بعد صيام أشهر عن اقتراح أيّة حلول، تمخّض المعنيون بقطاع النقل في لبنان فولدوا اقتراحاً كارثيّاً ينكّل بقطاع النقل المشترك من خلال زيادة عدد اللوحات الحمراء (المخصّصة للنقل المشترك) في السوق بنحو 20 ألف لوحةٍ إضافية. فالاقتراح يأتي تحت عنوان معالجة تداعيات الأزمة على قطاع النقل، بينما هو في الواقع يعيد إنتاج القطاع على صورته السابقة، أي تحويله إلى منفعةٍ زبائنيّةٍ خاصة. الاقتراح جاء على يد بعض «الخبراء» ونقابات سائقي النقل المشترك ولجنة الأشغال العامة والنقل والطاقة والمياه في مجلس النواب (جمع كل هذه القطاعات في لجنة واحدة معجزة بحد ذاتها) برئاسة النائب نزيه نجم (تيار المستقبل) وعضوية نواب من جميع الكتل النيابية «كلها يعني كلها». كلهم، كانوا شركاء في تكوين شكل القطاع الراهن، وفرة في اللوحات العمومية، غياب شبه كامل للتنظيم، بلا أيّ رؤيةٍ اقتصادية واجتماعية. لعلّهم يطلبون أن يبقى القطاع على حاله، بينما لبنان يغرق في أزمة تتطلّب النهوض نحو مستقبلٍ جديد.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

للوهلة الأولى يبدو أنّ اقتراحاً من هذا النوع قد يخفّض استعمال السيارة، وبالتالي يخفّف استهلاك البنزين المستورد بالدولارات النادرة التي يملكها لبنان في حسابات المصرف المركزي بالعملات الأجنبية، لكنّ المستغرب أن يأتي الاقتراح في ظلّ قرارٍ غير منفّذ منذ نيسان 2000 والقاضي بسحب 10 آلاف لوحةٍ من التداول. فبدلاً من سحب هذا العدد من اللوحات، يعمد القيّمون على القطاع إلى زيادتها بنحو 20 ألفاً. للمفارقة، إنّ القرار الصادر في نيسان 2000 لم يكن سوى محاولةٍ لتصحيح القانون رقم 384 في تشرين الثاني 1994، والذي أجاز وضع عددٍ كبيرٍ من اللوحات في التداول وسمح لكلّ صاحب لوحة عمومية بتملّك لوحةٍ أخرى مجاناً من دون أي دراسة لحاجات السوق أو لتوزيع عرض النقل المشترك على المناطق. فبموجب هذا القانون ازداد عدد اللوحات في حينه، من 10650 لوحة إلى 33290 خلال سنتين فقط (1996-1998)، ما أدّى إلى إغراق السوق بسيارات الأجرة التي تعمل بشكل عشوائي في كل المناطق. ولا يخفى على أحد أن صدور هذا القانون لم يأتِ رأفةً ولا اهتماماً بالنقل المشترك بمقدار ما كان طريقةً لشراء الذّمم والتبشير بالاستزلام السياسي والزبائنيّ.
اليوم، مع الاقتراح المطروح، تستعيد القوى نفسها أو غالبيتها، في خضمّ الأزمة الاقتصادية وبحثها المستمرّ في إنعاش الزبائنية والمحسوبية، اقتراحاً زبائنياً يثير الكثير من التساؤلات: بناءً على أي معطيات نوقشت هذه الفكرة؟ هل يعلم من اقترحها ما هو عدد مركبات النقل المشترك وتوزّعها وقدراتها الاستيعابية ونسب استعمالها؟ كيف ستوزّع اللوحات على سيارات الأجرة والباصات والفانات؟ وفق أي آليةٍ سيتم تسعير وبيع اللوحات وتوزيعها على المناطق؟
وفق التجارب السابقة يمكن الاستنتاج يقيناً بأنّ أحزاب السلطة ستوزّع اللوحات المصدرة وفق الاقتراح، على قاعدة الانتماء الحزبي والمناطقي من دون أيّ اعتبار لحاجات السوق والعرض والطلب. الفائدة التي ستعود على أحزاب السلطة تتمثل في شراء ولاء من سيحصل على هذه اللوحات. كلّ حامل لوحة سيحصل على تغطية صحية من الضمان الاجتماعي بموجب القانون ما يمثّل «خدمةً» قيّمةً في هذه الظروف الصعبة. وبالتالي سيتعزّز الولاء السياسي الزبائنيّ ويصبح حاملو اللّوحات بمثابة أصوات انتخابية لمن «ساعدهم» في الحصول على اللوحة.
تحاول قوى السلطة استعادة نفوذها الزبائنيّ من خلال ضخّ 20 ألف لوحة عمومية إضافية في السوق


كلّ ذلك يأتي على حساب خراب النقل المشترك. فهل فكّر هؤلاء بما سيحلّ بمن سيتملّك لوحةً عموميةً متوهّماً أنّها «باب رزق» إذا تبيّن بعد فترة أنّها استثمارٌ غير مثمر، وخصوصاً إذا ظلّت كلفة استعمال السيارة تنافس كلفة استعمال النقل المشترك وتهيمن على نموّ الحصّة السوقية المتوقعة للنقل المشترك؟
ومن المعلوم أيضاً أنّ قطاع النقل المشترك محتكر من شبكات زبائنية تحكم آليّات عمله. هي جزءٌ من منظومة قوى السلطة وتعمل من أجل بقائها. هذه الشبكة مؤلفة من أفراد أو شركات أو جماعات تملك عدداً كبيراً من اللوحات وتشغلّها أو تؤجّرها. لذا، من الواقعية الاستنتاج بأن هذه الشبكة ستنقضّ على شراء أعدادٍ كبيرة من اللوحات المطروحة حديثاً وخصوصاً في ظلّ الضائقة المالية وعدم قدرة شريحة كبيرة من الناس على تحمل تكلفة شراء لوحات جديدة.
إذا ابتعدنا قليلاً ونظرنا إلى نظام النقل بكليّته سيبدو لنا جليّاً بأن هذه الفكرة أتت خارج أي خطةٍ شاملة للنقل البري، ما يدلّ على سوء نوايا مقترحيها. أصلاً مقترحيها هم في صلب منظومة السلطة التي حوّلت قطاع النقل العام إلى سوقٍ لتداول ريع اللوحات. والاقتراح يظهر أن قطاع النقل هو آخر اهتمامات هذه السلطة، ويكشف عن عجزها وفشلها في التّعامل مع الأزمة ونتائجها. فعلى المدى القصير، إن إقرار هذا الاقتراح لن يمرّ بدون مشاكل حيث لن يقبل مشغّلو النقل المشترك الحاليّون، بهذه السهولة، مزاحمتهم على ركّابهم (على قلّتهم) أو بزيادة المنافسة في سوق ضيّقة بينما هم يرزحون اليوم تحت وطأة منافسةٍ غير شرعية تقدّر بنحو 20 ألف مركبةٍ مخالفة (أرقام تقديرية)؟
ما الذي سيحلّ بمشغّلي نحو 73 ألف مركبة (نحو 53 ألف مركبة حالياً زائداً 20 ألف لوحة وفق الاقتراح الأخير) بحال تمّ إقرار أي مشروع نقل مشترك؟ ألا يستوجب الأمر سحب اللوحات من العمل أو استبدال نطاق عملها؟ ألم يكن الأجدر بالقيّمين على القطاع، العمل على سحب ثلث أسطول النقل المشترك الذي يعمل بطريقةٍ مخالفة، وتحسين شروط عمل وتشغيل النقل المشترك الحالي، وتنفيذ مشاريع حقيقية لتوفير انتقال الأفراد والبضائع بدلاً من حلول الترقيع ذات الأثار السلبية؟
إن السّير بهذا الاقتراح من عدمه، لا يلغي حقيقة أن هذه السلطة، تدين نفسها بنفسها. فمن المستحيل على أيّ كان، تصديق أنّ من دمّر النقل المشترك وأرسى اعتماداً كبيراً على السيارة، استيقظ فجأة ليصبح مهووساً بإقرار خطوةٍ تهدف إلى تحسين النقل المشترك. فالوضع المأساوي للنقل المشترك، جُوبِه خلال أزمة النقل الحالية، بمضاعفة إهماله. من أبرز نتائج هذا السلوك الطلب من البنك الدولي تحويل مبلغ الـ295 مليون دولار التي كانت مخصّصة لقرض الباص السريع، إلى البطاقة التموينية. الإصرار على التنكيل بهذا القطاع في ظل الأزمة لن يحول دون الوقوع بما وقعت فيه فنزويلا. فقد كان لدى هذا البلد نظام نقل مشترك أفضل نسبياً مما هو عليه في لبنان، لكنّه أصبح بعد انهيارها ضعيفاً جداً، وأصبحت تنقلات السكان تعتمد بشكلٍ كبير على المشي لمسافات طويلة جداً يومياً (قد تصل لثلاث ساعات)، أو على شاحنات صغيرة استُبدلت فيها البضائع بالركاب بعدما أصبح شبه مستحيل على مشغلي مركبات النقل المشترك، الخاص والعام لا سيّما المترو، تسديد كلفة تشغيل وصيانة المركبات. في نهاية المطاف تحولت هذه المركبات إلى خردة. وفي لبنان لا نبدو بعيدين عن هذا المشهد رغم أننا نملك سيارات ثلاث مرات أكثر من فنزويلا (نسبة لعدد السكان) وذات قطاع نقل مشترك أضعف نسبياً من النظام الفنزويلي.

* باحث مختص في أنظمة النقل وعادات التّنقل