السلطات السياسيّة المتحكّمة بإدارة الدولة، أعادت لبنان إلى حالة شبيهة بحالة المجتمع القبلي أو الإقطاعي. ففي حينه لم تكن هناك حاجة إلى الموازنة لأن الاقطاعيّين كانوا ينفقون من موارد أملاكهم ولا يلجأون إلى الضرائب إلا بصورة استثنائية. ولم تُصبح هناك حاجة للموازنة إلا مع نشوء «الدولة» التي كانت تريد الإنفاق وتغطيته بالضرائب. في ذلك الوقت من الزمن، انتزع الشعب من الحاكم (الملك) مبدأ «لا ضريبة من دون قانون» ولا اقتطاع من ثروات الأفراد إلا بموجب «إجازة من البرلمان» والتي توسّع نطاقها لاحقاً لتشمل أوجه إنفاق إيرادات الدولة. لاحقاً انتزع المواطن الحقّ في مراقبة استعمال الضرائب التي يُسهم بها ويطلب بيانات عنها، وتطوّر مفهوم المال العام (ضرائب وإنفاق) وضرورات الرقابة عليه، منذ عام 1215 في بريطانيا إلى يومنا هذا، لتظهر أهمية الشأن المالي في حياة الشعوب، وأهمية تنظيم مالية الدولة والرقابة البرلمانية عليها. وقد فرضت دساتير الدول قواعد عامة لإدارة المال العام، فألزمت الحكومات بتقديم الموازنة إلى ممثّلي الشعب، وفرض الضرائب العمومية بموجب قانون، وعرض حسابات الدولة المالية على ممثّلي الشعب... وسواها. فأصبحت الموازنة موجباً دستورياً وعملاً سياسياً يعبّر عن اتجاهات الدولة الاقتصادية وفلسفتها، وأصبحت موازنة الدولة بمثابة خطّة سنوية أو برنامج عمل سنوي وأداة تنموية فعّالة.في الواقع، لم يشذّ الدستور اللبناني عن الدساتير الدولية؛ فقد نصّت المادة 83 منه على أن تقدّم الحكومة لمجلس النواب موازنة شاملة نفقات الدولة ودخلها عن السنة القادمة، ويقترع على الموازنة بنداً بنداً. كما أن المادة 86 رسمت أصولاً لإقرار الموازنة. وإن لم تلتزم بها السلطة عدّت مخالفة دستورية. كما عرّف قانون المحاسبة العمومية اللبناني الموازنة بأنها «صكّ تشريعي تُقدّر فيه نفقات الدولة ووارداتها عن السنة المقبلة وتُجاز بموجبه الجباية والإنفاق»، فارضاً بأن يقدّم وزير المالية مشروع الموازنة إلى مجلس الوزراء قبل أول أيلول مشفوعاً بتقرير يحلّل فيه الاعتمادات المطلوبة. وبموجب القانون، يترتّب على مجلس الوزراء إقرار مشروع الموازنة في صيغته النهائية وإيداعه السلطة التشريعية في بداية عقد تشرين الأول من كل سنة، كما قضى بأن يقدّم وزير المالية إلى السلطة التشريعية تقريراً مفصّلاً عن الحالة الاقتصادية والماليّة في البلاد وعن المبادئ التي اعتمدتها الحكومة في مشروع الموازنة.
وفيما أُنيطت صلاحيّة وضع مشروع الموازنة بالسلطة التنفيذية، فإن الموازنة تصدر عن السلطة التشريعية بالتصويت عليها وإقرارها كسائر القوانين، وتتضمّن إذناً بالجباية والإنفاق لمدة سنة. أي أن صلاحية السلطة التنفيذية في هذا الموضوع تنتهي بانتهاء الدورة المالية، عملاً بمبدأ سنوية الموازنة. وبالتالي لا بد لهذه السلطة اللّجوء إلى السلطة التشريعية للاستحصال على إذن جديد بالإنفاق والجباية.
ونظراً للأهمية الفائقة وخطورة الشأن المالي العام، فقد ألزم الدستور اللبناني مجلس النواب في عقد اجتماعه الثاني الذي يبتدئ يوم الثلاثاء الذي يلي 15 تشرين الأول أن يخصّص جلساته للبحث في الموازنة والتصويت عليها قبل كل عمل آخر، وتدوم مدّة العقد إلى آخر السنة. ومن المبادئ الدستورية منع المجلس النيابي من زيادة الاعتمادات المقترحة (المادة 84)، وهذه قاعدة عامة في كل النظم الديموقراطية للحؤول دون جنوح النواب إلى إرضاء ناخبيهم على حساب الخزينة.
وقبل الشروع في مناقشات الموازنة التفصيلية يعمد المجلس النيابي إلى المصادقة على قانون قطع حساب الموازنة أولاً. ووفقاً لأحكام المادة 86 من الدستور فإنه: «إذا لم يبتّ مجلس النواب نهائياً في شأن مشروع الموازنة قبل الانتهاء من العقد المعيّن لدرسه فرئيس الجمهورية بالاتفاق مع رئيس الحكومة يدعو المجلس فوراً لعقد استثنائي يستمر لغاية نهاية كانون الثاني لمتابعة درس الموازنة...». ونظراً لأهمية الموازنة في تسيير الدولة، ومنعاً لمجلس النواب من التأخّر في دراسة وإقرار الموازنة بهدف عرقلة أعمال الحكومة، أجازت هذه المادة لمجلس الوزراء إصدار الموازنة بمرسوم إذا انقضى العقد الاستثنائي من دون أن يبتّ نهائياً في مشروع الموازنة ما يجعل المشروع بالشكل الذي تقدّم إلى المجلس معمولاً به. لكن هذا الإصدار مشروط دستورياً بأن يكون مشروع الموازنة قد طرح على مجلس النواب قبل بداية عقده بخمسة عشر يوماً على الأقل. فقد نصّت المادة 86 على الآتي: «لا يجوز لمجلس الوزراء أن يستعمل هذا الحق إلا إذا كان مشروع الموازنة قد طرح على المجلس قبل عقده بخمسة عشر يوماً على الأقل».
وبما أن استمرار الدولة في أدائها هو من مبادئ النظام العام، وبهدف تجنّب تجميد نشاطها خلال العقد الاستثنائي، استدركت المادة 86 من الدستور باعتمادها على الطريقة المعروفة بالموازنة الاثني عشرية أي الموازنة الشهرية المؤقّتة. وفي فقرتها الأخيرة، حدّدت هذه المادة الأصول الواجب اتباعها للأخذ بالقاعدة الاثني عشرية خلال شهر كانون الثاني ولحساب الاعتمادات، إذ نصّت على ما يلي: «في مدّة العقد الاستثنائي المذكور تُجبى الضرائب والتكاليف والرسوم والعائدات الأخرى كما في السابق، وتؤخذ ميزانية (موازنة) السنة السابقة أساساً، ويُضاف إليها ما فُتح منها من الاعتمادات الإضافية الدائمة، ويُحذف منها ما أُسقط من الاعتمادات الدائمة. و تأخذ الحكومة نفقات شهر كانون الثاني من السنة الجديدة على قاعدة الاثني عشرية».
يبدو واضحاً من هذا النص أنّ اللّجوء إلى الموازنة الاثني عشرية يتم حكماً بموجب الدستور بالنسبة لنفقات شهر كانون الثاني فقط. أما إذا تأخّر إقرار الموازنة إلى ما بعد ذلك، فقد درجت العادة على أن تتقدّم الحكومة من البرلمان بمشروع قانون معجّل يُجيز لها الجباية والإنفاق على أساس الموازنة الاثني عشرية عن الشهر المحدّد المرتقب. ويلاحظ هنا أن القاعدة الاثني عشرية تتعلق بالنفقات وليس بالواردات.
لكن، بصراحة النص الدستوري فإن القاعدة الاثني عشرية، يُعمل بها فقط في شهر كانون الثاني، وبالتالي لا يجوز اعتمادها فيما بعد أبداً، وأي استعمال لها يكون مخالفاً للدستور، والأهم من ذلك إن القاعدة الاثني عشرية تتوقف على ثلاثة شروط:
- أن تكون الحكومة قد قدّمت إلى مجلس النواب مشروع الموازنة.
- أن لا يكون مجلس النواب قد بتّ نهائياً بمشروع الموازنة قبل الانتهاء من العقد المعيّن لدرسه.
- أن يكون رئيس الجمهورية بالاتفاق مع رئيس الحكومة قد دعا مجلس النواب فوراً لعقد استثنائي يستمر لغاية نهاية كانون الثاني لمتابعة درس الموازنة.
في الحالة الراهنة، ولأن الحكومة لم تقدّم مشروع موازنة الدولة لعام 2022، ولم يجتمع مجلس النواب لمناقشة وإقرار الموازنة لهذا العام، فإنه يترتّب على ذلك النتائج الخطيرة التالية:
- وقف صرف النفقات العمومية فوراً، ابتداءً من 2/1/2022. فوفقاً لأحكام المادة 57 من قانون المحاسبة العمومية لا تعقد نفقة إلا إذا توافر لها اعتماد في الموازنة…، وبما أنه لا وجود للموازنة فلا وجود للاعتماد.
- وقف نشاط الحكومة، ذلك إن التوقّف عن عقد وصرف النفقات العمومية يعني شلل عمل الحكومة وبالتالي وقف سير عمل المرفق العام في الدولة.
- تعذّر فتح عقد استثنائي لمجلس النواب إلا إذا كان موضوعه الموازنة العامة.
- تحميل الوزراء مسؤولية عقد النفقات بدون موازنة. إذ نصّت المادة 112 من قانون المحاسبة العمومية على ما يلي: «الوزير مسؤول شخصياً على أمواله الخاصة عن كل نفقة يعقدها متجاوزاً الاعتمادات المفتوحة لوزارته مع علمه بهذا التجاوز وكذلك عن كل تدبير يؤدي إلى زيادة النفقات التي تصرف من العتمادات المذكورة إذا كان هذا التدبير غير ناتج عن أحكام تشريعية سابقة. ولا تحول هذه المسؤولية من دون ملاحقة الموظّفين الذين تدخلوا لعقد النفقة وتصفيتها وصرفها أمام ديوان المحاسبة، ما لم يُبرزوا أمراً خطيّاً من شأنه إعفاءهم من المسؤولية».
تتحمّل الحكومة تبعة فشلها في إعداد الموازنة وإيداعها مجلس النواب ويتحمّل مجلس النّواب تبعة فشله في عدم محاسبة الحكومة


خلاصة القول إن موازنة الدولة عمل سياسي وموجب دستوري ملزم للحكومة التي عليها أن تحترم أحكام الدستور وتقوم بإعداد وإقرار الموازنة ضمن المهل، وإلا تكون أعمالها مشوبة بالبطلان وبعدم الشرعية. كذلك، فإن حسابات الإدارة المالية النهائية (قطوعات الحسابات وحسابات المهمة) العائدة للسنوات 1993 ولغاية 2020 لم يُصادق عليها ديوان المحاسبة للعيوب و الشوائب التي تعتريها، فضلاً عن أن الحكومة لم تودع مجلس النواب هذه الحسابات منذ عام 2004 حتى عام 2020 لكي يوافق عليها قبل نشر الموازنة، وذلك وفقاً لأحكام المادة 87 من الدستور علماً بأن الموازنات العامة للسنوات 2017، 2018، 2019، 2020 نشرت من دون الموافقة على قطوعات الحسابات خلافاً للدستور.
لذلك على السلطة المبادرة إلى الالتزام بأحكام الدستور أولاً وإنجاز حساباتها المالية عن السنوات السابقة وتقديمها إلى ديوان المحاسبة وعرضها على مجلس النواب، على أن يترافق ذلك مع إعداد الموازنة العامة وفقاً للأصول. ولا بد من الإشارة إلى أنه من غير الجائز علماً وفقهاً ودستوراً تبرير الإنفاق والجباية بدون موازنة بحجّة استمرار عمل المرفق العام الذي توجبه الظروف الاستثنائية. فالحكومة قائمة فعلاً وهي ليست مستقيلة ولا بحالة تصريف الأعمال، ولا يوجد أسباب قاهرة تمنعها من الاجتماع إذ إن البلاد مفتوحة ولا تعاني من اضطراب أمني أو حالة حرب أو ظروف قاهرة طبيعية.
وعليه تتحمل الحكومة تبعة فشلها في إعداد الموازنة وإيداعها مجلس النواب، ويتحمّل مجلس النواب تبعة فشله في عدم محاسبة الحكومة على تقصيرها وفشلها.

* مدير المحاسبة السابق في وزارة المالية، النقيب السابق لخبراء المحاسبة المجازين في لبنان