ضيف جديد وغير مألوف حلّ على حلبات سباق «فورمولا وان» هذا الموسم. فرياضة المحرّكات التي ارتبطت على مرّ السنين بـ«روليكس» و«أوبلو» وغيرهما من العلامات التجارية «الفخمة»، عرضت لوحات إعلانية ضخمة لمنصّة تداول العملات الإلكترونية المشفّرة «Crypto.com». الحدث غير اعتيادي. فلماذا تستثمر هذه الشركة، المعنية بالتداول الماليّ، عشرات ملايين الدولارات في عقد رعاية لإحدى منظمات سباقات السيارات؟رغم المليارات التي حقّقتها منصّات التداول خلال العام الفائت، إلا أن النظرة العامة إلى كل ما يتعلّق بعالمها لا يزال يحكمها الشكّ. فإلى الآن، يصرّ كثير من الاقتصاديين على التشكيك في جدوى العملات الرقمية ووظيفتها، فيما تفضّل شريحة كبيرة من الناس الابتعاد عن هذا العالم «التكنو-ماليّ» الجديد، لأنها لا تفهمه. لذا ارتأت هذه المنصات أنه الآن، ومع الطفرة المالية التي تعيشها، حان وقت الخروج من «قوقعة» العالم الافتراضي، إلى العالم الحسّي.

منجم ذهب
من أجل تحقيق غايتها، اختارت منصّات التداول الاستثمار في عالم الرياضة. الخيار لم يكن اعتباطياً، بل له مبرراته التي تفسّر لماذا فضّل القيّمون على هذا المجال، رعاية المنظمات والأندية الرياضية على الدخول في مجالات أخرى.
- أولاً: جماهير الرياضات تساوي منجم ذهب بالنسبة إلى منّصات التداول. فبحسب استطلاع أجراه موقع «Morningconsult»، تبيّن أن 23% من غير المتابعين للرياضات يعرفون ما هي العملات الرقمية، و17% صرّحوا بأنهم على معرفة جيدة بهذه العملات. في المقابل، بيّن الاستطلاع أن 47% من متابعي الرياضات يعرفون ما هي العملات الرقمية، و28% يرون أنهم على معرفة جيدة بها. وترتفع هذه النسب عند من صنّفوا أنفسهم «متابعين شرهين» للرياضات ومن بينهم 66% على معرفة بالعملات الرقمية و31% على معرفة جيدة بها.

47 %

من متابعي الرياضات الذين يعرفون ما هي العملات الرقمية و28% على معرفة جيدة بها، لكنّ هذه النسب ترتفع عند «المتابعين الشرهين» للرياضات ومن بينهم 66% على معرفة بالعملات الرقمية و31% على معرفة جيّدة بها


بحسب «بلومبرغ»، هناك ميل لدى جماهير الرياضات نحو السلوك الإدمانيّ، إذ إنّ أعداداً كبيرة منهم لا تمانع المراهنة بأموالها على مباريات وبشكل متكرّر خلال الموسم الرياضي الواحد، أملاً في تحقيق الربح. وقد استغلت شركات المراهنة هذا السلوك وزادت حجم استثماراتها التسويقية خلال السنوات الأخيرة. في النتيجة، تبيّن أن 40% من أندية الدوري الإنكليزي الممتاز لكرة القدم، تحمل اليوم، شعارات شركات مراهنات على قمصانها، مقارنةً مع 10% فقط في عام 2008. كذلك، ارتفع مدخول هذه الشركات خلال العقد الأخير، ليصل إلى 6.4 مليارات دولار في بريطانيا وحدها.
ووجدت المنظمة البريطانية المعنيّة بعلاج المدمنين على المراهنة (Gamcare)، أن هناك علاقة قوية بين الشهيّة للمراهنة من جهة، وشراء العملات الرقمية من جهة أخرى، وأن 50% من المراهنين الدائمين قد شاركوا في تداول هذه العملات.
بالطبع، هذه النقطة لم تغب عن ذهن متّخذي القرارات داخل شركات تداول العملات الإلكترونية. فهذه المنصّات لا تهمّها هُويات مشتري العملات، أو إن كانت استثماراتهم مرتكزة على دراسات وفهم عميق للعملات الإلكترونية. وبالنسبة إلى المنصّات، تأمين استمرارية تدفّق هذه العائدات الطائلة التي حصلت عليها العام الفائت، تحتّم عليها استغلال هذه الشريحة «غير المثقّفة» من الجماهير، التي تبيع وتشتري غالباً بناءً على العاطفة أو التأثّر بعوامل خارجية.
- ثانياً: شكّل عام 2020 نقطة تحوّل بالنسبة إلى المنظمات والأندية الرياضية التي شهدت تآكل مداخيلها بشكل دراماتيكي بسبب جائحة «كورونا». أيضاً، وبسبب الجائحة، تكبّدت كرة القدم الأوروبية، بحسبب الاتحاد الأوروبي لكرة القدم، خسارة قُدّرت بـ11 مليار دولار بين موسمَي 2019-2020، و2020-2021، بسبب منع الجمهور من دخول الملاعب وتراجع مردود النقل التلفزيونيّ، بالإضافة إلى تبعات أخرى.
على الضفة الأخرى، رأينا صورة معاكسة تماماً. فقد انتعشت منصّات تداول العملات الرقمية، التي رأى فيها عامة الناس ملجأً آمناً لأموالهم يؤمّن لهم مردوداً في ظل حالة عدم الاستقرار الماليّ وعمليات الصرف الجماعية التي شهدها العالم خلال الجائحة.

كسب الشرعية
إلى اليوم، وبعد سنوات على ظهورها، لا تزال العملات الرقمية تواجه مشكلة أساسية تكمن في أنها تعتمد، إلى حدّ كبير، على مؤسّسات وشركات لتتبنّاها كوسيلة للدفع، من أجل إضفاء الشرعية إليها كوسيلة نقدية للتبادل، أي أن تكون عملة حقيقية تُستعمل في التبادل التجاريّ. فعلى سبيل المثال شكّل تبنّي شركة «تيسلا» لعملة «بيتكوين» كوسيلة للدفع العام الفائت، أساساً قوياً استطاعت من بعده «بيتكوين» الوصول إلى أسعار خيالية لم يكن حاملو العملة يحلمون فيها.
بالخلفية نفسها، لجأت شركة «تشيليز» المختصّة بالتكنولوجيا الماليّة والبلوكتشاين، والتي تملك عملة رقميّة خاصة بها وتحمل اسمها، إلى ابتكار طريقة جديدة لتثبيت صورة العملات الرقمية في أذهان الناس، كعملات حقيقية صالحة للتبادل، بدلاً من أن تنتظر شركات أخرى لتضفي عليها طابع الشرعية. وأخذت الشركة زمام المبادرة بنفسها، وأسّست منصّة «سوسيوس» للتداول، ثم وقّعت عقود رعاية مع عدد من أبرز أندية الكرة الأوروبية. وبالتعاون مع هذه الأندية، روّجت ما يُسمى «Tokens»، التي بإمكان مشجّعي الفرق شراؤها عبر منصّتها. فعندما يستحصل المشجّعون على الـ«Tokens»، يصبح بإمكانهم استخدامها داخل التطبيق الخاص بالنادي من أجل المشاركة في التصويت على قرارات صغيرة تخصّ النادي، كأي أغنية تُلعب في الملعب قبل بدء المباراة، أو أي عبارة تُكتب على حائط الممرّ الذي يصل بين غرف الملابس وأرض الملعب... لكن المشجّع لن يشتري هذه الـ«Token» من بطاقته المصرفية، بل سيشتريها مستخدماً عملة «تشيليز» حصراً من المنصّة.

هناك علاقة قوية بين الشهيّة للمراهنة من جهة، وشراء العملات المشفّرة من جهة أخرى


مؤسس «سوسيوس» و«تشيليز»، ألكساندر درايفوس، قال في مقابلة لصحيفة «فاينانشال تايمز»: «على الأندية والدوريات أن تكون حريصة في ما يتعلّق بعقود الرعاية مع منصّات التداول، كونها (أي الأندية) تضفي الشرعية على أي اسم تتعاون معه». وشدّد أيضاً على أنه «من واجب هذه المنصّات تأمين بيئة آمنة ومنظّمة تحمي المشجّعين».
لكنّ الواقع يختلف عن التصريحات، ففرض شراء «Tokens»، المعرّض سعرها للارتفاع أو الانهيار في دقائق معدودة حسب العرض والطلب، يكشف هؤلاء المشجّعين ويعرّضهم لخطر فقدان أموالهم لقيمتها. ففي أيار الماضي، وإبان فوزه ببطولة الدوري الإسباني لكرة القدم، ارتفع سعر الـ«Token» الخاص بنادي أتلتيكو مدريد إلى أكثر من 50 دولاراً، فيما وصلت القيمة الإجمالية لهذه الـ«Token» الموضوعة في التداول إلى أكثر من 300 ميلون دولار، قبل أن ينهار سعرها إلى ما دون الخُمس بعد أسابيع قليلة.
بالنسبة إلى منصّات التداول، هذه أضرار جانبية في رحلتها من أجل كسب الشرعية، وقد يكون هذا النموذج في مراحله الأولى فقط. وفي هذا السياق، يقول درايفوس: «لا نزال في مرحلة مبكرة، لكننا مستمرون في محاولة كسب الشرعية. وكلّما تعاونّا مع أندية تملك علامات تجارية عريقة، كسبنا المزيد من الشرعية».



عقود بمليارات الدولارات
عادت عقود الرعاية التي وقّعتها منصات التداول مع الأندية الرياضية والمنظمات التي ترعى شؤونها، بإيرادات بمليارات الدولارات على قطاع الرياضة المأزوم مادياً بسبب جائحة «كورونا». الأندية والمنظمات الكبرى كانت لها حصّة الأسد من عقود الرعاية هذه، وهذا بعضها:
-«Crypto.com» / فورمولا وان: وقّعت منصة التداول «Crypto.com» الصيف الفائت عقد رعاية مع فورمولا وان بقيمة 100 مليون دولار ويمتدّ على خمس سنوات. وبموجبه، صرنا نرى شعار المنصّة على جانبَي حلبة التسابق، وعلى اللوحات العملاقة فوقها.
-«تشيليز» / برشلونة: في شباط 2020، وقّع نادي برشلونة الإسباني عقداً مع «تشيليز». وأطلقت الأخيرة بموجب العقد 40 مليون «Token» بقيمة دولارين للواحدة لكي تشتريها جماهير النادي وتتبادلها.
-«Crypto.com» / «UFC»: مقابل 175 مليون دولار وعلى مدى 10 سنوات، وقّعت منظمة الفنون القتالية المختلطة الأولى في العالم «UFC»، عقد رعاية مع منصّة «Crypto.com»، سمح للأخيرة بوضع شعارها على قمصان مقاتلي المنظمة.
-«FTX» و«ميامي هيت»: حصلت منصّة التداول بالعملات الرقمية «FTX»، في آذار من السنة الجارية، على حقوق تسمية ملعب فريق ميامي هيت الذي ينافس في دورة السلة الأميركي «NBA»، مقابل 135 مليون دولار وعلى مدى 19 عاماً. وابتداءً من الموسم الحالي، أصبح اسم ملعب الفريق الرسميّ «FTX Arena».
-«Crypto.com» / لايكرز: ابتداءً من الشهر الجاري، ولمدّة عشرين سنة، سيصبح اسم ملعب «ستايبلز سنتر» الخاص بفريق لوس أنجليس لايكرز، المنافس في دوري السلّة الأميركي، ملعب «Crypto.com»، وذلك مقابل مبلغ خيالي بلغ 700 مليون دولار بين إدارة النادي ومنصة التداول.