مثّلت أواخر السبعينيات حقبة أساسية لدمج الديون كأحد الخصائص الاستعمارية الحديثة. ففي منتصف هذه الفترة أدّى ازدهار الاقتصاد النفطي إلى تراكم كمية هائلة من رأس المال في أيدي الغرب. وقد خلق تراكم رأس المال هذا صعوبات لدى دول أوروبا والولايات المتحدة لإيجاد استثمارات مناسبة ينتج عنها عوائد عالية. في ظلّ هذا الواقع الجديد، لم يكن أمام البلدان النامية التي كانت ترغب في السعي وراء النموّ والتقدّم وتمويلهما إلا خيار الاستدانة. وفي تلك الفترة كان الحديث عن ضرورة الدين كأداة للتنمية قد أصبح مكتملاً. إلا أن هذا النهج من الاستدانة لتحقيق التنمية والازدهار لم ينتهِ بطريقة جيدة بالنسبة إلى الدول المدينة. وكما يشير فيروز مانجي وكارل أوكويل، فإن معظم المراقبين يتّفقون على أن السياسات النيوليبرالية لصندوق النقد والبنك الدوليين أدت إلى زيادة اللامساواة والفقر على الأراضي الأفريقية في العقود القليلة الماضية. ونتيجة لذلك، أعطت المديونية وكالات الإقراض القدرة على فرض سياساتها النيوليبرالية الخاصة بها على البلدان النامية. فهم أصبحوا حكّام اقتصادات ما بعد الاستعمار.إن المظهر الحالي للاستعمار الذي يظهر على شكل «الديون مقابل التنمية»، ليس إلا نتيجة للمسار الذي بدأ منذ الأيام الأولى للاستيطان العسكري الاستعماري الاستبدادي. ورغم أن بعض الاختصاصيين يقولون بأن التنمية في وضعها الراهن لا تمثّل العقلية الاستعمارية الجديدة، إلا أنه يكاد يكون هناك إجماع حول الوجه الاستعماري للتنمية في السياق التاريخي. تحليل مرحلة ما بعد الاستعمار في أدبيات التنمية هو المسؤول عن تحديد الروابط بين الاستعمار والتنمية في البلدان النامية. فمن الواضح أن مرحلة «التنمية» التي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية وانتهاء حقبة الاستعمار بوجهه المعروف في أغلبية بلدان العالم الثالث، لا يمكن أن تُفهم إلا بشكل تسلسلي تاريخي. يصرّ منظرو ما بعد مرحلة التنمية على أن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحالية في البلدان النامية، بالإضافة إلى استمرار الاهتمام الغربي بالعالم الجنوبي، يجب أن تُفهم من خلال العدسة الاستعمارية التاريخية. ويعتبر الاختصاصيون مثل مانجي وأوكويل أن التنمية هي أداة الاستعمار لمواصلة سلوك تحكّم المستعمرين في جميع أنحاء الأراضي المستعمَرة. ولتوضيح هذه الفكرة، سنأخذ الحالة الأفريقية كمثال.

العدوان الاستعماري الأكبر
مرّت العلاقة بين دول أفريقيا، كدول نامية، والإدارات الاستعمارية، في ثلاث فترات. الأولى، هي فترة الاستعمار، أو فترة ما بين الحربين العالميتين، حيث تم تكريس كل جهد القوى الاستعمارية لإضفاء الشرعية على تدخّلها الاستعماري في هذه البلدان. والثانية، هي «إجراءات الرفاهية» بعد عام 1940، عندما يدخل العديد من الجهات الفاعلة الدولية في أعمال التنمية. والثالثة، كما ورد في مقدّمة المقال، عندما أصبح الدين صفة فعلية للتنمية بعد تراكم رأس المال في أيدي الغرب.
خلال هذه المرحلة الأولى، كانت خصائص الاستعمار موجّهة نحو استغلال الموارد، والاستبعاد العنصري، والسيطرة العسكرية على الأفارقة وأراضيهم. ورغم أن بعض الخدمات الاجتماعية لم تكن بعيدة المنال بالنسبة للأفارقة، إلا أن القوى الاستعمارية رفضت تمويل وتسهيل عملية تطوير أنشطة الرعاية الاجتماعية هذه، في حين خصص المستعمرون إنفاقهم الرئيسي لهدف تعميق قوة المستوطنين البيض. في حين كانت الجماعات التبشيرية والجمعيات الخيرية مسؤولة عن بعض الدعم الاجتماعي وضروريات المعيشة للأفارقة الريفيين.
في فترة ما بعد عام 1940، بعد الحرب العالمية الثانية، ساهمت التغيّرات المهمة التي فرضتها الحرب في تشكيل الحكم الاستعماري. ومن العوامل التي ساهمت في تشكيل هذه المرحلة: أولاً، الضغوط المالية التي مرت بها القوى الإمبريالية بعد الحرب المرهقة. ثانياً، الحركات الوطنية المناهضة للاستعمار والتي أعدها العمال الأفارقة الأصليون الذين بدأوا في تحقيق حقوقهم في التمتع بالرفاهية وإدارة عملية التنمية من خلال تحدّي ظلم السلطات الاستعمارية. وثالثاً، تجلّت ولادة النظام الدولي الإنساني من خلال مشاركة العديد من المنظمات مثل الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية في جميع أنحاء إفريقيا.
في هذه الفترة، شهد النظام الدولي ظهور مفاهيم مثل «المساعِد مقابل المساعَد»، و«المتحضر مقابل البدائي»، حيث نشأ الانقسام العرقي عن طريق تصنيف العالم وتقسيمه بين دول العالم الثالث التي تحتاج إلى مساعدة، ودول أخرى، على وجه التحديد الدول الغربية، التي تلعب دور المساعد والنموذج الرائد للنجاح في العالم.
نتيجة لهذه التغيرات، تحوّل اعتماد القوى الاستعمارية إلى الاستغلال والإقصاء العنصري من أجل السيطرة على المستعمَرين. وأدّى ذلك إلى فقدان الاستعمار العسكري كفاءته وموثوقيته، ما دفع المستعمِرين لإيجاد بدائل لمواصلة مشاريعهم الاستغلالية. لذلك، كان خلق مفهوم التنمية هو الحل. في هذه المرحلة، بدأ الاستعمار تجربة هذه التعديلات ودخل مرحلته الجديدة، حيث وُلد مفهوم الاستعمار الجديد. وتم استبدال الفترة الاستعمارية المباشرة بسلوك استعماري جديد غير مباشر ينتج عنه استغلال شبيه بالاستعمار، كانت خصائصه الرئيسية، كما يلاحظ دي جاي مورغان، هي اعتماد المقاطعات المستعمرة الإجباري على مواردها البشرية في التنمية الاجتماعية. دفع هذا القوى الاستعمارية إلى الاستثمار بكثافة في التخطيط طويل المدى للتعليم. ما حدث هو أن القوى الاستعمارية في الخمسينيات من القرن الماضي (كانت هذه الفترة معروفة بشكل خاص للسلطات البريطانية بعصر إعداد المستعمرات لحكم ذاتي بعيد المدى) بدأت في تحويل الإدارة إلى جيل خاص من الأفارقة المتعلمين.
تم اختراع شركات التنمية الاستعمارية أيضاً في أواخر الأربعينيات وفي الخمسينيات، ما أدى إلى مشاركة الإداريين الاستعماريين في خدمات الرعاية الاجتماعية للأراضي المستعمرة، مثل التعليم والرعاية الصحية والزراعة. يذكر كيرك جرين أن مفهوم الإدارة الاستعمارية في هذه الحقبة لم يكن يتعلّق فقط بالقوانين، ولكن أيضاً بالتنمية الاجتماعية والفوائد الاقتصادية. وبدأ عمل الضباط الاستعماريين يتغيّر في مظهره بين ما قبل الحرب العالمية الثانية وما بعدها. فقد تحوّل عملهم من حكم الإمبراطورية والحفاظ عليها وعلى الفوائد الاستعمارية من خلال العدوان الاستبدادي المباشر لاستغلال الموارد إلى الحفاظ عليها من خلال التنمية الاجتماعية والاقتصادية للمستعمرات.
إن المظهر الحالي للاستعمار الذي يظهر على شكل «الديون مقابل التنمية» ليس إلا نتيجة للمسار الذي بدأ منذ الأيام الأولى للاستيطان العسكري الاستعماري الاستبدادي


يعتقد فردريك كوبر وإليزابيث غارلاند وجون رابلي أن هذا التدخّل في التنمية الاجتماعية الاقتصادية كان لتأمين مكتسبات المستعمر بطريقة لا تخاطر بوجوده على المدى الطويل. ويقولون إن التنمية، كأداة، ساعدت المستعمرين أكثر من الاستعمار المباشر. وقد تم تأطير سلوك أداة التنمية من خلال تمكين «الطبقة العرقية» التي تم إنشاؤها سابقاً من المتعلمين الأفارقة ومساعدتهم وتقديم المشورة لهم في قضايا المعيشة مثل الزراعة والرعاية الصحية واستخدام المياه. وتجدر الإشارة إلى أن هذه المرحلة لم تكن لتصل إلى الاستدامة لولا إقامة هذه «الطبقة الإثنية» الجديدة التي تخضع لقوى الاستعمار التي قامت بتعليمها.

موازين بناء الأنظمة
تعكس العلاقة بين الاستعمار والتنمية مفارقة الحياد في عملية التنمية في عالمنا. من الواضح أن الاستعمار قد شهد تحولاً في خصائص حكمه، ما أدّى إلى مراحل مختلفة من مظاهره. لكن هذا لا يعني أن جميع التدخلات التنموية هي تدخلات استعمارية، ولا كل استيطان استعماري سيحقق التنمية. ومع ذلك، فإنه يوضح أن البلدان المتقدمة التي تعرض التنمية يمكن أن يكون لها مخطّطات استعمارية وجشع على موارد الدول التي تحتاج إلى التنمية. كما أنه يوضح أن عملية التنمية تستلزم خصائص الاستعمار من خلال تجميع القوّة حصراً بأيدي أصحاب المصلحة، ومن خلال تأطير الضعف الاقتصادي عند الأطراف الأخرى التي تحتاج إما إلى خبرة إنمائية أو تطلب ديوناً للمساعدة الإنمائية. باختصار، إن التنمية، باعتبارها مظهراً من مظاهر الاستعمار الجديد، لديها قوّة بناء أنظمة مستقطَبة، حيث يكون أحد أطرافها معتمداً بشكل كامل على الآخر ويخضع لإرادته، والأخير لديه القدرة على استغلال موارد الأول.

المراجع:
■ Bornstein, Erica. 2005. The Spirit of Development: Protestant NGOs, Morality, and Economics in Zimbabwe. Stanford, Calif.: Stanford University Press.

■ Chandra, R. (1992) Industrialisation and Development in the Third World (London: Routledge)
Crush, J. (Ed.) (1995) Power of Development (London: Routledge)
Cornia, et al., Adjustment with a humanface

■ Cornwall, Andrea. 2006. Historical Perspectives on Participation in Development. Commonwealth and Comparative Politics 44(1):62–83.

■ Cooper, Frederick. 1997. Modernizing Bureaucrats, Backward Africans, and the Development Concept.

■ In International Development and the Social Sciences: Essays on the History and Politics of Knowledge, edited by Frederick Cooper and Randall Packard. Berkeley, Calif.: University of California Press.

■ Garland, Elizabeth. 1999. Developing Bushmen: Building Civil(ized) Society in the Kalahari and Beyond. In Civil Society and the Political Imagination in Africa: Critical Perspectives, edited by Jean Comaroff and John Comaroff. Chicago: University of Chicago Press.

■ Hödl, Gerald, and Martina Kopf. 2011. “Developing Africa: Development Discourse(s) in Late Colonialism.”Paper presented at a workshop, Department of African Studies, University of Vienna. http://hsozkult.geschichte.hu-berlin.de/tagungsberichte/id=3558.

■ International NGO Training and Research Centre, Direct findingfrom a southern perspective: strengthening civil society? (Oxford: International NGO Training and Research Centre.

■ Kebede, Messay. 2011. African Development and the Primacy of Mental Decolonisation. In Philosophy and African Development: Theory and Practice, edited by Lansana Keita. Dakar: CO DESRIA.

■ Kirk-Greene, A. (2000) Britain’s Imperial Administrators, 1858–1966 (Basingstoke: Macmillan).
■ Kothari, Uma. 2006. From Colonialism to Development: Reflections of Former Colonial Officers.
Commonwealth and Comparative Politics 44(1):118–136.
■ Manji, Firoze, and Carl O’Coill. 2002. The Missionary Position: NGOs and Development in Africa. International Affairs 78(3):567–583.

■ Morgan, D. (1964) Colonial Development (London: Macmillan)
■ Rapley, John. 2007. Understanding Development: Theory and Practice in the Third World. Boulder, Colo.: Lynne Rienner Publishers.

■ Zein-Elabdin, Eiman Osman. 2011. Postcoloniality and Development: Development as Colonial Discourse. In Philosophy and African Development: Theory and Practice, edited by Lansana Keita. Dakar: CO DESRIA.




تابع «رأس المال» على إنستاغرام