انتبه الاقتصاي الفرنسي ريتشارد كانتييون، في القرن الثامن عشر، إلى مسألة ضخّ الأموال الجديدة في الاقتصاد، واستنتج بأن الأموال لا تُضخّ بشكل أفقي يطاول الجميع في الوقت نفسه، ما يعني أن الإفادة منها تكون من نصيب فئات معيّنة على حساب فئات أخرى يكون من نصيبها المفاعيل السلبيّة التي تنتجها عملية ضخّ الأموال الجديدة، أي التضخّم. أشار كانتييون إلى أن «توفير الأموال الرخيصة عبر المصارف، لا يعني تلقائياً أن الطلب على كل السلع سيرتفع في وقت واحد بل إن بعض الأصول قد تحظى بخصائص معيّنة تجعل الطلب عليها يرتفع، ما يؤدّي إلى ارتفاع الأسعار في بعض القطاعات في الاقتصاد وانخفاض الأسعار في قطاعات أخرى».أزمة لبنان تمثّل نموذجاً فاقعاً لقراءة مفاعيل هذه النظرية. فحجم الضخّ النقدي للأموال الجديدة الصادرة من مصرف لبنان، وطبيعة آليات الضخّ عبر المصارف - وهي اليوم مفلسة - تجعل نظرية كانتييون مثالاً عن الاختلال في توزيع الدّخل وهرميّة المستفيدين. المسألة بشكلها البسيط هي على النحو الآتي: هناك أزمة في لبنان يُديرها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وفق سياسات نقدية أسهمت بشكل رئيسي في الوصول إلى الأزمة القائمة. وإدارة الأزمة تمت بعقل يعتمد على طباعة الأموال من أجل إطفاء خسائر المصارف، وخلق أسعار متعدّدة لسعر صرف الليرة مقابل الدولار ما أدّى إلى تضخّم هائل في كل الأسعار. وفي إطار هذه السياسة، بدأت الوحدات الاقتصادية في لبنان، من أفراد ومؤسسات قطاع عام وخاص، تتعامل مع هذه السياسات ضمن أهداف خاصة وقطاعية وعامة أيضاً. كل طرف، يتعامل مع الأزمة من منظوره، بما فيهم الجهة المسؤولة عن إدارة الأزمة. لكن في المحصّلة تبيّن أن الأموال الجديدة كانت مفيدة لأطراف على حساب آخرين.
في هذا المجال ورد في كتاب «المال والتضخم ودورات الأعمال: تأثير كانتيلون والاقتصاد» أن الزيادة في الكتلة النقدية تنعكس على الاقتصاد بأشكال مختلفة ربطاً بآلية ضخّ الأموال في السوق. لا بل أكثر تحديداً ربطاً بالجهات التي تستلم الأموال الجديدة أولاً، ثم ينعكس الأمر على أسعار السلع والخدمات التي ستطلبها هذه الجهات بعد أن تستلم الأموال.
في الواقع، يُشير الكتاب إلى أن النقود الجديدة في الاقتصاد تدخل من خلال قنوات محدّدة ومن أماكن معينة. بمعنى أوضح، لا يتم توزيعها بالتساوي على شكل «انتشار نقدي».
إذا دخل المال إلى الاقتصاد بشكل غير متساوٍ فهذا يمنح بعض الكيانات أرصدة نقدية أكبر تحت تصرّفها


هنا تظهر نظرية كانتيلون وفق ما أسماه «الجولة الأولى». فالأثر الذي يُصيب الفاعلين الاقتصاديّين يتوزّع على ثلاثة مكوّنات على النحو الآتي:
1) أن تحدث التغيّرات في عرض النقود من خلال التغيّرات في الأرصدة النقدية لبعض الأفراد.
2) هذا الأمر يدفع هؤلاء الأفراد إلى تعديل إنفاقهم كمّاً ونوعاً.
3) تؤدّي النفقات إلى تغييرات في هيكل الأسعار النسبي وفي الإنتاج، وإلى تقلبات في الأرصدة النقدية للأفراد التاليين (في هرم المستفيدين من الأموال الجديدة)، ما يؤدي بدوره إلى تكرار الدورة.
هكذا يؤدي التضخّم النقدي إلى إعادة توزيع للدخل بشكل معقّد ومتعدّد الأوجه. وتكون النتائج على شكل تغيرات في بنية الأسعار النسبية وفي هيكل الإنتاج. ويمكن عندها الحديث بشكل واضح عن التوزيع التضخّمي للدخل وفق مسارين:
- إذا دخل المال إلى الاقتصاد بشكل غير متساوٍ، فهذا يمنح بعض الكيانات أرصدة نقدية أكبر تحت تصرّفها، مع استمرار الأسعار من دون تغيير. لكن، بنتيجة زيادة كميات النقد الموجودة تحت تصرّفهم سيزيد إنفاقهم، ما يؤدّي إلى زيادة أسعار السلع التي اعتادوا استهلاكها. ومن البديهي أن هذا الأمر يؤدي إلى زيادة دخل البائعين. لكن، في حين أن هذه الكيانات أو الفئات ستكون في وضع جيّد نسبياً، فإن أسعار بعض المنتجات ستكون قد ارتفعت بالفعل بسبب الطلب الناتج من المستفيدين الأوائل من الأموال.
- بالتأكيد، ينطبق المنطق نفسه على «الجولات اللاحقة للأموال الجديدة التي يتم توزيعها في الاقتصاد». إلى أن نصل إلى حالة يتكبّد فيها بعض الفئات خسائر لأنهم مجبرون على شراء منتجات من بائعين استفادوا من الجولات السابقة قبل أن ترتفع أسعار منتجاتهم، أي الأطراف الذين يتكبدون خسارات ناتجة من حصولهم على سلع أو خدمات أو عمل.
بمعنى آخر، ما يحدث هو إعادة توزيع للدخل على الشكل التالي: انتقال من الأشخاص الذين وصلتهم الأموال الجديدة في وقت متأخر نسبياً إلى الأشخاص الذين حصلوا على أموال جديدة في وقت مبكر نسبياً. هذا هو أحد جوانب ما يسمّى بتأثير الدخل.
- توزيع الدخل من الأشخاص الذين يتلقّون دخلاً ثابتاً إلى الأشخاص الذين يسدّدون مدفوعات ثابتة. من المتوقع - مع بقاء جميع العوامل الأخرى دون تغيير - أن تنخفض قيمة أدوات الدين، لأن التضخم «يأكل» قيمتها، وبالتالي أسهم الشركات الدائنة، بينما ترتفع قيمة أصول المدينين.
يُذكر أن المدين الأكبر في الاقتصاد هو عادة الحكومة، ما يعني أن التضخم النقدي يتسبّب في توزيع الموارد من القطاع الخاص إلى القطاع العام. في الواقع، أشار كانتييون بالفعل إلى أن الحكّام دائماً ما توصلوا إلى التضخّم كوسيلة لتمويل نفقاتهم.