ماذا ربح أو خسر لبنان في علاقاته التجارية مع تركيا؟ موجب السؤال أن وزير الاقتصاد أمين سلام، وخلال استقباله وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، صرّح بأن هناك ضرورة لتوسيع التبادل التجاري مع تركيا وتعزيز العلاقات الاقتصادية، لأن هذا الأمر يرفع قدرة القطاع الخاص في لبنان على رفع حجم الصادرات إلى تركيا والاستفادة من الاستهلاك الكثيف في الأسواق التركية.هنا، يصبح السؤال إلزامياً للبحث في جدوى هذه العلاقة. فالبلدان يمرّان بأزمة سعر صرف العملة المحلية؛ الليرة التركية والليرة اللبنانية تدهورتا بشكل قياسي تجاه الدولار. وهذا الانهيار، على اختلاف أسبابه، إلا أنه مستمرّ في البلدين ونتائجه في جانب منها متشابهة «نظرياً». فالمعروف أن تدنّي قيمة العملة المحلية تخفّض كلفة الإنتاج المحلّي وتزيد القدرة التنافسية في الأسواق الخارجية.
المصدر: الجمارك اللبنانية، الأخبار | أنقر على الرسم البياني لتكبيره

هذا التشابه يحصل فيما يوزّع وزير الاقتصاد تصريحه عن تعزيز العلاقات التجارية. تصريح يترك انطباعاً بأن الوزير لم يُجر أي مراجعة لهذه العلاقة بين البلدين ونتائجها منذ إبرام أول اتفاقية في عام 1992 عنوانها «تعاون تجاري واقتصادي وصناعي وتقني وعلمي»، ولا منذ الاتفاقيات التالية في عام 2005 بعنوان «التنشيط والحماية المتبادلة للاستثمارات»، وفي عام 2006 بعنوان «تفادي الازدواج الضريبي والحؤول دون التهرّب من دفع الضرائب المفروضة على الدخل». ربما لا يريد النظر بعيداً، لذا ربما ينظر في اتفاقية التجارة الحرّة في عام 2010 التي وقّعها الرئيس سعد الحريري على وقع علاقة ما أقامها مع المسؤولين الأتراك. تشمل هذه الاتفاقية ثمانية تفاهمات ومذكّرات في مجالات: الملاحة والبحارة، الصحة، الزراعة، علم الأحراج (اتفاقيتان في هذا المجال)، الطاقة والمياه، السياحة (إعفاء من موجب التأشيرة بين البلدين)، الشباب والرياضة.
هناك موجب للتذكير بهذا المفصل، وهو أن المنتجين اللبنانيين غضبوا جداً من هذه الاتفاقية التي تضرب الإنتاج الوطني والصناعة الوطنية. الحريري أرسل طائرته الخاصة من تركيا إلى لبنان لنقل الصناعيين سريعاً وإجبارهم على القبول بالاتفاقيات التي تخلق منافسة إضافية لمصانع الألبسة والجلود والصناعات الغذائية والورقيات التي كانت تتلقّى الضربة تلو الأخرى وكانت عرضة للتهشيم على أيدي الحكومات المتعاقبة. على افتراض أن الوزير من مروّجي دعم السياحة، فهل يعلم ما هي كلفة إلغاء موجب التأشيرة بين لبنان وتركيا، وميزان التبادل السياحي بين البلدين؟ بين عامَي 2014 و2020 بلغت قيمة الإنفاق السياحي اللبناني الخارجي نحو 34 مليار دولار تستحوذ تركيا على حصّة وازنة منها، وهي كلّها أموال بالعملة الأجنبية موّلها مصرف لبنان من احتياطاته بالعملة الأجنبية لتخرج من لبنان.
بمعزل عن العلاقات السياسية الجارية بين البلدين، إلا أن الوزير التركي كان مهتماً بمصالح بلاده. العثمانيون استعمروا لبنان لقرون، وهم يواصلون لغاية اليوم اهتمامهم بهذه الأسواق. ففي عام 1993 كانت الواردات من تركيا تمثّل 1.6% من مجمل واردات لبنان، ثم ارتفعت إلى 2.2% في عام 2000، فـ 3.8% في عام 2010، و7.2% في عام 2020. فرغم انهيار اقتصاد لبنان، والتدهور الهائل في القدرات الشرائية للمقيمين فيه، وانخفاض قيمة الواردات الإجمالية إلى النصف مقارنة مع ما كانت عليه قبل 10 سنوات، إلا أن صادرات تركيا إلى لبنان كادت ألا تتأثّر. قبل 10 سنوات كانت قيمة الورادات التركية إلى لبنان 965 مليون دولار، وفي نهاية 2020 بلغت 810 ملايين دولار. فوق ذلك، سُجّل في فترة ما قبل 2019، أن لبنان لم يضع رسوماً جمركية على سلع مستوردة من تركيا رغم أنها تنافس مثيلاتها المنتجَة محلياً... رغم كل ذلك، يسود اليوم خطاب عن تعزيز العلاقات التجارية، ومثله خطابات سياسية مغلّفة بكلام اقتصادي تجاري عن دول أوروبية وخليجية وغيرها ممن يهدفون إلى الإمعان في ضرب الإنتاج الوطني.
في المجمل، الإحصاءات تشير إلى أن تركيا استفادت من تدنّي قيمة عملتها، بينما لبنان يغرق في درس إلغاء إمكانية الاستفادة من أساسها. فلنأخذ الموز مثلاً. في عام 2020 صدّر لبنان سنوياً نحو 37 ألف طن موز إلى سوريا، علماً بأن تركيا تستهلك نحو 800 ألف طن من الموز سنوياً وليس لديها إنتاج محلي سوى 80%، أي أن الـ20% تساوي 160 ألف طن. لكنّ تركيا حظرت استيراد الموز من خارج تركيا، بينما يواصل لبنان الاستيراد من تركيا والذي يشمل الملابس الرخيصة التي يمكن أن يصنعها لبنان، ويستورد الحلويات وبعض أنواع المنتجات التي تصنّعها مصانع لبنانية وأفران محلية كبيرة... لكن لا أحد يجرؤ على مناقشة السلطنة في دعم أكلاف إنتاجها، أو في فتح الباب أمام الموز اللبناني.
دراسة جدوى العلاقة التجارية مع تركيا ليست سوى مثال يمكن تكراره في علاقات لبنان مع غالبية الخارج، سواء الدول الأوروبية أو الدول الخليجية والأردن ومصر وسوريا أيضاً. تجارة لبنان الخارجية لم تكن يوماً مبنية على مصالح الاقتصاد السياسي المحلي، بل كانت انعكاساً لنموذج «اتفاق الطائف» الذي يعطي الأولوية للريع الجيوسياسي المتمثّل بعلاقات الحريري الأب والابن مع تركيا، على حساب الإنتاج المحلي.