يواصل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، نيابة عن النظام السّياسي والاقتصادي، تشويه وتحريف الحقائق. هو يعمل جاهداً، كعضو أصيل في الشبكة السياسية المالية الحاكمة، لتغطية خسائر الدولة الناتجة من السياسات الفاشلة، ولا سيّما سياسته النقدية، على حساب ثروات ومدّخرات ومداخيل اللبنانيّين بدلاً من استعادة الأموال العامة والخاصة المسروقة والمنهوبة والمهدورة. وهو يصرّ على إنزال عقوبة الموت البطيء بالشعب اللبناني من خلال رفع الدعم عن السلع والخدمات الأساسية. ويتذرّع، مخادعاً وماكراً، بوصول الاحتياطي الإلزامي إلى الخطّ الأحمر المرتبط بالودائع، وبأنّ تجاوز هذا الخطّ يحتاج إلى قانون يصدره مجلس النواب. لكن عدا عن أن هذه الادعاءات لا تقع في محلّها الواقعي والقانوني، بل هي كلام باطل يراد به باطل، فإن مجلس النواب وبالتوافق مع الحاكم، لا يريد إقرار قانون كهذا لتبرير المضي بسياسة رفع الدعم التي تستجيب لإملاءات صندوق النقد الدولي. يحدّد قانون النقد والتسليف مهام مصرف لبنان العامة بأربعة بنود أساسية: الحفاظ على سلامة النقد، الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي، الحفاظ على سلامة أوضاع النظام المصرفي، وتطوير السوق النقدية والمالية. ولتحقيق هذه المهام، حدّد القانون نفسه، الأطر والوسائل التي تمكّن مصرف لبنان من تحقيق هذه المهام من خلال ثلاثة عناوين أساسية: التعاون بين المصرف والدولة، ثبات القطع، العمل في التأثير على السيولة المصرفية وعلى حجم التسليف.
على أرض الواقع، إنّ ما وصلت إليه الأوضاع المالية والنقدية والاقتصادية يؤكّد عدم حصول التعاون بين مصرف لبنان والدولة. فالنموّ السلبي للاقتصاد والعجز المستمر في المالية العامة، وتفاقم الدين العام، والانهيار النقدي، وانخفاض سعر صرف العملة الوطنية، وارتفاع الأسعار وزيادة معدلات التضخم، كلّها وقائع تُشير إلى سوء الإدارة المالية والنقدية، وإلى مسؤولية الحاكم والسلطات السياسية المالية عن الانهيار الذي يعيش لبنان تداعياته على كافة المستويات. أي أن التعاون بين المصرف والدولة كان سلبياً وأدّى إلى تبديد المال العام والخاص.
ورغم أن ثبات القطع اللبناني يعدّ جزءاً أساسياً من مهمّة المصرف العامة، ومسؤول عنه أيضاً وزير المالية، إلا أن الوقائع تؤكّد بأن الحاكم عمل جاهداً لخفض قيمة الليرة من أجل خفض قيمة الدين بدلاً من استخدام الوسائل المتاحة لديه لاستقرار سعر الليرة، أو السيطرة على هوامش تقلباتها تجاه الدولار ربطاً بتطوّر الأوضاع الاقتصادية. فالدين العام كان يساوي 97 مليار دولار على أساس سعر صرف يبلغ وسطياً 1507.5 ليرات، إلا أنه أصبح الآن يساوي نحو 10 مليارات دولار على أساس سعر صرف يساوي 20 ألف ليرة. لذا، لا بدّ من إجبار الحاكم ونوابه والمجلس المركزي للمصرف ووزير المالية بصفته شريكاً في عمليات بيع وشراء الذهب والعملات الأجنبية، على نشر بيان مفصل ومعلومات وافية عن موجودات المصرف من العملة الأجنبية والذهب (كماً وقيمة)، وقيمة النقد المصدر والودائع تحت الطلب، لكي يتبيّن مدى التزام مصرف لبنان بالأحكام الخاصة بتغطية النقد اللبناني.
هنا نصل إلى النقطة الأكثر أهمية والتي تتعلق بالتأثير على السيولة المصرفية وحجم التسليف. بموجب المادة 76 من قانون النقد والتسليف حصل مصرف لبنان على صلاحيات واسعة لتنفيذ مهمته العامة انسجاماً مع السيولة المصرفية وحجم التسليف، من خلال اتخاذ جميع التدابير التي يراها ملائمة. يعبّر نصّ المادة 76 عن هذه الصلاحيات بوضوح:
أ- تحديد وتعديل معدلات الحسم وحدوده القصوى وكذلك معدلات الاعتمادات الأخرى المجاز له منحها للمصارف وللمؤسسات المالية وحدودها القصوى.
ب- استعمال الوسائل التي من شأنها تأمين ثبات القطع.
جـ ـ أن يشتري ويبيع بدون تظهير السندات الخاصة التي لا تتجاوز مدة استحقاقها 180 يوماً، والسندات الحكومية والسندات المصدرة بكفالة الحكومة والتي لا يتجاوز مدّة استحقاقها السنة من تاريخ شرائها. وللمصرف المركزي أن يحسم السندات الحكومية والسندات المصدرة بكفالة الحكومة أو أن يمتلكها في نظام عقد الأمانة أو أن يشتريها بموجب شروط محددة في القانون (شروط المادتين 105 و106)، وذلك ضمن الحدود التي تسمح بها مقتضيات الاستقرار النقدي.
دـ إلزام المصارف بأن تودع لديه أموالاً (احتياطي أدنى) حتى نسبة معينة من التزاماتها الناجمة عن الودائع والأموال المستقرضة التي يحددها «المصرف» باستثناء التزاماتها من النوع ذاته تجاه مصارف اخرى ملزمة ايضاً بإيداع الأموال الاحتياطية هذه. ويمكن للمصرف المركزي أن يعتبر، إذا رأى ذلك مناسباً، توظيفات المصارف في سندات حكومية أو سندات مصدرة بكفالة الحكومة كجزء من الاحتياطي حتى نسبة معينة يعود له مر تحديدها. ولا يمكن للمصرف المركزي أن يحدّد نسبة الاحتياط الأدنى بأكثر من 25% من الالتزامات تحت الطلب، أو بأكثر من 15% من الالتزامات لأجل معين. وللمصرف المركزي أن يفرض نسباً مختلفة على فئات مختلفة من التزامات المصارف ضمن الحدود المذكورة في الفقرة السابقة.
وله كذلك في الحالات الاستثنائية، أن يفرض نسباً حديّة، خاصة من دون التقيد بالحدود الآنفة الذكر على ما يزيد من هذه الالتزامات أو من أي فئات منها، عن حدّ معين، أو على الزيادة المحقّقة في هذه الالتزامات، أو في أي فئات منها بعد تاريخ معين.
هـ - إلزام المصارف بأن تودع لديه أموالاً (احتياطي أدنى خاصاً) حتى نسبة معينة من الموجودات التي يحدّدها المصرف.
و - أن يقبل، في ضوء الحالة النقدية العامة ودائع لقاء فوائد يحددها المصرف.
القيود الوحيدة المفروضة على المصرف المركزي في ما يتعلّق بالاحتياط الإلزامي هي المتّصلة بأسس احتساب قيمته


بنود هذه المادة، تُشير بما لا لبس فيه إلى أن هناك ثلاثة أنواع من الاحتياطات: الاحتياط الإلزامي على الودائع والأموال المستقرضة، الاحتياط الإلزامي على ما يزيد من الالتزامات الخاضعة لموجب إنشاء الاحتياطي الإلزامي، والاحتياطي الأدنى الخاص كنسبة من موجودات المصارف.
أما الغاية من الاحتياط الإلزامي، فتكمن في استخدامه كتدبير أو كوسيلة للتأثير على السيولة المصرفية وعلى حجم التسليف ما يساعد في تنفيذ مهمة المصرف المركزي الأساسية. وهذا الاحتياطي هو وسيلة ثابتة للاستخدام وبقِيَم متغيّرة، ولا علاقة له بالودائع إلا لجهة احتساب قيمته فقط. فهو لا يشكّل أي ضمانة لأموال المودعين في المصارف ولا يرتّب أي التزام على المصرف المركزي تجاه المودعين في المصارف ولا حتى تجاه المصارف نفسها. ولا يوجد أي نصّ في قانون النقد والتسليف يضع قيوداً على المصرف المركزي باستخدامه هذا الاحتياطي، فالمصرف المركزي ليس مقيداً بأي شرط في استعمال الاحتياطي، بل هو حرّ التصرف به في نطاق تنفيذ مهمته، كما أنه ليس مجبراً على إعادة هذا الاحتياطي إلى المصارف لأن الاحتياطي الإلزامي واجب الوجود دائماً فهو ليس مرتبط بأجل محدّد أو بغاية خاصة محدّدة.
إن القيود الوحيدة المفروضة على المصرف المركزي في ما يتعلّق بالاحتياط الإلزامي، هي فقط القيود الخاصة بأسس احتساب قيمته. فالنسب بموجب الفقرة (هـ) من المادة 76، ثابتة وتتراوح بين حدّين 15 و25%. أما الأساس فهو متغير يرتبط بالتغيير الحاصل في قيمة الودائع والأموال المستقرضة. هذا يعني أنه يحقّ للمصرف المركزي التصرف بالاحتياط الإلزامي بأي طريقة كانت للحفاظ على سلامة النقد اللبناني والاستقرار الاقتصادي وسلامة النظام المصرفي، وبالتالي لا حاجة إلى أي قانون يجيز للمصرف استخدام الاحتياط الإلزامي، كما يدّعي الحاكم، ولا يوجد ما يسميه الحاكم خطاً أحمر للاحتياط الإلزامي، ولا يوجد أي سند قانوني للربط بين الاحتياط الإلزامي وأموال المودعين. فهذه الأخيرة هي حقّ للمودع في المصرف المتلقّي للوديعة، والتزام على هذا المصرف تجاه المودع، ولا علاقة للمصرف المركزي إلا لجهة وضع التنظيمات العامة الضرورية لتأمين حسن علاقة المصارف بمودعيها وعملائها.
في الواقع، مرّ لبنان بظروف استثنائية. منذ عام 2011 بدأ يظهر العجز في ميزان المدفوعات، وفي السنوات 2016 و2017 و2018 و2019 كانت الأوضاع النقدية تنذر بشرّ مستطير. لذا، كان بإمكان مصرف لبنان زيادة حجم الاحتياط الإلزامي، لكن الحاكم والمصارف وقفوا يتباهون بقدرة النظام المصرفي على اجتذاب الودائع بالعملات الأجنبية، وبمتانة الوضع النقدي والمصرفي. لاحقاً تبيّن أن الحاكم كان في خدمة المصارف لتعظيم أرباحها بهندسات مالية ولم يكن في وارد خدمة الاستقرار الاقتصادي وتحقيق المهمة العامة للمصرف المركزي بالحفاظ على سلامة النقد.
وإلى جانب ذلك، إن أسُس احتساب الاحتياط الأدنى أو الاحتياط الإلزامي تلغي أحادية الربط بين الاحتياط الإلزامي وبين الودائع، فهي تظهر التمايز بين الاحتياطي الإلزامي وبين موجودات المصرف المركزي بالعملات الأجنبية. ويتضح ذلك من خلال تمييز الاحتياط الأدنى الخاص الذي يتحدّد على أساس نسبة معينة من موجودات مصرف لبنان الثابتة والمتداولة، المنقولة وغير المنقولة، بالعملة الوطنية أو بالعملة الأجنبية، أي أن احتياطي الموجودات هو أشمل وأوسع من الاحتياطي الإلزامي. لذا، لا بدّ من سؤال الحاكم ونوابه ومجلسه المركزي عن حقيقة تكوين هذا الاحتياطي؟ هل هو موجود فعلاً؟ ما هي قيمته؟
ولم يترك المشترع للحاكم ومجلسه المركزي حرية الاستنساب في تحديد أساس تكوين الاحتياطي الإلزامي، بل كان واضحاً وصريحاً وحريصاً ودقيقاً في تحديد أسس تكوين الاحتياطي الإلزامي. فقد نصت المادة 77 من قانون النقد والتسليف على وجوب أن «تبلغ الموجودات الشهرية لمصرف لدى المصرف المركزي (الاحتياطي الفعلي)، على الأقل النسب المئوية التي تكون قد حدّدت، من المتوسط الشهري للالتزامات الخاضعة لموجب إنشاء أموال احتياطية (الاحتياطي الإلزامي)». ثم أن المشترع ورغبة منه في تمكين المصرف المركزي من تنفيذ مهمته العامة، منح المصرف المركزي الحق بأن يستوفي عن مبلغ تدني الاحتياطي الفعلي عن الاحتياطي الإلزامي فائدة جزائية يمكن أن تبلغ معدلاً يفوق بثلاث آحاد المعدل المطبق في حينه على تسليفاته لقاء سندات مالية على أن لا يحول ذلك دون تطبيق العقوبات الإدارية المنصوص عليها في قانون النقد والتسليف.
خلاصة القول، أن حاكم مصرف لبنان وبدعم ضمني من الشبكة الحاكمة يستعمل الاحتياط الإلزامي كخديعة لتبرير رفع الدعم عن السلع الضرورية لحياة الإنسان في لبنان بعدما خفض سعر صرف الليرة اللبنانية تجاه العملات الأجنبية بما أدى إلى زيادة معدلات التضخم وبغاية تدفيع المواطنين عبء خسائر الدولة والمصرف المركزي. لذا، نرى أنه وفقاً لخطة إنقاذ مالي ونقدي واقتصادي شاملة أساسها إلغاء الدين العام واسترجاع الفوائد المدفوعة بالزيادة عن المعدلات العالمية واسترجاع أموال الهندسات المالية، وهي ممكنة إذا توفرت الإرادة السياسية. ويمكن استخدام الاحتياط الإلزامي للتأثير في الأوضاع النقدية وخفض سعر صرف الدولار تجاه العملة الوطنية، وإنشاء مرافق عامة حيوية وأهمها معامل الكهرباء، وكل ذلك ممكن خلال مدّة تتراوح بين 3 أشهر و6 أشهر، وبالتالي تنتفي الحاجة إلى ما أسموه دعماً وهو في الحقيقة استمرار لسياسات النهب المتعمد لثروات البلاد والعباد. إذ أن القيود الوحيدة المفروضة على المصرف المركزي في ما يتعلق بالاحتياط الإلزامي هي فقط القيود الخاصة بأسس احتساب قيمته. وبالتالي يحقّ للمصرف المركزي التصرف بالاحتياط الإلزامي بهدف الحفاظ على سلامة النقد اللبناني والاستقرار الاقتصادي وسلامة النظام المصرفي، ولا حاجة إلى أي قانون يجيز له ذلك، كما يدّعي الحاكم، ولا يوجد ما يسمّيه الحاكم خطاً أحمر للاحتياطي الإلزامي، ولا يوجد أي سند قانوني للربط بين الاحتياط الإلزامي وأموال المودعين، فهذه الأخيرة حقّ للمودع في المصرف المتلقّي للوديعة والتزام على هذا المصرف تجاه المودع ولا علاقة للمصرف المركزي إلا من حيث وضع التنظيمات العامة الضرورية لتأمين حسن علاقة المصارف بمودعيها وعملائها.

* النقيب الأسبق لخبراء المحاسبة المجازين، مدير المحاسبة العامة السابق في وزارة المالية، مدير مركز البحوث الاقتصادية