في أواسط عام 2019 أخذت تظهر بوادر أزمة مصرفية مالية تمثّلت بتسارع استنزاف احتياطي البنك المركزي من العملات الصّعبة وبداية شحّ السيولة لدى المصارف التجارية وفرض قيودٍ غير نظاميّة استنسابية على عمليّات السحب والتحويل. وترافق ذلك، كما اتّضح لاحقاً، مع عمليّات تهريب الودائع إلى الخارج. وفي وسط الهلع الذي تسببت به الانتفاضة للمنظومة المالية والسياسية الحاكمة، جرى إغلاق المصارف لمدة عشرة أيام هُرِّب خلالها المزيد من الودائع إلى الخارج. ما أدّى إلى تفاقم أزمة السيولة لدى المصارف وتدهور متسارع في سعر صرف الليرة. وهذا بدوره زاد من هلع المنظومة الحاكمة، فانفرط عقد التسوية التي جاءت بالعماد عون إلى رئاسة الجمهورية واستقالت حكومة سعد الحريري. وصار كلّ من الأطراف السياسية يتنصّل من المسؤولية عمّا وصلت إليه الأمور ويلقيها على الآخرين، إلى حدّ أن بعضاً من هذه الأطراف سعى إلى الالتحاق بركب الانتفاضة. ولم تنجح الجهود التي بُذلت من أجل تشكيل حكومة جامعة لمختلف القوى السياسية، تعمل لوقف التدهور وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. فكان أن أزيحت التوافقيّة جانباً وجرى تشكيل حكومة «اختصاصيين» برعاية الأغلبيّة النيابية. وقامت هذه الحكومة على عجل بإعداد خطّة «تعافٍ» حرصت على تضمينها بنوداً تتماشى بشكل عام مع وصفات صندوق النقد الدولي. لكن جمعية المصارف وحاكم مصرف لبنان، بالإضافة إلى معظم الطبقة السياسية وبينهم أطراف راعية للحكومة، عارضت بشدّة هذه الخطة، بخاصة ما يتعلق منها بتقييم الخسائر وتوزيعها على مختلف الأطراف. وبعد انفجار مرفأ بيروت واستقالة حكومة دياب واستفحال جائحة كورونا، صارت الأزمة عامة. وبدأ الانهيار على مختلف الصّعد الماليّة والمصرفيّة والنّقدية والاقتصادية والاجتماعية. فتسارعت وتائر ضمور الناتج المحلي الإجمالي، وتدهور سعر صرف الليرة واستنزاف احتياطي العملات الصعبة، وارتفاع معدلات التضخم والبطالة والفقر. وعلى خطٍّ موازٍ أخذت أزمة النظام السياسي تزداد عمقاً ويظهر معها المدى البعيد الذي وصل إليه إفلاس المنظومة الطائفية التي تقبض على خناقه. فالصراعات المحتدمة بين أطرافها استمرّت، تحول دون تشكيل حكومة جديدة، وتركت حكومة تصريف الأعمال وحاكم البنك المركزي، يسيران بالأوضاع نحو المزيد من الانهيار. وسواء تشكّلت الحكومة أم لم تُشكّل يبقى السؤال عمّا يمكن أن تؤول إليه الأزمة، مطروحاً.في ضوء ما تقدم بخصوص العوامل التي تحكّمت بالمسار الذي أخذه، تاريخياً، تطوّر لبنان السياسي والاقتصادي، فإن على من يحاول استشراف المستقبل أن يبحث في ما إذا كان التاريخ سيُعيد نفسه مرة أُخرى، وتنتهي هذه الأزمة بإعادة إنتاج قاعدتي النظام نفسهما؛ الطائفية السياسية والاقتصاد غير المنتج وإن بشكلٍ مختلف. أم أن الظروف الداخلية والخارجية أصبحت ناضجةً لإحداث تغييرٍ بنيوي يذهب باتجاه تحقيق وعود الجمهورية الأولى والثانية بإلغاء النظام الطائفي وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المتوازنة؟
نلاحظ، بهذا الخصوص بداية، أن الأزمات الحادّة التي مرّ بها لبنان سابقاً، لا سيما الأزمة التي تحولت في عام 1975 إلى حربٍ أهلية، كان بُعدها السياسي طاغياً إلى حدٍّ بعيد على بُعدها الاقتصادي الاجتماعي. لكن الأزمة الحالية جاءت مزدوجة، فالبُعد الاقتصادي الاجتماعي الذي أخذته لا يقل حدّة عن البُعد السياسي. ليس هذا فحسب، بل إنّ أحد البُعدين صار يغذّي الآخر. فهل إن هذا المعطى الجديد يحمل في طياته إمكانية انفتاح الأفق أمام التّحول إلى نموذج سياسي اقتصادي اجتماعي جديد؟
لقد شكّل العامل الاقتصادي الاجتماعي، وليس السياسي كما في السابق، السبب المباشر لانفجار الأزمة الحالية. فشهد لبنان انتفاضةً جماهيرية لم يعرف مثيلاً لها من قبل. فلأول مرة تنزل إلى الساحات جموعٌ غفيرة من مختلف المناطق والطوائف والفئات الاجتماعية، مع حضورٍ شبابي ونسائي لافت، للاحتجاج على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردّية رافعة، على غرار الانتفاضات العربية التي سبقتها، شعار «الشعب يريد إسقاط النظام». ما ولّد انطباعاً بأن مسيرة التغيير النّوعي للنظام اللبناني قد انطلقت. لكن مع مرور الأيام، أخذ الأمل بهذا التغيير يتلاشى، فصارت الانتفاضة تفقد شيئاً فشيئاً زخمها، ولم يبقَ من المحتجّين سوى عددٍ قليل نسبياً توزّعوا في مجموعات وساحات مختلفة الألوان السياسية والاجتماعية، تردّد شعاراتٍ فضفاضة، ولكلّ منها طريقته الخاصة في الاحتجاج. وقد لعبت المنظّمات غير الحكومية المموّلة من الخارج دوراً بارزاً على هذا الصعيد. وهكذا، لم يخرج من حشود الأيام الأولى كتلة شعبيّة متماسكةً ووازنة تسير وراء قيادةٍ موحّدة، وتحمل برنامجاً للتغيير الفعلي، واضح الأهداف على الصعيدين السياسي والاقتصادي الاجتماعي، ومزوّد بخريطة طريقٍ وأُطر تنظيميّة وتعبويّة تُمكّن من تحقيق هذه الأهداف. ولهذا القصور أسبابه الموضوعية، فإذا كانت الجموع قد نزلت إلى الساحات تحت وطأة الأزمة المعيشيّة التي طاولت بشكلٍ أو بآخر جميع أفرادها، فإنّ مكوناتها الاجتماعية والسياسية كانت تتحرّك على أرضيّة من المصالح والتّوجهات والأجندات المختلفة عموماً، والمتناقضة أحياناً كثيرة. ما جعلها لا تجتمع على تشخيصٍ واحدٍ لأسباب الأزمة، ولا على برنامجٍ واحدٍ للخروج منها. هذا من جهة ومن جهة ثانية غاب عن ذاكرة أو وعي المنتفضين أن إسقاط نظام لبنان سيكون أصعب بكثير من إسقاط الأنظمة العربية لأنه لم يكن، كما كانت هذه الأنظمة، برأس واحد. وعوضاً عن أن يؤدّي ازدياد الأزمة حدّة، ورزوح المزيد من شرائح المجتمع تحت وطأتها، إلى اتقاد جذوة الانتفاضة من جديد، وبعث الأمل في بروز الكتلة الاجتماعية الدّافعة نحو التغيير الجذري، سارت الأمور في الاتجاه المعاكس وذهبت الانتفاضة إلى المزيد من التشرذم. وأصبحت أكثر عرضة للاختراق من قبل أحزاب السلطة والجهات الأجنبية. فتخلّت مجموعات عديدة، عمليّاً، عن شعار «كلن يعني كلن»، وباتت ترى عدوّها في طرفٍ معيّن من منظومة السلطة دون غيره. وانسحب عدد كبير من الناشطين من الساحات وأصاب الإحباط عدداً آخر. وذهب قسم من هؤلاء ليرى في التّدخل الأجنبي على شكل انتدابٍ وحتى احتلال، السبيل الوحيد المُتاح للخروج من الأزمة. وفي هذا السّياق الذي أخذته الانتفاضة، باءت بالفشل جميع المحاولات التي جرت لجمع ما تبقّى من مكوّناتها في جبهةٍ واحدة.
مع انحسار زخم الانتفاضة وخروجها من دائرة التأثير المباشر على مجريات الأمور، أخذت مراكز القوى السياسية الطائفية، بعد الهلع الذي أصابها في الأيام الأولى، تستعيد قواها داخل طوائفها. واستخدمت لذلك شتّى الوسائل (تقديم المساعدات المختلفة، التّنصل من المسؤولية عن الأزمة وإلقائها على الغير، المشاركة بشكل أو بآخر في الاحتجاجات أو قمعها...). وفي هذا السياق، أخذت الصّراعات بين هذه القوى تشتد حدّة، إلّا أنها لم تخرج عن الطابع المزدوج (الداخلي والخارجي) الذي أخذته الصراعات الملازمة للأزمات السابقة، إنما بصيغة معدّلة اقتضتها الإزدواجية السياسية الاقتصادية في الأزمة الحالية. وتلازم ذلك مع اشتراط مصادر التمويل الغربية والعربية التوافق على تشكيل حكومةٍ تكون قادرة على القيام بالإصلاحات النيوليبرالية المعروفة وإلّا لن يتمكّن لبنان من الحصول على التّمويل اللّازم لانتشاله من الهوّة التي سقط فيها. وترافق هذا الشرط مع شرطٍ آخر ضمني يمهّد لنزع سلاح حزب الله ويقضي بأن لا يكون لهذا الحزب أيّ وجودٍ مباشرٍ أو غير مباشر في الحكومة العتيدة. وبذلك احتدم الصراع على جبهتين: واحدة دارت على ساحة ما تتطلبه خطّة الإنقاذ العتيدة من تحديدٍ للخسائر وتوزيعٍ للمسؤوليات. وتحوّلت هذه المسألة إلى مادّة لتصفية الحسابات بين أطراف المنظومة السياسيّة المالية، يحاول كلٌ منها، من خلالها تجنّب تسديد أيّ ثمن سياسي أو مادي يمكن أن يترتب عليه، ويعمل، من ثم، جاهداً على تحميل هذا الثمن للأطراف الأخرى، مستخدماً لذلك مختلف الوسائل، في مقدّمها إثارة النّعرات الطائفية. أما الجبهة الثانية فدارت على السّاحة ذات البعد الدولي ــ الإقليمي. إذ انساق عددٌ من مراكز القوى السياسية مع بعض مجموعات الانتفاضة وراء موقف الولايات المتحدة وحلفائها الخليجيّين، المطالبين بتجريد حزب الله من سلاحه. باعتبار هذا السلاح والدور الفاعل الذي يلعبه الحزب في الصراعات الدائرة في المنطقة، المسبّب الرئيسي للأزمة والمعيق في الوقت نفسه للخروج منها. ونلاحظ في هذا السياق، أنّ أي من أطراف الصراع لم يكن لديه، بعد أن طُويت خطّة التعافي، رؤية واضحة لكيفية الخروج من الأزمة بجانبها المالي الاقتصادي الاجتماعي، وتُرك الوضع على هذا الصعيد يسير نحو الانهيار الشامل. وفي ما يتعلق بالجانب السياسي من الأزمة، أخذت تطفو على السّطح أفكاراً ومشاريعَ للتغيير بقيت في دائرة النظام الطائفي.
عوضاً عن أن يؤدّي ازدياد الأزمة حدّة ورزوح المزيد من شرائح المجتمع تحت وطأتها، إلى اتقاد جذوة الانتفاضة وبعث الأمل في بروز الكتلة الاجتماعية الدافعة نحو التغيير الجذري، ذهبت الانتفاضة إلى المزيد من التشرذم

وإن خرجت منها فإلى الأسوأ (إجراء انتخابات نيابيّة مبكرة، إعادة تحديد صلاحيّات مواقع السلطة التنفيذية، المثالثة بدل المناصفة، إعلان لبنان دولةً محايدة، الفدرالية، التقسيم...). ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية الاجتماعية أصبحت شرائح المجتمع المتضرّرة، وهي أكثريّة اللبنانيّين الساحقة، مسكونةً بهاجس تجنب المزيد من الانهيار في مستوى معيشتها والسعي كلٌ بمفرده وراء ما هو متاح، الآن وليس غداً، من وسائلَ لمعالجة الوضع المتدهور (الهجرة، المساعدات التي تقدّمها الأُطر العائلية والطائفية والحزبية والمنظمات غير الحكومية، وصولاً إلى استخدام البعض لوسائل غير شرعية...).
وعلى خطٍ موازٍ للسياقَين السيّاسي والاقتصادي، صارت الانقسامات العمودية في المجتمع اللبناني تأخذ، لناحية حدّتها وخطورتها، أبعاداً لم تعرفها من قبل. فبات الكلام على مسؤوليّة أيّ من الجهات السياسية أو المالية أوالاقتصادية أو الادارية، عن جانبٍ من جوانب الأزمة، يعتبر استهدافاً للطائفة التي تنتمي إليها هذه الجهة. ومن متابعة ما يقال ويكتب في وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام المرئي والمسموع والمكتوب، يظهر المدى البعيد الذي وصل إليه انفلات الغرائز الطائفية. فقد صارت هذه الوسائل عبارة عن متاريس وخنادق يتبادل اللبنانيّون من خلالها قذائف الحقد والكراهية المؤججة للأحقاد والعداوات بين مختلف مكوّنات مجتعمهم المتفسّخ أصلاً .
إنّ ما تقدّم ذكره من وقائع يشير إلى انسداد الأفق في الوقت الحاضر أمام بروز قوة اجتماعية سياسيّة قادرة على أخذ لبنان إلى نظام سياسي واقتصادي جديد. كما يُشير في الوقت نفسه إلى عدم بروز قوة أخرى قادرة بمفردها على إعادة إحياء النظام الحالي المحتضر، بحلّةٍ جديدة. وهذا ما يقودنا إلى التّساؤل عمّا إذا كان الخارج هو الذي ستكون له، كما في السابق، اليد الطولى، في تحديد الوجهة التي ستأخذها الأزمة؟

* أستاذ وباحث في الاقتصاد السياسي

* هذه الحلقة الثانية من سلسلة مؤلّفة من ثلاث مقالات مقتطفة من نصّ أكبر أعدّه الدكتور نجيب عيسى بعنوان: «مسألة التغيير في لبنان: جدليّة الخارج والطائفية السياسية والاقتصاد غير المنتج». وهذا النصّ هو عبارة عن أجزاءٍ مكثّفة من مخطوطةٍ يعدّها للنشر في كتاب موضوعه «اقتصاد لبنان السياسي». سيتم نشر النصّ كاملاً على الموقع الإلكتروني بعد نشر المقالات الثلاث.

اقرأ دراسة «مسألة التغيير في لبنان: جدليّة الخارج والطائفيّة السياسيّة والاقتصاد غير المُنتج» هنا.




تابع «رأس المال» على إنستاغرام