أدّت موجات الحر والفيضانات والجفاف ونشوب حرائق الغابات إلى تدمير المجتمعات في جميع أنحاء العالم. وبمرور الوقت يتوقع أن تزداد هذه الأحداث حدّة. وفيما لا يزال منكرو التغيّر المناخي مُصرّين على موقفهم، فإن الحاجة إلى اتخاذ إجراءات عاجلة أصبحت الآن واضحة حتى لمن هم خارج دوائر الناشطين البيئيين. فالحكومات والمنظمات الدولية، وحتى قطاعات الأعمال التجارية والشؤون المالية، استسلمت للأمر الواقع، أو هكذا يبدو الأمر.في الواقع، لقد أهدر العالم عقوداً من الزمان من الترقيع بمخطّطات تجارة الكربون ووسم الأدوات المالية بكلمة «خضراء»، والموضة السارية حالياً هي ابتكار استراتيجيات تحوّط خيالية، مثل «تعويضات الكربون»، في تحدٍّ للحقيقة البسيطة المتمثّلة في أن كل البشرية تجلس في القارب نفسه وتواجه الأزمة نفسها. فقد تحمي «التعويضات» الأفراد أصحاب الأصول، لكنها لن تُساعد في تجنب الكارثة المناخية التي تنتظرنا جميعاً.
يبدو أن تبني القطاع الخاص «للرأسمالية الخضراء» هو وسيلة تحايل أخرى لتجنّب مواجهة الحقيقة. لو كان كبار رجال الأعمال والمستثمرين جادين في مواجهة الأمر، لأدركوا الحاجة إلى تغيير المسار بشكل جذري لضمان بقاء هذا الكوكب ملائماً للبشرية جمعاء، الآن وفي المستقبل. لا يتعلق الأمر باستبدال الأصول البنية، أي الأصول التي لا تلتفت إلى الموضوع البيئي، بالأصول الخضراء، بل يتعلق بتقاسم الخسائر التي فرضتها الرأسمالية البنية على ملايين البشر وضمان مستقبل أفضل، حتى للفئات الأكثر ضعفاً.
إن مفهوم الرأسمالية الخضراء يعني ضمناً أن أكلاف التصدّي لأزمة تغير المناخ باهظة للغاية، ما يجعل الحكومات عاجزة عن تحملها بمفردها، وأن القطاع الخاص لديه دوماً حلول أفضل. ولذلك، يعني هذا المفهوم أن الشراكة بين القطاعين العام والخاص سوف تضمن، بالنسبة إلى مؤيدي الرأسمالية الخضراء، أن يكون الانتقال من الرأسمالية البُنية إلى الخضراء محايداً من ناحية الأكلاف، أي أنها لن تؤثّر على مساره. كما أنه يفترض أن تؤدّي الاستثمارات في التقنيات الجديدة إلى منع البشرية من الانزلاق إلى الهاوية.
لكنّ هذا الأمر يبدو أقرب إلى الخيال، إذ إن أساس الرأسمالية يجعلها غير مُناسبة للتعامل مع التداعيات الناجمة عن التغيّر المناخي، وهو، أي هذا التغيّر، ناتج عن الرأسمالية نفسها. يقوم النظام الرأسمالي بالكامل على خصخصة المكاسب وتوزيع الخسائر على أفراد المجتمع، لكن ليس بطريقة شائنة، إنما بموجب القانون.
يتيح القانون لأي شخص يتمتع بالذكاء الكافي لإنشاء كيان ائتماني أو مؤسسي قبل التسبب في التلوث، بالتهرّب من عواقب تدمير الكوكب. ويُشجع القانون على التهرّب من تحمّل الالتزامات البيئية المُستحقّة، أي الغرامات المفروضة على الأعمال التي تتسبب بالتلوّث، من خلال عمليات إعادة الهيكلة في حالات الإفلاس. كما يضع دولاً بأكملها رهينة للقوانين الدولية التي تمنح الأولوية لحماية عائدات المستثمرين الأجانب على حساب رفاهية شعوب هذه الدول. فقد تم رفع دعاوى قضائية ضدّ العديد من البلدان، من قبل الشركات الأجنبية بموجب معاهدة ميثاق الطاقة، لمحاولة الحدّ من ممارستها التي تُساهم في زيادة انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون.
إن ثلثَي إجمالي الانبعاثات منذ الثورة الصناعية تسببت بهما 90 شركة فقط. ومع ذلك، حتى لو كان مالكو أكبر الشركات الملوِثة في العالم على استعداد لتنفيذ عملية التخلّص من انبعاثات الكربون بشكل سريع، فإن أصحاب الأسهم سيُعارضون هذه الخطوة. فعلى مدى عقود من الزمن، كان تعظيم أهميّة المستثمرين هو السائد، الأمر الذي أجّج خوف المدراء التنفيديين من أن تتم مقاضاتهم في حال فعلوا ما يعاكس مصلحة المستثمرين.
لقد ضخّ القطاع المالي تريليونات الدولارات في الأصول الصديقة للبيئة والتي تبين في ما بعد أنها ليست مناصرة للبيئة على الإطلاق


لا عجب أن كبار رجال الأعمال والمستثمرين يُطالبون الآن بكشف الشركات عن بياناتها المُتعلقة بالمناخ، مثل كمية الانبعاثات التي تتسبّب بها، باعتباره الحلّ الأمثل للأزمة. الرسالة هنا هي أن المساهمين، وليس المدراء، يجب أن يعملوا على تحفيز التغيير السلوكي الضروري. لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه بلا إجابة: لماذا يتعين على المستثمرين الذين لديهم خيار الخروج السهل من استثماراتهم، والكثير من فرص التهرب بفعل القانون، الاهتمام بالكشف عن الضرر البيئي المستقبلي لبعض الشركات في محافظهم الاستثمارية.
من الواضح أن هناك حاجة إلى المزيد من التغييرات الجذرية، مثل فرض ضرائب على انبعاثات الكربون، والوقف الدائم لاستخراج الموارد الطبيعية في حال مخالفة القواعد البيئية، وما إلى ذلك. غالباً ما يتم استبعاد هذه السياسات باعتبارها آليات من شأنها أن تُشوه الأسواق. فقد عملت الحكومات على دعم صناعة الوقود الأحفوري بسخاء على مدى عقود من الزمان، حيث أنفقت 5.5 تريليون دولار، أو 6.8% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، على هذا القطاع. وإذا ما توقّفت شركات الوقود الأحفوري عن تحقيق الأرباح، فإنها تستطيع ببساطة بيع نفسها لشركة أكثر ربحية، وبالتالي مكافأة مساهميها على ولائهم. تمّت كتابة نص هذه الاستراتيجيات منذ فترة طويلة في قانون عمليات الدمج والاستحواذ.
ومع ذلك، تتمثّل أكبر آليات الدعم المالي في العملية التي استمرت لقرون، والتي تتلخّص في تثبيت رأس المال بشكل قانوني من خلال قوانين الملكية والشركات والائتمان والإفلاس. فالقانون، وليس الأسواق أو الشركات، هو الذي يحمي مالكي الأصول الرأسمالية حتى مع فرضهم أعباء ضخمة على الآخرين.
يأمل أنصار الرأسمالية الخضراء في مواصلة هذه اللعبة. لهذا السبب، يقومون بالضغط على الحكومات لدعم استبدال الأصول(البنية بالخضراء)، حيث سيرتفع سعر الأصول الخضراء مع انخفاض سعر الأصول البنية. مرة أخرى، هذا ما تعنيه الرأسمالية. أما في ما يتعلق بالسؤال حول ما إذا كانت الرأسمالية الخضراء تُمثل أفضل إستراتيجية لضمان قابلية الكوكب للسكن فهي مسألة مُختلفة تماماً.
بدلاً من معالجة مثل هذه التساؤلات، استسلمت الحكومات والهيئات التنظيمية مرة أخرى للأصوات التي تضغط من أجل فرض الآليات المثالية للسوق المالي. يُركز الإجماع الجديد على أهميّة الكشف عن البيانات البيئية لأن هذا المسار يعد بالتغيير من دون الحاجة إلى تنفيذه. كما أن هذا المسار يؤدي إلى خلق فرص عمل لقطاعات كاملة من المحاسبين والمحامين وخبراء الأعمال الاستشاريين.
ليس مستغرباً أن تكون النتيجة موجة من سلوكيات تلميع صورة الرأسمالية الخضراء. لقد ضخّ القطاع المالي تريليونات الدولارات في الأصول الصديقة للبيئة والتي تبين في ما بعد أنها ليست مناصرة للبيئة على الإطلاق. ووفقاً لدراسة حديثة، فإن 71% من الأموال المُوجهة بما يُراعي الاعتبارات البيئية والاجتماعية والمُتعلقة بالحوكمة (والتي يُفترض أنها تعكس المعايير البيئية أو الاجتماعية أو معايير الحوكمة) لا تتماشى مع أهداف اتفاقية باريس للمناخ.
إن الوقت المُتاح لإجراء مثل هذه التجارب بدأ ينفد. إذا كان «تخضير» الاقتصاد هو الهدف الذي نسعى حقاً لتحقيقه، فستكون الخطوة الأولى هي إلغاء جميع الإعانات المباشرة والإعانات الضريبية للرأسمالية البنية وإصدار الأمر بوقف ممارسات استخدام الكربون. يتعيّن على الحكومات أيضاً عدم حماية الشركات الملوّثة ومالكيها، والمستثمرين المسؤولين عن الأضرار البيئية. ومن قبيل المُصادفة فإن مثل هذه التدابير من شأنها أيضاً أن تُزيل بعض أسوأ تشوّهات السوق.

*أستاذة القانون المقارن في كلية كولومبيا للقانون ومديرة مركز الكلية للتحوّل القانوني العالمي
**نُشر هذا المقال على موقع Project-Syndicate.org في 21 أيلول