أُتيح للبنان، أخيراً، أن يخلط أوراق اللعبة كلّها. فاستيراد المازوت من إيران جذب قوى النفوذ المعادية لتمنح لبنان ما عجز عن الحصول عليه منذ سنوات. هكذا انطلق التنسيق بين وزارات الطاقة الأردنية والمصرية والسورية واللبنانية، لوضع خطة عمل لإعادة تشغيل خطّ الغاز العربي واستجرار الغاز المصري إلى لبنان عبره.

لكن المشكلة في لبنان أنه يتم التعامل مع الأمر باعتباره حلّاً نهائياً لجزء من مشكلة الكهرباء عبر تقليص كلفة الإنتاج بسبب التحوّل من استخدام الفيول السائل في تشغيل المعامل إلى استخدام الغاز الطبيعي، لكنهم يغرقون في مسألة الاعتماد المفرط على هذا الحلّ باعتباره حلاً نهائياً خارج أي مقاربة شاملة لمشكلة الكهرباء واستراتيجيات لبنان في التعامل مع قطاع الطاقة. فالبنية التحتية القائمة في لبنان قد تجعل البلد رهن الاعتماد بشكل مفرط على مصدر واحد من الغاز. كما أن استجرار الغاز عبر البنية التحتية الحالية لا يؤمّن إنتاج أكثر من 435 ميغاواط من الكهرباء، لأن خط الغاز العربي يصل فقط إلى محطة دير عمار.

1.2

مليار دولار هي الكلفة الإجمالية لإنشاء خط الغاز العربي


عملياً، لم تعد مشكلة الكهرباء في لبنان تتعلّق بأن القدرة الإنتاجية القصوى للمعامل الحرارية لا يمكنها أن تلبّي الطلب الفعلي للطاقة على الشبكة. بل انتقلت إلى مستوى أقل من التعقيدات الملازمة لإنشاء المعامل تقنياً ومالياً وإدارياً، لتصبح مشكلة تأمين الكميات الكافية من الوقود لتشغيل المعامل بقدرة متدنية. يأتي ذلك، بعدما توقّف مصرف لبنان عن فتح الاعتمادات لمؤسسة كهرباء لبنان لشراء الفيول المطلوب لتشغيل المعامل. ثم استورد حزب الله المازوت من إيران، ما أثار قلق الولايات المتحدة الأميركية من تنامي النفوذ الإيراني - حزب الله في لبنان، ما فتح الباب أمام السماح لمصر بتوريد الغاز إلى لبنان بواسطة خطّ الغاز العربي الذي يمرّ عبر الأردن و سوريا.

تغيّر الاتجاه والوظيفة
كان خطّ الغاز العربي ينقل الغاز المصري إلى الأردن وسوريا ولبنان، إلّا أنه أصبح ينقل الغاز من إسرائيل إلى مصر، ومنها إلى الأردن. يبلغ طول هذا الخط 1200 كيلومتر. أُنشئ هذا الخط على مراحل عدّة أولها تم فيها الربط بين العريش في مصر والعقبة في الأردن. اكتملت هذه الوصلة في عام 2003. لاحقاً انطلقت المرحلة الثانية لتربط بين العقبة والرحاب، وهي تبعد 30 كيلومتراً عن الحدود السورية الأردنية واكتملت في عام 2005. أما المرحلة الثالثة فقد ربطت بين الرحاب ومنطقة جابر على الحدود السورية الأردنية من الجهة السورية، ثم وصل الربط إلى حمص واكتمل في 2008. وأُنشئت وصلة من حمص إلى طرابلس اكتملت في عام 2009. في هذا العام تحديداً، أُنشئ خطّ بحري يربط بين عسقلان في (فلسطين المحتلة) وعريش مصر، وكان الهدف منه إمداد الكيان الإسرائيلي بالغاز المصري، لكن أصبح هذا الأخير بحلول عام 2010، يلبّي نصف الاستهلاك الإسرائيلي. وأصبح الخط العربي ينقل الغاز المصري إلى الأردن وسوريا ولبنان والكيان الإسرائيلي. 
في عام 2011، بعد اندلاع الثورة المصرية أُصيب خطّ الغاز العربي بسلسلة انفجارات أدّت إلى وقف نقل الغاز المصري بالكامل لغاية 2018. يومها أعادت تشغيله لتضخّ الكميات نحو الأردن فقط. وفي عام 2020 بدأت مصر تستورد الغاز الفلسطيني من الكيان الإسرائيلي، عبر خطّ عسقلان - عريش، أي أن الضخّ في الخطّ صار في الاتجاه المعاكس ليخدم نقل الغاز من الكيان إلى مصر.

الغاز المصري حلاً؟ 
في هذا السياق، يُطرح اليوم استجرار الغاز المصري باعتباره مفتاح الحلّ لعقدة الكهرباء التي يواجهها لبنان. لكن هذا الطرح تشوبه عدّة ثغرات. فالبنية التحتية الموجودة حالياً لنقل الغاز داخل لبنان، لا تسمح إلّا بتلقّي هذا الغاز في معمل دير عمار. هناك هي النقطة الأخيرة التي وصل إليها خطّ الغاز العربي. نقل الغاز إلى أي مكان آخر يحتاج إلى تسييله قبل إعادة تغويزه لاستعماله في معامل الإنتاج، أي يتطلب الأمر منشآت أكثر تعقيداً من نقل الوقود السائل. وفي الوضع الحالي، خطّ النقل الوحيد الموجود هو الخط العربي الذي يأتي من حمص إلى معمل دير عمار الحراري. وهذا المعمل لديه قدرة إنتاجية بحجم 435 ميغاواط (كان يفترض إنشاء معمل ثانٍ هناك بقدرة مماثلة وجرى تلزيم المعمل لكن نشأ خلاف عليه لم تتمكن الأطراف من معالجته حتى أتى الانهيار وأطاح به كلياً). باختصار، إن إمداد لبنان بالغاز المصري استناداً إلى البنى التحتية الحالية، الخاصّة بتمديدات الغاز، يؤمّن 435 ميغاواط فقط، أي نسبة 17.4% من معدّل الإنتاج (2500 ميغاواط) في الأوقات الطبيعية، عندما كان الحصول على الفيول متوفراً.

التحوّل من استخدام الوقود السائل لإنتاج الكهرباء إلى الغاز الطبيعي يوفّر على لبنان نحو 200 مليون دولار سنوياً


لكن حتى إذا طرح استقدام معمل كهرباء عائم يقف قبالة دير عمار ويتغذى بالغاز المصري، فإن هذا الحل لن يحقق تحسّناً هائلاً بكمية الكهرباء الناتجة عن الغاز المصري، إذ يبقى الأمر محدوداً بسعة الإنتاج القسوى التي ينتجها معمل دير عمار والباخرة.
ومن ناحية أخرى، إن البنى التحتية الموجودة في لبنان تسمح باستيراد الغاز فقط عبر خطّ الغاز العربي ومن مصدر واحد هو مصر وما بين مصر ولبنان والكيان الإسرائيلي. ولا يمكن استيراد الغاز المسيّل عبر البحر، لأن البنية التحتية اللبنانية الموجودة لا تشمل محطات «تغويز»، إذ إن الغاز المسيّل يجب إعادته إلى حالته الغازية ليتم استعماله في توليد الطاقة. 

التحوّل إلى الغاز 
في الحقيقة، إن فكرة التحوّل الكامل نحو الغاز الطبيعي ليست جديدة، فقد تقدّم وزير الطاقة السابق جبران باسيل في عام 2010، بخطة كهرباء تتضمّن التحوّل الشامل من الوقود السائل إلى الغاز الطبيعي، بالإضافة إلى الاعتماد على الطاقة البديلة كمصدر مكمّل. لكن هذا التحوّل، بحسب الخطة، شمل إنشاء خط غاز على الطول الساحل لتوزيع الغاز على جميع معامل الكهرباء. بالإضافة إلى إنشاء محطات تغويز لفتح المجال أمام استيراد الغاز المسيّل عبر البحر، وهو أمر يتيح للبنان عدم التقيّد بمصدر واحد للغاز. فمن دون إنشاء هذه البنى التحتية تبقى خطوة استجرار الغاز المصري ناقصة.
عندها فقط يمكن للبنان أن يكون لديه القدرة على التحكّم النسبي بالولوج إلى أسواق الغاز المُسال وشراء الكميات التي تلزمه وتغطي حاجات معامل إنتاج الكهرباء. كذلك سيكون بإمكانه التخلّص من مافيات المازوت والفيول أويل التي سجّلت الكثير من الأرباح على مدار العقود الماضية من تجارة الغاز المقنّعة بعقود من دولة إلى دولة. فما يُقال عن عقود من دولة إلى دولة، هي بالفعل عقود من الباطن يحصل عليها متعهدون محليون بالاتفاق مع شركات دولية تبيع الفيول والمازوت للبنان. وقد أُتيح للتجار التهرّب من المواصفات المطلوبة لاستيراد الفيول أويل والمازوت لزوم معامل الإنتاج، ما وسّع هامش الأرباح المخفية.
على أي حال، إن التحوّل من الاعتماد على النفط السائل إلى الغاز الطبيعي لإنتاج الطاقة، بشكل كامل، هو أمر مجدٍ من ناحية الكلفة. ففي تقرير له في عام 2020 تحت عنوان «خطة العمل لحالة الطوارئ في قطاع الكهرباء في لبنان»، يذكر البنك الدولي أن التحوّل من استخدام الوقود السائل  لإنتاج الكهرباء إلى الغاز الطبيعي يوفّر على لبنان نحو 200 مليون دولار سنوياً، في مستوى الإنتاج في وقتها، وهو وفر قابل للزيادة مع زيادة الإنتاج مستقبلاً. يعود هذا الأمر إلى كون سعر الغاز الطبيعي أقل من سعر الوقود السائل. 
بالإضافة إلى الأثر البيئي عند التحوّل من الوقود السائل إلى الغاز الطبيعي. فتشير دراسات عدّة إلى أن إنتاج الطاقة عبر الغاز الطبيعي يطلق انبعاثات ملوّثة أقل من الإنتاج بواسطة الوقود السائل. ومن هذه الدراسات، دراسة ليلى داغر وإزابيلا روبل تحت عنوان «نمذجة قطاع الكهرباء في لبنان: سيناريوهات بديلة وانعكاساتها»، حيث تظهر المحاكات المذكورة في الدراسة أن استخدام الغاز الطبيعي لإنتاج الطاقة في لبنان يمكنه أن يخفّض انبعاثات الكاربون بالنسبة إلى نموذج استخدام الوقود السائل. ولا يقتصر التأثير البيئي فقط على مطابقة المعايير البيئية العالمية، بل له أيضاً أثر اقتصادي، إذ إن خفض التلوّث يعني أيضاً خفض الحالات المرضيّة، التي يتسبب بها التلوّث المتأتي عن تشغيل المعامل على المشتقات النفطية على أنواعها، وبالتالي خفض ما يسمّى بالفاتورة الطبية التي تتحمل جزءاً كبيراً منها الدولة.