لا يمكن حلّ أي مشكلة عبر معالجة أعراضها. المشاكل الاقتصادية ليست مستثناة من هذه القاعدة. على هذا الأساس، لا يمكن معالجة الركود التضخّمي المسجّل في السنوات الأخيرة بواسطة علاجات «موضعية»، مثل زيادة الضرائب ورفع الدعم لتقليص الاستيراد، وزيادة الأجور لمواجهة تضخّم الأسعار. فزيادة الضرائب وطباعة الأموال، قد لا تكون أكثر من عامل محفّز لدورة تضخّم إضافية في الأسعار، ومضاعفة للركود الاقتصادي الذي يشهده البلد. من الأجدى إيجاد حلول تكسر هذه الحلقة المتصلة بين المرض وأعراضه، مثل معالجة الخسائر في القطاع المصرفي بالتوازي مع معالجة التدهور في قوّة العملة المحليّة من خلال استثمار الدولة المباشر في المشاريع ذات المردود الاقتصادي والاجتماعي
أنجل بوليغان ــ المكسيك

منذ نهاية 2019 ولغاية اليوم، يشهد لبنان حالة فيها كل خصائص الركود التضخمي. ففي هذه الفترة انفجرت موجات تضخّم هائل في الأسعار سببها الأساسي انخفاض قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار. هذا ما أدّى مباشرة إلى ارتفاع كل أسعار السلع والخدمات. ويُشير مؤشّر أسعار السلع الاستهلاكية إلى ارتفاع بنسبة 473% بين مطلع 2019 ولغاية أيلول 2021. قبل ذلك، كان الاقتصاد اللبناني في حالة ركود تأزّمت أكثر في نهاية 2019 سواء بسبب الانهيار أو بسبب تسارع انتشار «كورونا» التي أدت إلى توقّف النشاط الاقتصادي بعد إقفالات متتالية، وأربكت المجتمع. ومن علامات هذا الركود، التراجع في النموّ الاقتصادي في السنوات الأخيرة، إذ لم يشهد اقتصاد لبنان نسبة نموّ أعلى من 3% منذ عام 2014 إلى أن انقلب النموّ إلى السالب المتواصل اعتباراً من 2018 مسجلاً انكماشاً في الناتج المحلّي الحقيقي بنسبة 1.9%، تلاه انكماش بنسبة 6.7% في 2019، وبنسبة 20.3% في 2020، علماً بأنه وفق تقديرات البنك الدولي فمن المتوقّع أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي في لبنان بنسبة 10.5% في 2021. والناتج المحلّي الحقيقي يتضمّن مجمل القيمة النقدية أو السوقية لجميع السلع والخدمات النهائية المنتجة داخل حدود البلد في فترة زمنية محدّدة ويأخذ في الاعتبار التضخّم الحاصل في هذه الفترة. وبالإضافة إلى هذا التراجع، يُعاني اقتصاد لبنان من ارتفاع في معدلات البطالة وفي معدلات الفقر سواء بشكله البسيط أو الأعمق المتعلّق بالفقر المتعدّد الأبعاد.

36.323

مليار ليرة هو الارتفاع في حجم الكتلة النقدية في التداول خارج مصرف لبنان بين شهر أيلول 2019 ومنتصف شهر تشرين الثاني الحالي


انطلاقاً من هذه المؤشّرات تظهر بوضوح حلقة الركود التضخّمي التي تضرب لبنان. فبالتزامن مع ارتفاع معدّلات تضخّم الأسعار، يحتفظ الاقتصاد بركود يتمثّل بتراجع في النموّ وارتفاع في معدلات البطالة. هذه كانت ظاهرة غريبة للاقتصاديّين لأنها تمثّل بحسب الاقتصادي مارتن برونفنبرينر «ارتفاعاً في الأسعار رغم انخفاض معدلات التوظيف». وفي لبنان تحفّزت هذه الظاهرة من خلال التدهور في قيمة الليرة اللّبنانية والسياسات النقدية غير الملائمة التي طُبّقت في هذه الفترة.

تدهور قيمة العملة
لعب تدهور قيمة الليرة اللبنانية، دوراً كبيراً في مآل الاقتصاد اللبناني. فالتراجع الكبير في قيمة العملة كان مسؤولاً عن التضخّم الكبير (بعض الاقتصاديين يصفونه بأنه تضخّم مفرط مثل ستيف هانكي). كما أنه لعب دوراً كبيراً في زيادة حدة الركود الاقتصادي. وبسبب الشحّ بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان اعتباراً من مطلع 2019، لم يعد هذا الأخير قادراً على حماية وتثبيت سعر الصرف بشكل فعلي في السوق. وتزامن ذلك مع شحّ آخر بالعملات الأجنبية لدى المصارف التجارية ما انعكس توقّفاً عن الدفع ترجمته المصارف عبر التضييق على السحوبات والتحويل بالعملات الأجنبية من منتصف عام 2019 قبل أن تتوقف كلّياً في أول فصل من عام 2020. هكذا تحوّل تمويل معظم معاملات التجارة الخارجية (باستثناء المدعوم منها)، وغالبيتها بالدولار، إلى السوق الموازية، أو ما يسمى بالسوق الحرّة. وبطبيعة الحال، عكست هذه السوق قيمة متدنّية للعملة المحليّة التي واصلت التدنّي تزامناً مع الانخفاض المسجل في تدفّق العملات الصعبة إلى السوق. وزاد الضغط على الليرة في السوق الموازية بسبب تخلّي مصرف لبنان عن دعم السلع توالياً. وخلال هذه العملية، واصل المعروض النقدي بالليرة بالارتفاع، ونعني بذلك كمية الليرات الموضوعة قيد التداول. كان السبب الأساسي لذلك اتباع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة سياسة طباعة العملة لشطب الودائع التي تمثّل المطلوبات الأكبر في ميزانية المصارف، ولها انعكاس مباشر على ميزانيته أيضاً. كان الهدف إنقاذ المصارف. أدّت هذه السياسة إلى ارتفاع كتلة النقد في التداول بالتوازي مع زيادة الطلب على شراء الدولارات من السوق الموازية، سواء تم ذلك بشكل مباشر من خلال شراء الدولارات من أجل حفظ قيمة المدخرات، أو بشكل غير مباشر من خلال الطلب على الاستيراد وبالتالي على الدولارات.
كان لهذا التدهور في قيمة العملة المحليّة أثر بالغ على أسعار السلع في السوق. يُعزى الأمر إلى أن الجزء الأكبر من السلع المستهلكة محليّاً هي مستوردة، أي أنها تقيّم بعملة الاستيراد. هذا يعني أن أيّ تغيّر في سعر الصرف ينعكس مباشرة على الأسعار الدّاخلية لهذه السلع والمقوّمة بالليرة اللّبنانية. كما أن سعر الصرف يؤثّر أيضاً على أسعار مدخلات السلع المنتجة محلياً، لذا تأثّرت أسعار هذه المنتجات أيضاً بارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة. هذا الارتفاع في مستوى أسعار جميع السلع تقريباً، أدّى إلى التضخّم المسجّل في السنتَين الأخيرتَين.

الدولار الجمركي هو وسيلة ضريبيّة ستؤدّي إلى تضخّم الأسعار وتضرب الاستهلاك في سبيل تحقيق أهداف محاسبيّة غير اقتصادية


ومن ناحية أخرى، لعب التدهور في قيمة العملة الوطنية دوراً هامّاً في زيادة حدّة الركود الذي كان يُعاني منه أصلاً الاقتصاد اللبناني. فقد تسبّب تدهور سعر الصرف بارتفاع أسعار السلع، كما أدّى إلى انخفاض القيمة الحقيقية للأجور، ما انعكس سلباً على الاستهلاك. في المقابل لم ينتج من انخفاض قيمة العملة المحلية ارتفاعاً في الصادرات، وهو ما يتوقّعه عادة الاقتصاديّون «الكينزيون» بعد انخفاض قيمة العملة. لذا كان انعكاس التدهور في قيمة الليرة على الاقتصاد انخفاضاً في الناتج المحلي، أي حدوث نمو سالب لإجمالي الناتج في الاقتصاد.
وقد أشارت العديد من الدراسات إلى تداعيات انخفاض قيمة العملة المحليّة على الإنتاج، ولا سيّما في الدول النامية. ​فبحسب سيدني أليكساندر، في دراسة بعنوان «مفاعيل خفض قيمة العملة على الميزان التجاري»، فإن ارتفاع الأسعار في السوق الناتج من تدني قيمة العملة، يقابله انخفاض في قيمة الأجور الحقيقية ما ينعكس سلباً على الطلب السوقي. وهذا الأمر يتخطّى الأثر الإيجابي لارتفاع الصادرات الناتج من تدني قيمة العملة. هذه النتيجة يصل إليها العديد من الباحثين الآخرين، مثل بول كروغمان و لانس تيلور، في ورقتهما البحثية بعنوان «النتائج الانكماشية لخفض قيمة العملة»، إذ يُشيران إلى أن انعكاس انخفاض قيمة العملة على الاقتصاد يكون على شكل انكماش في الحركة الاقتصادية.

سياسة نقدية سيئة
أدّت طباعة العملة وضخّها في الأسواق بشكل غير مدروس، إلى زيادة سعر الصرف في السوق الموازية/ الحرّة. ورغم ذلك، لم تؤدِّ زيادة النقد المعروض بالليرة إلى تحفيز الإنتاج. فلم يتم ضخّ «الأموال الجديدة» عبر قنوات تسهم في زيادة الإنتاج، مثل القروض الاستثمارية التي تخلق فرص العمل وتجابه الركود الاقتصادي. بل على العكس، ضُخّت هذه الأموال «لإنقاذ» المصارف التجارية، التي لم تكن قادرة على سداد التزاماتها تجاه المودعين. مباشرة، تحوّلت «الأموال الجديدة» إلى جيوب المستهلكين قبل أن تخلق قيمة مضافة لو أُدخلت في الدورة الإنتاجية. فازداد الطلب على الدولار في السوق الموازية وارتفع سعره. في هذا السياق لم تنجح سياسة خفض معدّلات الفائدة التي يفترض أن تكون عاملاً محفزاً للاستثمار، لأنه لم تكن هناك أموال متاحة للاستثمار.
من ناحية أخرى، إن لجوء السلطة النقدية إلى نهج الحفاظ على المصارف والعمل على إنقاذها عبر تنفيذ عملية Bail-out بالليرة اللبنانية، أتى على حساب الدخول في الركود التضخمي. فإن إبقاء القطاع المصرفي بشكله الحالي (زومبي)، أسهم بشكل كبير في تردّي وضع الليرة اللبنانية، وحال دون تطبيق سياسات تسهم في تحريك النشاط الاقتصادي. وذلك لأن سياسة إنقاذ القطاع المصرفي كانت مكلّفة على مصرف لبنان وعلى الاقتصاد. فهذا الأخير سخّر الموارد لهذه الغاية بدلاً من استعمالها في الاستثمار في ما ينتج العائدات للدولة والاقتصاد.

مواجهة الركود التضخّمي
من المهم تحديد الأسباب والعوامل التي أسهمت في مضاعفة حالة الركود التضخّمي في لبنان في آخر سنتين. لا يمكن معالجة الأمر من دون معالجة أسبابه الفعلية. أحد أهم الأسباب هو انفلات سعر الليرة منذ النصف الثاني من عام 2019 حتى اليوم. ففي ظل النموذج الاقتصادي المنهار (القائم حالياً) لا يمكن معالجة هذا التدهور إلا من خلال زيادة التدفقات بالعملات الصعبة إلى لبنان. وهذا الأمر هو المدخل لتوحيد أسعار الصرف واستقراره أيضاً. التدفقات قد تأتي من خلال قناتَين؛ زيادة حجم الصادرات عبر تحفيز الإنتاج، وعبر جذب الاستثمارات الأجنبية. إن زيادة التدفقات الخارجية يعني السيطرة، ولو نسبياً، على سعر الصرف، وفي الوقت نفسه، هذا الأمر يعني زيادة الإنتاج والاستثمارات في الاقتصاد ما يؤدّي إلى نموّ اقتصادي.

الركود التضخمي

بدا التداول بمصطلح الركود التضخمي في الستينيات في بريطانيا التي كانت تُعاني من تزامن بين الركود في النموّ والتضخم في الأسعار، إلّا أنه انتشر في منتصف السبعينيات عندما أصبح مشكلة عالمية بعد ارتفاع كبير في أسعار النفط


إلا أنّه لا يمكن ضمان أي استقرار في ظل وجود قطاع مصرفي غير فعّال هو الآن ميت حيّ (زومبي) لا يؤدّي عمله الأصلي كوسيط مالي، بل كصندوق لعمليات السحب. فقدت المصارف دورها كوسيط في عملية «خلق الأموال» (وهو مفهوم مختلف عن طباعة الأموال). فبعد فقدان الثقة في هذا القطاع، توقّفت عن القيام بالأدوار التي يفترض أن يقوم بها أي قطاع مصرفي معافى، مثل إقراض واستثمار الأموال، وهو دور أساسي في الدورة الاقتصادية. لذا، أسهم القطاع في فقدان الثقة بالاقتصاد اللبناني ككل، وهو كان عاملاً أساسياً في رفع مخاطر الاستثمار المحلية معقّداً عملية اجتذاب الاستثمارات الخارجية.
معالجة القطاع المصرفي وتسوية أوضاعه، بما يشمل تحديد الخسائر والاعتراف بها وتوزيعها بشكل عادل وهادف، كما يردّد الوزير السابق شربل نحاس، هو أمر أساسي في أي محاولة لتخطّي الركود التضخمي. بعد الانتهاء من هذا الأمر، يمكن التفكير في السياسات النقدية والمالية والاقتصادية التي يمكن اتباعها لتحقيق النمو ولجم التضخم، فالخيار الآخر هو البقاء في دوامة الركود التضخمي اللامتناهية.

محاولة فاشلة مسبقاً
حالياً، تحاول الحكومة اللبنانية معالجة الركود التضخمي الذي أصاب اقتصاد لبنان عبر المزيد من الركود والتضخّم. فمن جهة تسعى الحكومة إلى رفع الضرائب قبل معالجة المشكلة الأساسية التي تكمن في توحيد أسعار الصرف. تزعم الحكومة أن رفع قيمة معادلة تسعير الرسوم الجمركية وفق سعر صرف الليرة مقابل الدولار غير السعر المعتمد منذ تموز 1995 يوم تمّ رفع هذه القيمة المذكورة (الدولار الجمركي) من 800 ليرة إلى 1508 ليرات مقابل كل دولار. وزير المال السابق غازي وزني، والحالي يوسف الخليل يقترحان زيادة الدولار الجمركي كممرّ إلزاميّ لتمويل إيرادات الخزينة من دون أي اعتبار لمفاعيل قرار كهذا على النشاط الاقتصادي وعلى المجتمع. هناك اقتراح بأن يكون سعر الدولار الجمركي على أساس سعر منصّة «صيرفة» باعتبارها المؤشّر الأكثر صدقية. في الواقع، هذا المؤشّر هو الأقلّ صدقية في السوق لأن حجم العمليات الجارية عليه غير شفّافة وصغيرة نسبياً. بكل الأحوال، الدولار الجمركي هو وسيلة ضرائبيّة ستؤدي إلى تضخّم الأسعار، أي أنها تضرب الاستهلاك. هذا هو الهدف الأساسي الذي تسعى إليه الحكومة بعقلها المحاسبي التجميلي. فلا الحكومة، ولا وزراء المال لديهم عقل اقتصادي يُتيح لهم التعرّف إلى الأسباب والنتائج الموضوعية المتعلقة بهذا الأمر. لكنهم يروّجون بأن زيادة قيمة الدولار الجمركي ستأتي بالتزامن مع زيادة في الأجور النقدية المدفوعة للأجراء في القطاعين العام والخاص، وبالتالي فإن الهدف من الزيادة في الدولار الجمركي هو امتصاص الكتل النقدية حتى لا يكون هناك تضخم كبير ناتج من زيادة الأجور. هذا العلاج لا يلغي حقيقة أن التضخّم سيحصل بمعزل عن الإجراء الضريبي بسبب المدة الزمنية الفاصلة بين مفاعيل ضخّ الأجور في السوق وبين مفاعيل امتصاص الكتلة النقدية عبر الضريبة، فضلاً عن أن هذه الضريبة ستؤدي إلى ضرب الاستهلاك، وبالتالي ستعمّق مشكلة القدرة الشرائية التي تم تعويض بعضها عبر زيادة الأجور النقدية.
المشكلة تكمن في معالجة الأسباب الحقيقية للأزمة. معالجة اختلال ميزان المدفوعات بما فيه عجز الميزان التجاري والمالي والخدماتي، ومعالجة الأزمة المصرفية التي تمثّل القناة الأساسية لضخّ الأموال. لا يجب التعاطي مع هذه القناة باعتبارها فاعلاً أساسياً في كسر الحلقة المقفلة بين الأجور والتضخّم والركود، بمقدار ما كانت فاعلاً رئيسياً في الأزمة. ثمة حلّ وحيد مقترح حالياً لكسر هذه الحلقة المقفلة تمرّ أولاً بتقديم الدولة خدمات عامة ذات قيمة شرائية. بمعنى أنها تخفّف من وطأة الأزمة على القدرات الشرائية من دون زيادة الأجور النقدية. إنه الأجر الاجتماعي يظهر كأداة لكسر هذه الحلقة. أن تقدّم الدولة التغطية الصحية المجانية لكل المواطنين وبحدّ أدنى معقول قد يبرّر زيادات ضريبية، ويبرّر أيضاً تحميل المواطنين جزءاً من الخسائر التي تكبدّها اقتصاد لبنان وهو يمثّل بديلاً من زيادة الأجور النقدية. طبعاً الطريقة التي تسير بها الأمور حالياً لا تبرّر تحميل المجتمع كل هذه الخسائر بينما يتم التعامل مع أزمة ميزان المدفوعات بسذاجة مطلقة ومع أزمة المصارف بعقل تآمري.



تفسيرات نظريّة
هناك عدّة نظريات حول الأسباب التي تخلق الركود التضخمي. هي تختلف باختلاف آراء المدارس الفكرية الاقتصادية حول العلاقة بين المتغيرات في الاقتصاد، والتي يمكن إيجازها على النحو الآتي:

◄ بالنسبة للكينزيّين، إن ظاهرة الركود التضخمي غير ممكنة. وفق نظرية الاقتصادي الكينزي ويليام فيليبس عام 1958، فإن العلاقة بين معدلات التوظيف ومعدلات التضخّم عكسية، أي أنه إذا ارتفعت واحدة تنخفض الأخرى. ما تقوله هذه النظرية أن التزامن بين الركود الاقتصادي والتضخم هو أمر غير ممكن. لكن ما حدث في ستينيات القرن الماضي في بريطانيا وبعدها في السبعينيات في باقي الدول أظهر أن نظرية فيليبس ليست مثالية.
■ ■ ■

◄ النظرية النيو-كلاسيكية تقول بأنه، بشكل عام، يحدث الركود التضخمي بسبب فشل توزيع الموارد في أسواق السلع بشكل فعال. ويعود ذلك إلى التدخّل المتطرّف للحكومات في الأسواق. إلا أن هذه النظرية ترفض أن يكون للسياسات النقدية أي تأثير على الركود التضخمي، لأن المتغيّرات الاسمية، مثل التضخّم، لا يمكن أن يكون لها علاقة بالمتغيّرات الحقيقية، مثل معدّل التوظيف أو البطالة. كذلك، تدّعي هذه النظرية أن الضرائب على الاستهلاك يمكن أن تحلّ مشكلة التضخّم، من خلال تحفيز الأفراد على الادخار بدلاً من الإنفاق.
■ ■ ■

◄ بالنسبة للاقتصاديّين النيو-كينزيّين، يعود تزامن ارتفاع معدلَي البطالة والتضخم إلى احتمالين. الأول هو بسبب ارتفاع الكلفة، حيث ترتفع الأسعار بسب ارتفاع كلفة أي عنصر من عناصر الإنتاج، مثل المواد الخام أو الطاقة أو الضرائب. وإن ارتفاع أسعار السلع لهذه الأسباب، يقلّل من الاستهلاك، الأمر الذي يسبّب خسائر للشركات التي تضطر إلى خفض إنتاجها، ما يؤدي إلى ارتفاع في معدلات البطالة وركود اقتصادي يتزامن مع ارتفاع في الأسعار. أما الاحتمال الثاني، بحسب النيو-كنزيين، فهو بسبب ارتفاع كلفة العمل، أو ارتفاع الأجور، الأمر الذي يرفع كلفة الإنتاج ويرفع معها الأسعار في السوق. وقد يكون هذا الارتفاع في الأجور بسبب زيادة الدولة الحد الأدنى للأجور أو أي سبب آخر. هذا الأمر يدخل الاقتصاد في دوامة تضخّمية، لأن رفع الأجور يرفع الأسعار ما يخفّض القيمة الحقيقية للأجور ويدفع العمال للمطالبة بزيادة الأجور مجدّداً... هذه النظرية هي أحد تفسيرات الركود التضخمي الذي حدث في أميركا في السبعينيات بعد «صدمة» أسعار النفط وانعكاسها على أسعار السلع وعلى معدلات التضخم. يومها دام الركود التضخمي لنحو عقد كامل.
■ ■ ■

◄ النظرية الكمية للنقود. تعتبر هذه النظرية أن التضخّم هو دائماً ظاهرة نقدية. وترى هذه النظرية أن التغيّرات في عرض النقود هي السبب الرئيسي للركود التضخمي. ويفترض هذا التفسير، أن كلاً من التضخّم المرتفع والبطالة المرتفعة ينتج من خلل في السياسات النقدية. هذه النظرية متأثرة بآراء الاقتصادي ميلتون فريدمان الذي عارض الرأي الكينزي بأنه يمكن تحقيق معدلات بطالة منخفضة من خلال خفض الدخل الحقيقي عبر رفع معدلات التضخم (من خلال زيادة المعروض النقدي). بحسب فريدمان، على المدى المتوسط والطويل، يميل الأُجراء إلى رفع توقعات أجورهم الاسمية لتتكيف مع معدلات التضخم، وهذا الأمر يعني أن معدلات البطالة تبقى مرتفعة على المدى الطويل إذا ارتفعت الأسعار. أي أن العلاقة العكسية بين معدلات التضخم ومعدلات البطالة هي علاقة قصيرة المدى فقط.