ترصّد الدول التي تخطّط لاستضافة دورة الألعاب الأولمبيّة، أو أيّ أحداثٍ رياضيّة كبيرة مماثلة، ميزانيّاتٍ ضخمة لبناء منشآت رياضية. لاحقاً تكتشف هذه الدول أنّها أنفقت مبالغ كبيرة على منشآت تشغيلها منخفض وكلفة صيانتها كبيرة. ففي النتيجة يكون المردود منخفضاً أو حتى خاسراً. هذا الرهان ينطوي على مخاطر أخرى متّصلة بتقليص الإنفاق على البنية التحتيّة العامة التي يحتاجها البلد على المدى المتوسط والطويل في مقابل التركيز على القطاعات الخدماتية التي يفترض أن تخدم هذه الأحداث الرياضية. يظهر كل ذلك عندما ينتهي الحدث، إنتاجيّة متدنية مقابل كلفة تشغيل وصيانة مرتفعة. الأحداث الرياضية الكبرى قد تكون مشروعاً خاسراً للدول، لا بل إن بعض هذه الدول عزفت عن المنافسة على استضافة أحداث كهذه حتى تتجنّب هذه الخسارة.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

تبديد المال العام
قبل نحو 30 سنة كان معدل كلفة استضافة دورة الألعاب الأولمبية الصيفية 9.7 مليار دولار. اليوم تضاعفت نحو ثلاث مرات لتصبح 28 ملياراً. هذه الكلفة تتأثّر ارتفاعاً أو انخفاضاً، تبعاً للاستثمارات التي سبق أن قام بها البلد المضيف في مجال البنية التحتية الرياضية، ما يخفّف عنه أعباء إنفاق استثماري إضافي على بنية تحتية جديدة مخصصة لاستضافة الحدث الرياضي من دون أن يكون لديه حاجة لها، أي لا ضمانة بأنها ستحقق أيّ مردود خارج المدى الظرفي والآني. رغم ذلك، تتهافت الدول على أحداث كهذه، فاليابان مثلاً أنفقت نحو 175 مليون دولار لإنجاز ملف تقديم طلب استضافة الألعاب الأولمبية الصيفية من ضمنها نحو 150 مليون دولار رسوماً للجنة الأولمبية الدولية. وفي العموم، تنفق الدول أكثر من 150 مليون دولار على ملّفاتها تمهيداً لإنفاق مليارات أخرى كاستثمارات.
انكلترا مثلاً، أنفقت أكثر من 14 مليار دولار لاستضافة دورة الألعاب الصيفيّة منها نحو 4.5 مليارات دولار من المال العام (من أموال الضرائب). القسم الأكبر من هذه الأموال خُصّص لإنشاء بنى تحتية رياضية مقابل نسبة ضئيلة من الإنفاق على البنية التحتية العامة. الصين أيضاً أنفقت نحو 40 مليار دولار بحسب أرقام غير رسمية. اليونان أيضاً كان له نصيباً بشعاً كونه أعلن إفلاسه لاحقاً بسبب مديونيّته المرتفعة للاتحاد الأوروبي. ففي عام 2004 أنفق اليونان نحو 15 مليار دولار. رغم ذلك هناك دولٌ أنفقت أقلّ بمردودٍ أفضل، ففي عام 2000 لم يتجاوز إنفاق استراليا أكثر من 5 مليارات على استضافة الاولمبياد بسبب جهوزيّة منشآتها وبنيتها التحتية.
تخصيص مبالغ كبيرة من المال العام على نفقات من هذا النوع ليس أمراً مرغوباً. ينظر إلى هذه الاستثمارات من زاوية مدى جدواها للمجتمع والاقتصاد. فهي أموال جمعت من الضرائب المفروضة على الأفراد والشركات، وبالتالي فإنّ إنفاقها على خدمتهم يقع ضمن مسار ردم فجوة اللامساواة. لذا، إنّ استخدام هذه الأموال في مجالات مجدية هو الهدف الذي تقوم عليه حملات رفض استضافة الأحداث الرياضية، ولا سيما تلك التي تتطلب منشآت لا تحقق مردوداً مستقبلياً.

إنفاق هائل على العلاقات العامة
بعض الدول تدرك وجود مردود اقتصادي متدني، لكنها تنظر إلى الأمر من زاوية سياسية، إذ تعتبر أن الاستضافة هي بمثابة حملة علاقات عامة. هنا أيضاً ينظر إلى تبديد المال العام على حملة علاقات سياسية مريبة. فبعض هذه الدول تزيد ديونها الخارجية من أجل تغطية متطلبات الاستضافة. هذا النوع من الديون هو الأخطر على الدول. طبعاً لا يمكن النظر إلى كل الأحداث الرياضية من الزاوية نفسها، لكن الأولمبياد هو إحدى هذه الزوايا المثيرة للقلق. اليابان مثلاً فازت باستضافة دورة الألعاب الأولمبية الصيفية للعام 2020 في إطار هدف سياسي واضح؛ رئيس الوزراء شينزو آبي، كان يرغب في تكرار تجربة رئيس الوزراء الياباني الأسبق نوبوسوكي كيشي، الذي أشرف على أولمبياد عام 1964، وأعاد من خلاله وضع اليابان على الخريطة الدولية. في حينه، أظهرت اليابان تقدّمها التكنولوجي مقارنةً بباقي دول العالم. لكن خطّة آبي باءت بالفشل. فبحسب تقرير نُشر في مجلة «فوربس» بتاريخ 27/7/2021، فإن خطّة آبي للنهوض الاقتصادي «تلقت ضرباتٍ كبيرة خلال هذه الفترة، ولم تستفد من الألعاب الأولمبية لتحقّق النهوض في اليابان». وبحسب كاتب التقرير ويليام بيسك، فإنّ الضربة الكبيرة التي تلقّتها اليابان كانت جائحة «كورونا» التي لم تكن متوقّعة. بسببها تأجّلت الألعاب الأولمبية سنة كاملة (من صيف 2020 إلى صيف 2021)، كما أفقدت اليابان أكثر من 40 مليون سائح مرتقب حضورهم لمشاهدة المنافسات. كذلك تأثّرت الخطة المفترضة بفضيحة هروب الرئيس السابق لتحالف عملاقي السيارات نيسان - رينو، اللبناني كارلوس غصن، بالإضافة إلى فضيحة أخرى في شركة «توشيبا»، وفق التقرير. وخلال هذه السنوات أيضاً وبسبب الاستثمارات في البنية التحتية الرياضية الخاصة بالأولمبياد، ارتفعت فاتورة الاستيراد في اليابان بمعدل 0.2%، انعكس سلباً على الاقتصاد الياباني.
قبل نحو 30 سنة كان معدل كلفة استضافة دورة الألعاب الأولمبية الصيفية 9.7 مليار دولار واليوم تضاعفت نحو ثلاث مرات لتصبح 28 ملياراً


ثمة مثال آخر عن الاستضافة السياسيّة منها الألعاب الاولمبية الشتوية في سوتشي 2014 إذ أنفقت الحكومة الروسية عليها نحو 50 مليار دولار (الرقم الرسمي الذي نشر قارب الـ30 ملياراً)، لكي يبرز صورة روسيا في العالم، ويعطي انطباعاً للغرب أن روسيا قويّة وعادت إلى مكانها الطبيعي على جميع الصعد.

مسار الاستدانة
هذا النوع من الأحداث، أو المغامرات ذات الطابع السياسي يوقع الدول في فخ المديونية. اليابان لم تكن تحتاج إلى الوقوع في هذا الفخّ كونها تحتلّ الموقع الأول في الدّين نسبة إلى الناتج المحلي، لكنّ الإغراء دفعها إلى تكرار سلوكها، أي المزيد من الاستدانة. فبحسب دراسةٍ نشرتها جامعة أوكسفورد، كانت الكلفة التقديرية لألعاب طوكيو تبلغ 15 مليار دولار، إلاّ أن جائحة كورونا والإنفاق الكبير على القطاع الصحي، بالإضافة إلى حجم المنشآت والتأجيل حتى عام 2021، فاقم كلفة الإنفاق على الأولمبياد لتبلغ 25 مليار دولار. وبحسب «فوربس»، حاولت الحكومة اليابانية أن تضخّ تريليوني دولار من أجل تحفيز الاقتصاد لمواجهة الانكماش، إلاّ أنّ ذلك لم ينجح. في الواقع، إنّ خسائر اليابان ستكون كارثيّةً مقارنةً مع الكلفة التقديرية التي كانت تبلغ 7 مليارات دولار على الاستثمارات، وذلك من دون احتساب تراجع مردود السياحة المتوقعة من هذا الحدث.
اليابان ليست وحدها على هذا المسار. تشير «أوكسفورد» إلى أنّ جميع الدورات الأولمبية التي نُظّمت من عام 1960 تخطّت الميزانيّات المفترضة بنحو 172%. فالخسائر لا تتعلّق بالكلفة المباشرة على إنشاء البنية التحتية والنفقات الجارية خلال الاستضافة، بل في الخسائر اللاحقة التي تكمن في صيانة المنشآت الجديدة من بنى رياضية وخدمات عامة مخصصة لاستيعاب ملايين السياح والمتنافسين من جسورٍ وطرقات ومطارات وفنادق... البرازيل مثلاً، ما زالت تعاني من كلفة استضافة مونديال 2014 ودورة الألعاب الأولمبية 2016، لجهة صيانة المنشآت والملاعب. فقد تبيّن في بطولة كوبا أميركا أنّ هذه الملاعب ليست بحالة جيدة أبداً بسبب الإهمال. البرازيل لم تتمكّن من تخصيص مبالغ كافية لصيانة هذه المرافق. صحيح أنّ الأولمبية الدولية، سوّقت بأنّ دورة ريو دي جينيرو خلقت أكثر من 16 ألف فرصة عمل للبرازيليين، إلاّ أنّ هذه الفرص كانت مؤقّتة. وما أُشيع عن أنّ إنفاق الحكومة البرازيلية لن يتخطّى الـ5 مليار دولار، تبيّن أنه كلام خاطئ إذ إن النفقات تجاوزت 12 مليار دولار، أسهم في تدهور الاقتصاد البرازيلي المتأزّم أصلاً منذ 2012. كما أنّ العديد من الفنادق التي أُنشئت خصّيصاً للأولمبياد، أقفلت أبوابها نتيجة غياب الفعاليّات والأحداث الرياضية الكبيرة عن البرازيل منذ عام 2016.


تجنّب الخسائر
الخسائر الاقتصادية الكبيرة للدول الناتجة عن استضافة الألعاب الأولمبية، أو غيرها من الأحداث الرياضية الكبيرة، أدّى إلى عزوف دولٍ كثيرة عن تقديم طلباتٍ للاستضافة. النرويج قبل ثلاث سنوات رضخت للمطالب الشعبّية بعدم التّرشح إلى أولمبياديّ 2024 و2026 الشتويّ والصيفيّ، وكذلك فعلت بولندا وألمانيا وسويسرا والسويد وأوكرانيا، لأنّها لم تتمكن من تبرير جدوى المشاركة في التنافس على الاستضافة. فرنسا في المقابل، تتجه لاستضافة أولمبياد 2024 بسبب جهوزيّتها المرتفعة على جبهة البنية التحتية الرياضية. 95% من المنشآت جاهزة بعد استضافة «يورو 2016»، كما أنّ القطاع الخاص سيقدّم نحو 10 مليارات دولار من كلفة الألعاب، أي أنّه لن يتم تحميل الخزينة الكثير من الأعباء.
في الواقع، بدأ الأمر يؤخذ في الحسبان. فبسبب الخسائر الكبيرة التي تقع بها الدول، تتّجه الأولمبية الدولية إلى إجراء إصلاحات في ملفّ الاستضافة تؤدي إلى خفض الأكلاف والاكتفاء بالملاعب الموجودة في كلّ دولة، وعدم طلب بناء منشآت جديدة.