اقترحت الحكومة مشروعاً جديداً من قانون الكابيتال كونترول ومختلفاً نسبياً عن المشاريع التي أُعدت في لجنتَي «المال والموازنة» و«الإدارة والعدل» النيابيتين، لكنه أتى بعد إجراءات مفروضة قسراً بلا تشريع قانوني ومن دون أن يرتبط بخطّة اقتصادية، فهل نحن بحاجة فعلاً إلى الكابيتال كونترول؟- لا شك في أن مشروع «الكابيتال كونترول» الذي تدرسه السلطات المسؤولة يجب أن يكون ضمن برنامج نهوض اقتصادي ومالي شامل. وإلا فإنه قد لا ينجح في إعادة الانتظام إلى سوق القطع التي كانت تسمح حتى تشرين الأول 2019 بالحرية المطلقة لمعاملات القطع، قبل أن تنتقل فجأة إلى سوق مقيّدة تقييداً شديداً ومتعدّدة الأسعار للدولار مع انخفاض كبير في قيمة الليرة وارتفاع هائل في مستوى الأسعار.
حالياً لدينا نظام قطع قلّ نظيره حتى في البلدان التي أبقت قيوداً على التعامل في سوق القطع. وإذا كان فرض القيود على التعامل مع الخارج معمولاً به في العديد من الدول، إلا أن ذلك لا ينطبق على نظام قطعٍ استثنائي (كما هو حالياً في لبنان) يعمل بأسواق متعدّدة للدولار الأميركي ويميّز بين دولار ما قبل تشرين 2019 وما بعده، أي الدولار الفريش. وذلك نتيجة إجراءات مصرف لبنان التي وضعت قيوداً صارمة على السحب من ودائع دولار ما قبل تشرين 2019، وعند السماح بالسحب اليسير منها أن يكون ذلك بالليرة اللبنانية فقط حسب أسعار مختلفة يحدّدها مصرف لبنان بمعزل عن أسعار السوق الحرّة. علماً بأنه في الآونة الأخيرة اتُّخذت بعض الإجراءات البسيطة جداً للتخفيف من وطأة الوضع القائم.
إجبار المودعين على سحب ودائعهم بالدولار بالعملة المحلية بسعر صرف محدّد مسبقاً بعيداً عن سعر الصرف في السوق الحرّة، هو أمر لا أعتقد أن له ما يماثله في بلدان أخرى. هذه سابقة ذات أبعاد سلبية تُضعف الثقة بالجهاز المصرفي اللبناني وتلجم تحويل المدّخرات الوطنية والخارجية إليه.

أرشيف (مروان طحطح)


ما هي تبعات هذه الإجراءات؟
إذا احتكمنا إلى التقاليد التشريعية في لبنان يتبين أن ما يبدأ ليكون مؤقتاً، يتحوّل إلى دائم أو يستمرّ لفترة طويلة. لذا، فإن أي ضوابط على رأس المال تخطط الحكومة اللبنانية لوضعها موضع التنفيذ، يجب أن تكون مصمّمة بعناية شديدة لضمان الاستفادة منها مرحلياً من ضمن الخطة الاقتصادية والمالية التي ستقوم بها الحكومة. يجب التأكد من أن أيّ ضوابط على سوق القطع هي ضوابط مرحلية بهدف إعادة حريتها. فهذا التأكيد يطمئن مدّخري ما قبل عام 2019، اللبنانيين وغير اللبنانيين، إلى سلامة مدّخراتهم، وإن بقيت مجمّدة لفترة زمنية محددة. كما يطمئن مدّخري ما بعد عام 2019 إلى أن مدّخراتهم ستبقى حرّة بمعزل عن أي إعادة لهيكلة القطاع المصرفي. هذا يعني أن أي ضوابط على رأس المال تهدف إلى إضفاء الشرعية على الإجراءات التي تم اتخاذها بالفعل من قبل السلطات النقدية، يجب أن تهدف إلى استعادة ثقة المودعين ( الكبار والصغار) من خلال:
- طمأنتهم بأن حقهم في ودائعهم بالعملات الأجنبية لا يزال سارياً.
- سيتمكنون من الوصول ولو تدريجياً إلى ودائعهم كجزء من خطة الانتعاش الاقتصادية/ المالية؛ أما كيفية الوصول التدريجي فهي مسألة أخرى – كلما كان الانتعاش المالي والاقتصادي أسرع وزاد الأمل في استعادة الثقة، ارتفعت احتمالات الوصول إلى الحقوق. كما أن استعادة حرية نظام سوق القطع يجب أن تكون أحد أهداف السياسة النقدية. فالتجربة التاريخية للتقييدات على سوق القطع المفروضة في بلدان أخرى تشير إلى انتهاكها باستمرار من قبل مختلف الأطراف المحلية مع كل تأثيراتها السلبية على الاقتصاد الوطني. وتزداد وتيرة هذه الانتهاكات، كلما ازداد سوء إدارة الدولة التي تفرضها.
المهم بذل كل جهد لعدم جعل المودعين، يتحمّلون الجزء الأكبر من وطأة الأخطاء السياسية للسلطات الحكومية عبر سياسة الاقتطاع


في المقابل، يجب النظر بعناية في الاقتراحات الخاصة باستخدام جزء محدّد من الودائع (تحويلها مثلاً إلى أسهم في المصارف المعاد بناؤها أو استخدامات أخرى). المهم بذل كل جهد لعدم جعل المودعين، (أي المدّخرين، المحليين والخارجيين) يتحمّلون الجزء الأكبر من وطأة الأخطاء السياسية للسلطات الحكومية عبر سياسة الاقتطاع. بخلاف ذلك، قد يكون من الصعب جداً استعادة ثقة المودعين (على الصعيدين الوطني والخارجي) حتى بعد إعادة بناء النظام المصرفي كجزء من خطة التعافي الوطنية، وبالتالي قد لا يكون هنالك من ضمانة بأن المدّخرات (خاصة المدخرات القادمة من الخارج) ستتدفّق مجدداً إلى القطاع المصرفي اللبناني عوضاً عن اتجاهها إلى بلدان أخرى.

ماذا عن التمييز في التعامل بين كبار المودعين وصغارهم؟
- هذه قضية ينبغي على المسؤولين أن يدرسوها بتأنٍّ قبل الإقدام عليها منجذبين لسهولتها في إطفاء بعض الدين العام. فمن هي الجهة المسؤولة أساساً عن الارتفاع الهائل في هذا الدين وتحديداً منذ عام 1933؟ أليست الدولة يليها مصرف لبنان لقبوله بتسهيل تمويل عجز الموازنة المتصاعد؟ ونضيف قبول المصارف تلبية طلبات مصرف لبنان بالاستدانة المفرطة في سنوات ما قبل 2019، وبالتالي تحويل مدّخرات المودعين إلى مصرف لبنان؟
المودعون، كبارهم وصغارهم، غير مسؤولين عما آلت إليه الأمور. نعم لقد استفادوا، وخصوصاً كبار المودعين، من ارتفاع معدلات الفائدة على مدّخراتهم في السنوات الأخيرة، لكن من هي الجهة التي تقرر تعديل الفائدة؟ هل هو المودع أم المصرف المركزي وبالتالي المصارف؟
قد يقال نظراً إلى إفادتهم من ارتفاع الفائدة ليُسهم كبار المودعين في معالجة أعباء ارتفاع الدين العام مع إعادة البناء المصرفي. اقتراح يستحق النظر فيه. لكن يبقى السؤال: كيف يتم تحديد كبار المودعين وكيف تكون مساهمتهم؟ عبر اقتطاع جزء من مدّخراتهم أو تمليكهم أسهماً في المصارف عند إعادة تكوينها... باعتقادي أن الاقتطاع كإحدى وسائل المساهمة هو أمر غير مرغوب فيه، بل من الأفضل تفاديه إذ إنه مؤشّر غير مستحبّ للمدّخرين داخلياً وخارجياً بأن ودائعهم في لبنان غير آمنة، ولا سيما إذا كان هدف السلطات إعادة حرية التعامل في سوق القطع واجتذاب ودائع جديدة للقطاع المصرفي.