تعرض لبنان خلال الفترة السابقة إلى عملية إفلاس ممنهجة، فقد تبيّن أن كل النفقات العمومية للحكومات اللبنانية سواء من داخل الموازنة أو خارجها قد بلغت 240 مليار دولار لغاية 31/12/2019، منها نحو 88 مليار دولار هي فوائد الدين العام، أي ما نسبته 41% من مجمل الإنفاق العام، وفي بعض السنوات بلغت فوائد الدين العام 110% من واردات الدولة. فالأزمة ليست بالكهرباء أو الرواتب والأجور. أنفقت الحكومة على الرواتب والأجور 31% (نحو 73 مليار دولار) وعلى الكهرباء نحو 15% (نحو 26 مليار دولار) أما فوائد الدين العام فهي كتلة الإنفاق الكبرى ومكمن المشكلة والأزمة.بمراجعة كل هذه الأمور ومقارنتها مع ما كان يحصل في المصرف المركزي وفي المصارف، نلاحظ أن المصارف لغاية تاريخه كانت تربح دائماً وفي سنة 2019 صدر تقرير جمعية المصارف من دون حساب الأرباح والخسائر خلافاً لكل السنوات الماضية وصولاً حتى 1993، ما يعني أن المصارف ما زالت تحقق أرباحاً ولكن تعمدت إخفاءها. وكمؤشّر على ذلك ارتفاع رساميل المصارف من 29 مليار دولار سنة 2014 إلى 37 مليار دولار عام 2018 دون إدخال مساهمين جدد. وقد تراوحت نسبة توزيع الأرباح من 79% عام 2014 إلى 93% عام 2017، وأي عملية لإعادة هيكلة المصارف ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار هذه الحقيقة.
المصارف في الحقيقة، كانت تُشكّل عبئاً على الاقتصاد اللبناني. يكفي أن نراجع التاريخ لنتبيّن أن الحكومة دفعت بين 1982 و1991 نحو 179 مليار ليرة لبنانية على المصارف المتعثّرة، وهناك عمليات قامت بها المصارف خارج قانون النقد والتسليف، سواء عمليات مضاربة أو عمليات شراء سلع وعمليات على الذهب. وبالنتيجة أصيبت بالصدمة عندما انخفضت الفائدة في أميركا وانخفض سعر الذهب، فأصيبت بخسائر محققة. حينها قامت سويسرا بوضع 5 مصارف لبنانية على اللائحة السوداء.
هل المصارف فعلاً أودعت هذه الودائع لدى المصرف المركزي أم هي عمليات قيود دفترية لا أكثر ولا أقل؟


وبمراجعة مختلف المصادر يتبين أن هناك أرباحاً فائضة لم تصرح عنها المصارف إلى وزارة المالية، كما لم تدفع الضرائب المتوجبة عليها، وبالتالي فإن الأسباب الحقيقية للمشكلة تكمن في الدين العام وفوائده فهي التي أوصلت المالية العامة إلى ما وصلنا إليه.
هناك حسابان في ميزانية مصرف لبنان، حساب اسمه عمليات على أدوات مالية وهذا ثابت، وحساب آخر اسمه موجودات أخرى. يخفي كلاهما خسائر بقيمة 95 ألف مليار ليرة، أي نحو 63 مليار دولار هي خسائر البنك المركزي نتيجة سياسته النقدية الفاشلة، ويجب استثناء قيمة الذهب عند حساب الخسائر والمقدّر بـ26467 ألف مليار ليرة لأنه ممنوع تسييله وبيعه بحسب قانون النقد والتسليف. فهو لا يُشكّل موجودات حقيقية قابلة للتحقق في ميزانية مصرف لبنان. تقييم وضع أي مؤسسة يتم عادة على أساس القيمة الفعلية للموجودات القابلة للتحقق وبالتالي نقارنها بالمطلوبات.
ومن ناحية أخرى فقد أودعت المصارف 54% من موجوداتها عام 2019 في مصرف لبنان وتُدّر عليها فوائد بعكس ما حصل في المصرف المركزي الأوروبي الذي يعطي فوائد سلبية للمصارف عندما تضع عنده إيداعات، وهذه الودائع ينبغي أن تُشكّل محوراً للبحث.
والسؤال الأساس هل هذه الودائع تشكل تدفقاً نقدياً حقيقياً وصل لخزائن المصارف؟ هل المصارف فعلاً أودعت هذه الودائع لدى المصرف المركزي؟ أم هي عمليات قيود دفترية لا أكثر ولا أقل؟ هذه الودائع يُشير إليها المصرفيون تحت اسم Lebanon Dollar، وهي ارتفعت نتيجة لفوائد الدين على سندات الخزينة والتي كانت تقيّد على الحساب الدائن للمصارف وكانت المصارف تقوم كل سنة بتوزيعها.
إذاً، الودائع تتضخم بحجم الفوائد التي تُقيّد دفترياً ومحاسبياً. وهذه النقطة كان يجب أن يشير إليها مفوضو المراقبة لدى المصارف وكذلك لجنة الرقابة على المصارف، وقبل التكلم عن إعادة الهيكلة لا بد من التحقق إذا كانت هذه الودائع حقيقية أم مجرد ودائع دفترية ارتفعت نتيجة ارتفاع الفوائد على سندات الخزينة وخاصة في السنوات الأولى من التسعينات (1993-1996) والتي تخطت فيه المعدلات العالمية بخمسة أو ستة أضعاف.
وعليه فإنه يقتضي أن ترتبط إعادة هيكلة المصارف بإعادة هيكلة الدين العام وتحديد حجم الودائع الحقيقي.

* النقيب السابق لخبراء المحاسبة المجازين