كُلّنا مُتَّفِقون بأنّنا نعيش إحدى أصعب المراحل في تاريخ لبنان. ومِن دون أن نغوص كثيراً في التاريخ، ليست هي المرحلة الوحيدة الصعبة التي مرَرنا فيها، منذُ 400 سنة احتلال عُثماني، إلى صِراع الـ 1860 الدموي، من سفر بَرلِك والمَجاعة، إلى الانتداب الفرنسي، ومن حُروبنا الداخليّة إلى اقتتال الإخوة، ومن صراعنا مع إسرائيل إلى تدخُّلات دول - قَريبة وبعيدة - بتفاصيلنا؛ كُلّها محطّات تُخبرنا بأنَّه نادِراً ما كانتْ مناعتُنا الوطنيّة عالية بما يكفي لتؤمّن لنا الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي. وهنا نَتساءَل: هلْ كُنّا على مُستوى رِساليّة الفِكرَة اللبنانيّة وأهدافِها؟عندما أتحدَّث عن مناعة وطنيّة، أقصُد بوضوح رؤية وطنيّة مُشتركة يتَّفق عليها اللبنانيّون، أي تفاهُمات سياسيّة على الخُطوط العريضة وتوافُقات على طُروحات اقتصاديّة اجتماعيّة. وكما لَمَس مُعظم اللبنانيّين في خلال الأزمة الأخيرة، لا يُمكن التحدُّث عن الاقتصاد والسِّياسة وكأنَّهما خطَّان مُتوازيان لا يلتقيان أبداً. بالعكس تَماماً، ترابُط الاقتصاد والسياسة وتداخُلهما بِبَعض لا يحتاجان إلى دليل على طريقة قَول الشاعر: «وليسَ يصِحُّ في الأَفهامِ شَيءٌ / إذا احتاجَ النَّهارُ إلى دليلِ».
انطلاقاً من ذلك، ولأنّني أعتبِر التيّار الوطني الحُرّ حامِلاً لمشروع وطني إصلاحي، أودُّ أنْ أتوقَّف معكُم لأسأل: هل تمكَّن التيّار ورغم الظروف الصعبة، أن يكون فعلاً رافعة لطرحٍ سياسي - اقتصادي وطني مُوَحِّد؟ هل خطابه في هذا المجال واضِحٌ للناس بما يكفي؟ هذا لا يعني أبداً وجوب أن يكون رأيُنا كُلُّنا واحِداً وفكرُنا واحِداً من كُلّ القضايا، أمّا المؤَكد، فهو وجوب أن يكون لدينا خطابٌ واحدٌ يعكُس نهجنا وتفاهُماتنا ورؤيتنا السياسيّة - الاقتصاديّة - الاجتماعيّة.
وأُشدِّد هنا على التكامُل بين رؤيتنا السياسيّة والاقتِصاديّة والاجتِماعيّة. فالاقتِصاد المُنفصل عن السياسة وعن هموم الناس ويوميّاتهم الحياتيّة، هو مُجَرَّد أرقام بارِدة ومُعادلات حسابيّة لا تُقدِّم ولا تؤَخِّر في تاريخ الشعوب. لذا، أنا أتحدَّث باستمرار عن الاقتصاد المُؤَنسَن الذي يُفتَرض أن يكون حجر الزاوية في فكرنا الاقتصادي. حتّى إنَّ صُندوق النقد الدولي طوَّر رؤَيته في هذا الاتّجاه. الاقتصاد وأرقامُه ومُقترحات الحُلول، هي كلُّها في خدمة المُجتمع والإنسان.
ومَنْ أكثَرُ أهليّةً من التيّار الوطني الحُرّ، الذي حمل قضايا نضاليّة سياديّة عند تأسيسه، أنْ يَحمل اليوم مشروعاً اقتصاديّاً ليبراليّاً عصريّاً تَنافُسيّاً، يكسُر الاحتكارات ويكرِّس العدالة الاجتِماعيّة في إطار نظام اقتصادي حُرّ؟! النموذجُ الاحتكاريّ، القائم في لبنان هو قاتِلٌ ومُدَمِّرٌ للاقتصاد الحُرّ، ومن يشكّ في ذلك، فليُراجع أمثلة عشرات الدول الغربيّة.
 أمَّا كيف نُترجم هذه الرؤية ونصوّب النهج الاقتِصادي المُعتمد، فإنَّ الموضوع يتطلَّب العمل على مسارين مُتَكاملين: مسارٌ إنقاذيٌّ آنيٌّ سريع، ومسارٌ متوسِّطٌ وبعيدُ المدى. هذان المساران يخضعان لرؤية إستراتيجيّة واحدة: اقتصادٌ حُرّ، مُنتِج ومُؤَنسَن.
 سوف أكتفي ببعض الخُطوط العريضة لكيفيّة المُباشرة سريعاً بالإنقاذ الاقتصادي والاجتماعي.
أوّلاً: الضغط لإقرار خُطَّة التعافي الاقتصادي والمالي والنقدي مع التعديلات المطلوبة في ضوء تطوُّر الظُروف والأرقام مُنذ نيسان 2020. وهذا يسمَح بوجود مظلّة تعمل تحتها كُلّ القوى السياسيّة ويكون التيّار الوطني الحُرّ رافِعة أساسيّة لتطبيقها.
ثانياً: يُفترَض أنْ تعكُس مُوازنة 2022 خيارات اقتصاديّة واضحة وأن لا يكون لها آثارٌ انكماشيّة على الاقتصاد بل تَحفيزٌ للاستثمار في مُختلف قطاعات الإنتاج وخُصوصاً السلع والخدمات ذات قيمة مُضافة عالية.
ثالثاً: مع تحفُّظي على فكرة البطاقة التمويليّة بالمُطلَق، إلّا أنَّها في الظروف الراهنة، ممرٌّ إلزامي لصُمود الفئات الأكثر حاجةً بانتظار حُلول جذريّة. لذا، يجب الانتهاء من البطاقة التمويليَّة، وتوزيعها قَبل نهاية تشرين الثاني المُقبل.
رابعاً: أعتقد بأنَّنا مُتّفقون على أنَّ الانتهاء من الصراعات بخصوص ملفّ الطَّاقة، هو بوّابة أساسيّة لتأمين بنى تحتيّة لاقتصاد منتج ولتخفيف الأكلاف على الناس وعلى الماليّة العامّة.
خامساً: العمل على تأمين تَمويل ضروري لخلق نواة شبكات نقل للتخفيف من أعباء النقل الباهظة على الاقتصاد وعلى المُواطنين بالمُباشر (استيراد السيّارات، النفط، استهلاك قطع غيار... تلَوُّث بيئي وارتفاع الفاتورة الصحيّة...).
هذا على المُستوى الإنقاذي السريع. أمَّا على المدى المُتوسِّط والأبعد، فلا بُدَّ من بعض الأرقام لنفهم جيّداً كيف يُمكن أن نطوِّر اقتصادنا. في الاقتصاد وعالم المال، هناك في بعض البُلدان عَجزان تَوأمان Twin deficit، أي: عجزٌ في الحساب الجاري الخارِجي بالتوازي مع عجز مالي. وهذا مؤشّر خطير جدّاً، وله تداعيات كبيرة على الأمن الاقتصادي والاجتماعي.
 تخيَّلوا أنّه في لبنان، تُضاف إلى هذين العَجزَين التوأمين فجوة مصرف لبنان بالعُملات الأجنبيّة وهي بمثابة نقص في الثروة الماليّة الوطنيّة بالعملات الأجنبيّة بنحو 59 مليار دولار. وهذا المبلغ يُضاف إلى الدين العام الحكومي البالِغ راهناً نحو 96 ألف مليار ليرة لبنانيّة ونحو 38 مليار دولار (31.3 مليار دولار سندات يوروبوندز + نحو 4.7 مليارات دولار فوائد مُستحقّة غير مدفوعة وفوائد تأخير، ونحو 2 مليار دولار قُروض طويلَة المدى لمصلحة مؤَسَّسات دوليّة).
ما مجموعُه: 161 مليار دولار على أساس سعر 1500 ليرة للدولار، أو 109 مليارات دولار على أساس سعر 8 آلاف ليرة للدولار، أو 105 مليارات دولار على أساس سعر 12 ألف ليرة للدولار.
في سيناريو سعر صرف الدولار بـ12 ألف ليرة مثَلاً لدينا النتيجة الآتية:
 - يكون قد جرى إفقار مُعظم الشعب اللبناني بنحو 56 مليار دولار نتيجة الفرق في سعر العُملة.
- يكون حجمُ الخسائِر المطلوب إطفاؤها أي شطبُها فوراً ما بين 60 و62 مليار دولار.
- يكون رصيد الدين العام المُتبقّي قبل الحُصول على مُساعدات صُندوق النقد الدولي وغَيره، ما بين 43 مليار دولار و45 مليار دولار (أدنى قليلاً من حجم الناتج المحلّي + قيمة احتياطي الذهب).
على سعر صرف 12 ألف ليرة يبلغ حجم الخسائر المطلوب شطبها فوراً ما بين 60 و62 مليار دولار


 بِناءً على كُلِّ ما تقدَّم، المطلوب ما يلي:
 1- توزيع الخسائر بعدالة وإنصاف، على أساس أنَّ من استفاد أكثر في المرحلة السابقة يتحمَّل أكثر (الناس عبر سعر الصرف، الدولة عبر رصيد الدين العام، مصرف لبنان، المصارف، حاملو اليوروبوندز، كبار المودعين، إيرادات من أُصول الدولة).
 2- تحفيز الإنتاج المحلّي باتّخاذ سلّة من الإجراءات لزيادة حجمه وتحسين قُدُراته التنافُسيّة. وبالتالي، خفض العجز التجاري بزيادة الصادرات خُصوصاً السلع ذات القيمة المُضافة العالية، تدريجيّاً بمُعدّل لا يقلّ عن مليار دولار سنويّاً. بذلك، تتضاعف فُرص عمل اللبنانيّين في وطنهم فنُصدّر السلع والخدمات بدلاً من تصدير شبابنا، وتنخفض فاتورة الاستيراد، فيتحوّل اقتصادُنا من اقتصادٍ استلحاقي إلى اقتصادٍ مُنتج سيادي.
 3- إقرار قانون المُنافسة العادلة استناداً إلى المشروع الذي تمَّ إنجازُه في وزارة الاقتصاد والتجارة خلال عام 2019، والذي كُنتُ قد أرسلْتُه في حينه إلى مجلس الوزراء؛ وهو يُسهمُ بفكفكة الاحتكارات التي لم يعد لها مثيل في عالم الاقتصاد الحُرّ.
 4- تصفير العجز المالي باستثناء العجز الناجم عن الإنفاق الاستثماري المُحفّز للنموّ الاقتصادي المُستدام.
 5- إقرار نظام ضرائبي جديد، كُفُؤ وعادل، يرتكز على الضريبة التصاعديّة على الدخل وعلى الصحن الضريبي الموحَّد للأُسرة، مع الحرص على عدم المسّ بذوي الدخل المحدود. وفي هذا المجال، علينا أن لا نخشى التحدُّث بموضوع الضرائب «لأنّو طرح مش شعبي». المُهمّ كيف نطرَح الموضوع وكيف نشرحُه للناس بطريقة مُبسَّطة.
 6- لا بُدَّ من إعادة إحياء القطاع المصرفي بمفاهيم حديثة ليكون مُساهماً أساسيّاً وفعّالاً في الاقتصاد المُنتج عوض أن يكون أجيراً في خدمة اقتصاد الريع، وليتحوَّل بالتالي إلى رافعةٍ للاقتصاد الوطني الحقيقي ومحرِّك له. وهذا يستدعي العمل على إعادة رسملة المصارف خُصوصاً تلك التي تُقرض في الاقتصاد الحقيقي، وعلى تنقية القطاع من الشوائب التي اعترته، وتطوير المأسسة فيه ليُواكب الحداثة ومُستلزمات بازل والحوكمة الرشيدة.
7- إقرار خُطّة شاملة للنقل (تطوير شبكة الطرقات، شبكة قطارات، خُطّة للنقل العام)، التي يجب البدء بتنفيذها فوراً، ووضع مخطَّط إستراتيجي لها.
8- تطوير أنظمة الحماية الاجتماعيّة والرعاية الصحيّة من خلال برنامج متكامل، لتصبح أكثر عدالة بين العاملين في القطاع العام، ولتَشمل تغطيتُها كلّ فئات المُجتمع اللبناني. وفي طليعة هذه الأنظمة، إقرار قانون ضمان الشيخوخة.
9- إقرار كلّ قوانين مُكافحة الفساد، والعمل على كشف المُخالفات والتعدِّيات على المال العام. وفي هذا السِياق، الالتزام بالشفافيّة الكاملة في كلّ إدارات ومؤسَّسات الدولة. هذا يتطلَّب إنجاز التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، إنفاذاً لقرار مجلس الوزراء بتاريخ 26 آذار 2020، واستِتباعُه بقَرارت لإجراء تدقيق جنائي في حسابات الوزارات والمؤسَّسات العامّة، انطلاقاً من كهرباء لبنان ووزارات الاتّصالات والماليّة والأشغال ومرفأ بَيروت...
 10- قيام وزارة الماليّة بإعداد لائحة بموجودات الدولة، من عقارات ومبانٍ وأُصول أُخرى، ليُصار الى درس إمكانيّة استثمارِها وربَّما بيع، بالتوقيت المُناسب، بعض ممّا هو غير إستراتيجي منها، وليس إظهار الدولة وكأنها عاجزة مغلوبٌ على أمرها ومُصادَرٌ جزء من أملاكها بقُوَّة نافذين معروفين.
11- اعتماد اللامركزيّة الإداريّة والماليّة الموسَّعة الّتي أُقرَّت في الطائف منذ 32 سنة، لما لَها من تأثيرات إيجابيّة على تكبير حجم الاقتصاد الحقيقي وعلى التنمية المُتوازنة في المناطِق.
12- التَجَرُّؤ على التمسُّك صراحةً بالدولَة المدنيّة بكلّ مضامينها، التي تخلُق جوّاً من العدالة والمُساواة، وتُعزِّز المُواطنة بعيداً عن الهيمنات من أيّ نوعٍ كانت، وتُعطي للشباب أملاً بمُستقبلٍ أفضل في وطنهم ينسجم مع تطلُّعاتهم ومُتطلّبات الحداثة، فيُسهمون بفعاليّة في نموٍّ اقتصاديّ مُستدام وفي تعزيز دور لبنان في مُحيطه المشرِقي والعربي وفي الفضاء الأورومُتوسّطي.

يُمكن أن لا نتَّفق جميعنا على أنَّ ما نعيشه هو أزمة نظام، لكن من المُؤكد أنّنا نواجه فشلَ، لا بل انهيارَ نموذجٍ سياسي - اقتصادي - اجتماعي - قِيَمي


يُمكن أن لا نتَّفق جميعنا على أنَّ ما نعيشه هو أزمة نظام، لكن من المُؤكد أنّنا نواجه فشلَ، لا بل انهيارَ نموذجٍ سياسي - اقتصادي - اجتماعي - قِيَمي.
نعم، فشلنا كجماعات ومُجتمع ودولة، لأنّه وكما الإنسان كلٌّ مُتكامل، كذلك المُجتمعات والدول. هذا يعني أنَّه لا يُمكن أن نتحدَّث عنْ انهيار اقتصادي واجتماعي ونفترض بأنّ سلَّم القِيَم لمْ يهتزّ، والعكس صحيحٌ تماماً، أي أنَّ جزءاً كبيراً من أزماتنا الاقتصاديّة والاجتماعيّة سببُها انهيار سلَّم القِيَم وتزعزع المفاهيم الوطنيّة والأخلاقيّة بمعناها المُجتمعي الواسع والفردي الضيّق.
 أختُم لأقول: نريدُ نفضة ونهضة على كلّ المُستويات لنَعود ونشكّل بلَداً ودولة تحت سقف السيادة والقانون والحرّية والعدالة الاجتماعيّة. بلدٌ منتجٌ وإنسانه مبادرٌ على أرضه مثلما هو منتجٌ ومبادرٌ في بلاد الانتشار. بلدٌ نساؤه ورجالُه، حين يصبحون في مواقع الحكم وفي سدَّة المسؤوليّة، يتعفَّفون قولاً وفعلاً وفكراً، لا بل يترهبنون على طريقَة نسَّاك الموارِنة في القرون السابقة. وأولى الخُطوات تكون حين نتوقَّف عن التردُّد والإحجام وننتقل إلى المُبادرة والإقدام.

* مداخلة في خلوة التيّار الوطني الحرّ الاقتصاديّة في بيت مري في 12 تشرين الأول 2021
** وزير ومصرفي سابق

تابع «رأس المال» على إنستاغرام