمصارف. في مراقبتها للمصارف أخلّت لجنة الرقابة على المصارف بأبسط قوانين توزيع الأصول والاستثمارات، وغضّت النظر عن المحفظات المالية المرتكزة إلى سندات الخزينة والقطاع العقاري وأصبحت المصارف رهن الصحة المالية للدولة وهي مدركة بتردّي الوضع المالي للدولة. وما زاد الطين بلّة هو سوء الائتمان تجاه المودعين بسبب سياسات الجشع التي اتبعتها المصارف والتي لم تحاسبها لجنة الرقابة على المصارف. المطلوب إذاً، في ما يتعلّق بمصرف لبنان، إعادة النظر في الكوادر على قاعدة كفاءات وغير مرتبطة بالقطاع المصرفي.
• القاعدة التي يجب أن تحكم مفهوم إعادة هيكلة القطاع المصرفي، تكمن في الخروج عن الدور الوظيفي التاريخي للقطاع ما قبل نشأة الكيان ولا سيما في حقبة الطائف. المطلوب هو تغيير دور القطاع المصرفي من قطاع اقتصادي يبغي الربح فقط إلى قاعدة المنفعة العامة (public utility) أسوة بقطاعات الكهرباء والمياه والاتصالات والتربية والاستشفاء والمطار والمرفأ وسائر المرافق الاقتصادية العامة. والقطاع المصرفي يجب أن يكون في خدمة الاقتصاد الوطني أولاً، وليس في خدمة المساهمين كأولوية. لذا، نرى من الضرورة إعادة النظر في عدد المصارف وملكيتها لتصبح خادمة للمصلحة العامة ولسياسات التنمية التي تتبعها الدولة. تجربة «القرض الحسن» التي أوجدها حزب الله، وأيضاً عدد من مؤسسات الاقتراض للمنشآت الصغيرة الأخرى في عدة مناطق كالتعاونية اللبنانية للإنماء وجمعية التضامن المهني وصندوق كاريتاس وغيرها، جميعها تجارب جديرة بالدرس كنموذج آخر ومختلف للعمل المصرفي الذي يخدم المجتمع ويحافظ على الأموال المؤتمن عليها.
• تقليص عدد المصارف عبر عمليات دمج وتصفية إلى 10-12 مصرفاً في كل لبنان إضافة إلى المصارف القطاعية.
• زيادة رأس المال.
• إعادة النظر في الملكية مع إعطاء الأولوية للملكية الشعبية (تعاونية، تعاضدية، مفتوحة للجمهور).
• ضمان سلامة ودائع المودعين الصغار وأصحاب المدّخرات الصغيرة والمتوسّطة (تحت المليون دولار) والنظر في شرعية الودائع الكبيرة العائدة إلى موظفين وضباط وسياسيين ومقاولين مرتبطين بالطبقة السياسية.
- تنشيط ودعم القطاعات الإنتاجية والحماية من الإغراق التجاري (من سنة إلى سنتين). الدعم يكون من خطوط تمويلية على المدى المتوسط والطويل بفوائد مخفّضة لنشاطات تعتبرها الخطة الاقتصادية من أولوياتها. معيار الدعم لهذه القطاعات هو إمكانية إنتاج قيمة مضافة ودورها الاستراتيجي في الاقتصاد. الإنتاج الذي يستند فقط إلى الدعم لا أفق اقتصادياً له، فهو يستنزف قدرات الدولة ولا يأتي بقيمة مضافة للاقتصاد. التنافسية تساهم في الإنتاجية وبالتالي التركيز يكون على تنمية الإنتاجية لتصبح المشاريع منتجة. هنا نرى مدى ترابط البحوث في التطوّرات التكنولوجية من أجل الإنتاج كسبيل للتطوير.
- إنشاء مصارف للصناعة والزراعة والسياحة والتكنولوجيا (سنتان) مملوكة من الدولة لتنفيذ مقتضيات الفقرة السابقة.
- إنشاء هيئة تخطيط مركزي (6-خلال أشهر/سنة) تدليلي، قائمة على رباعية الدولة والأجراء والمزارعين والحرفيين وأرباب العمل.
- إعداد خطة مركزية لفترة ثلاث سنوات للإجراءات السريعة ثم لفترة خمس سنوات لإعادة تأهيل البنى التحتية والتربية واستيعاب البطالة وتنفيذ الإعداد خلال فترة لا تتجاوز السنة؛
• المباشرة بتشجيع القطاعات الإنتاجية في الزراعة والصناعة والسياحة والخدمات ذات القيمة المضافة وليست الريعية.
• إعادة تأهيل البنى التحتية من طرقات، شبكات مياه، نفايات إلخ.
• تأهيل وتحديث سكة الحديد التي تربط العاصمة بالشمال والجنوب والبقاع تمهيداً لربط السكة بحمص وحلب من جهة والشبكة الإقليمية: دمشق وبغداد وعمان في مرحلة أولى تمهيداً لربط جميع العواصم العربية وذلك عبر عملية بناء - تشغيل - وتحويل.
- إعادة تأهيل قطاع الكهرباء وبناء محطات حرارية وكهرومائية وتطوير الطاقات المتجددة (الطاقة الشمسية، طاقة الرياح وغيرهما).
- إعادة تأهيل المرافئ في بيروت وطرابلس وصيدا على طريقة بناء-تشغيل-وتحويل (BOT) (3 أشهر-سنة)، سواء من خلال عروض صينية، أو ألمانية، أو روسية، أو غيرها.
- استخراج الغاز والنفط في المربّعات غير المتنازع عليها وتنمية تكرير وتصنيع النفط والغاز لاستعمال منتجات البتروكيماويات والغازوكيماويات في الصناعة والزراعة وللتصدير.
- ترشيد النفقات العامة وإعادة النظر في هيكلية الضرائب المباشرة وغير المباشرة؛
• إلغاء المؤسسات الرديفة (صندوق الجنوب، صندوق المهجّرين، الهيئة العليا للإغاثة، مجلس الإعمار، وعدد من المؤسسات العامة المماثلة) وإعادة وظائفها للوزارات المعنية.
• إيقاف التوظيف في الإدارة خارج إطار مجلس الخدمة المدنية.
• جعل الضرائب تصاعدية لتخفيف الفجوات الاجتماعية ولإعادة توزيع الثروة على قاعدة أوسع عبر تقديم خدمات اجتماعية وبنى تحتية تساهم في رفاهة المواطن.
• تحسين الجباية ومنع التهرّب الضرائبي.
• ترشيد مصلحة كهرباء لبنان وعدم اللجوء إلى الخصخصة. فالاحتكار الخاص أسوأ من احتكار الدولة.
- إعادة النظر في شرعية ومردودية استثمار الأملاك البحرية المحمية من قوى سياسية على قاعدة عدم المس بأملاك الدولة العقارية وغيرها.
- إعداد شبكة أمان اجتماعية تدريجية شاملة لضمان الشيخوخة، ولضمان البطالة، ولضمان المزارعين والحرفيين، ولضمان الصحّة الشامل بعد تأمين سلامة صندوق الضمان الاجتماعي وإعادة أمواله.
- التوجه شرقاً يبدأ بالتفاهم مع سوريا لتمكين عودة النازحين السوريين تمهيداً لفتح صفحة جديدة تؤدّي إلى التشبيك الاقتصادي مع سوريا. مبادرة الرئيس عون خطوة في الاتجاه الصحيح. التشبيك يكون في إعادة إحياء سكة الحديد، والتنسيق في إنتاج الطاقة، والاستثمارات المشتركة في الصناعة والزراعة، وإعادة البناء.

أولويات المدى الطويل والدائمة
- التربية والتعليم: مجانية التعليم في كلّ المراحل (ابتدائي، ثانوي، جامعي)، إعادة النظر في البرامج التربوية والتركيز على العلوم والتربية المدنية، الأولوية للمدارس الرسمية وإعادة تأهيلها بالبناء والمعدات والكوادر، الأولوية للجامعة اللبنانية، الإنفاق على التربية والتعليم لا يجب أن يقل عن 6% من الناتج الداخلي.
- الاستثمار في التكنولوجيا والبيئة والمواصلات والذكاء الاصطناعي: الاستثمار في حاضرات بحثية (technopolis) تجمع نشاطات التعليم العالي والبحثي العلمي والتكنولوجي والإنتاج في مجال التقنيات المتقدمة، الاستثمار في الطاقة المتجددة النظيفة (طاقة شمسية، طاقة الرياح وغيرهما)، الطاقة النووية السلمية.
- الاستثمار في اقتصاد المعرفة.
- تطوير وتنمية الموارد المائية: إعادة تأهيل سدّ القرعون واستكمال سدود مشروع الليطاني (سد الخردلي وسد ميفدون) وسد الهرمل على نهر العاصي، تنفيذ السدود (90) المدروسة في كل المناطق المستوفية شروط الجدوى التقنية والاقتصادية والبيئية، تكرير المياه الآسنة واستعمالها للري.
- استقطاب التنمية الصناعية وإنشاء مدن صناعية كاملة التجهيز (أرض / مبان صناعية / ماء / كهرباء / تدريب / فروع مصرفية / مستوصفات / مطاعم / صالات عرض للإنتاج). في كل المناطق انطلاقاً من عواصم المحافظات والأقضية والبلدات الكبيرة. على أن تكون هذه المناطق الصناعية بقربها مناطق سكنية للعاملين فيها وأسرهم، مجهزة إضافة الى المساكن ببنية تحتية تجارية وثقافية (مسارح، سينمات) وترفيهية لاجتذاب عنصر الشباب إليها ومدارس مهنية وعامة. وذلك مساهمة في الإنماء المتوازن جغرافياً وللحد من اكتظاظ المدن وخاصة العاصمة وضواحيها ومن أجل التصنيع المحلي للإنتاج الزراعي والحيواني والمنجمي وغيرها من فروع الصناعات.
- تعميم وتعزيز تجربة اتحادات البلديات وجعلها مستقلة عن وصاية وزارة الداخلية وتوسيع صلاحياتها ومواردها المالية لتكون عنصراً فعّالاً في إنماء مناطقها بالتنسيق مع الخطة الوطنية التدليلية، وذلك في العديد من القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والصحية.

الموقّعون أعضاء الهيئة التأسيسية للمنتدى الاقتصادي الاجتماعي حسب التسلسل الأبجدي
أمين صالح، بشارة مرهج، بشير المر، بطرس لبكي، جورج قرم، حيان سليم حيدر، خليل بركات، رياض خليفة، زياد حافظ، ساسين عساف، عصام نعمان، عماد شبارو، عمر زين، غادة يافي، غياث يافي، معن بشور، ملحم سلمان ونجيب عيسى

هذه الورقة من إعداد:
زياد حافظ
(باحث وكاتب اقتصادي وسياسي لبناني والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي)
أمين صالح
(النقيب السابق لنقابة المحاسبين المجازين في لبنان)
نجيب عيسى (اقتصادي لبناني)
بطرس لبكي (اقتصادي لبناني).