منذ صدور التعميم الرقم 161 من مصرف لبنان، ارتفع حجم التداول اليومي على منصّة «صيرفة» بشكل كبير. يمكن تقدير العمليات الناتجة عن هذا التعميم بعد احتساب الفرق بين معدل صيرفة سابقاً ومعدله بعد صدور التعميم، بنحو 6 ملايين دولار يومياً. في المجمل يقدّر أن مصرف لبنان ضخّ نحو 55 مليون دولار. لكنه في المقابل ضخّ أيضاً 2200 مليار ليرة بحسب ما يظهر تطوّر الكتلة النقدية المتداولة. وبنتيجة كل ذلك، فإن مفاعيل ضخّ الدولارات ألغيت كأنها لم تكن، وتُرجم ذلك من خلال ارتفاع سعر صرف الدولار. فما جرى تسويقه بأنه محاولة للجم انهيار الليرة، هو في الأصل محاولة لبيع الوهم وشراء الوقت فقط.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

عندما صدر التعميم الرقم 161 فارضاً تسديد سحوبات الزبائن بالدولار بدلاً من الليرة وعلى سعر «صيرفة» صار انتفاخ حجم العمليات على منصّة «صيرفة» أمراً واقعاً. وفيما بدا للوهلة الأولى أن مصرف لبنان يحاول التقريب بين سعر صيرفة وسعر السوق الحرّة وضمّ المزيد من العمليات السوقية على المنصّة تمهيداً لعملية توحيد سعر الصرف، أظهرت الوقائع أن آلية تطبيق التعميم الرقم 161 كان لها مفاعيل مختلفة لجهة الحفاظ على الهامش أو اتساعه أكثر بين سعر المنصّة وبين سعر السوق الحرّة. ورغم أن مصرف لبنان هو من يتحكّم بعملية امتصاص القسم الأكبر من الدولارات من السوق، وإعادة ضخّها، إلا أن مساعيه فشلت في السيطرة على تدهور سعر الصرف الذي قفز سريعاً فوق 30 ألف ليرة. وبالمناسبة، التعميم 161 ليس القناة الوحيدة لضخّ الدولارات، فهناك التعميم 158 أيضاً الذي يحصل بموجبه كل مودع على 400 دولار، ويتردد بين المصرفيين أن مصرف لبنان يضخّ بموجب هذا التعميم نحو 50 مليون دولار شهرياً... رغم كل هذا الضخّ تواصل الليرة تدهورها، ويواصل مصرف لبنان ضخّ الليرات أيضاً. فمنذ صدور التعميم 158 ولغاية صدور التعميم 161، كان مصرف لبنان قد ضخّ بالفعل نحو 3200 مليار ليرة.
إذاً، ما الذي يريده مصرف لبنان ومجلسه المركزي، باستثناء نفخ حصيلة عمليات التداول على «صيرفة» للزعم بأنها الأكثر شرعية بين الأسعار المتعدّدة التي خلقها مصرف لبنان أصلاً؟. فهل يريد فعلاً وقف تدهور سعر الليرة؟ أم أنه يسعى فقط لإقرار الهيركات بشكل شرعي وبموافقة المودعين؟ فحتى الآن لم يُسجّل أي طعن بهذه التعاميم، ولم يتبيّن أن لها أثراً إيجابياً على سعر الصرف باستثناء تهافت المودعين للاستفادة من الفرق بين سعر المنصة وسعر السوق الحرة. بدا الأمر كأنه «رشوة» جماعية، أو توزيع للمال العام المطبوع طازجاً. وبدا كأنه هديّة سياسية لطرف ما من أجل إعانة السلطة الممثّلة في الحكومة على الاستمرار والتحضير للانتخابات النيابية بعيداً عمّا يمكن أن يترصّدها من غضب شعبي بعد امتناعها عن تصحيح الأجور وسعيها لرفع الضرائب (الدولار الجمركي)... الأنكى، أن سلامة لم يوقف هذه الخزعبلات. فالهيئة المصرفية العليا التي يترأّسها أصدرت بياناً يوم الثلاثاء الماضي، واتخذت قراراً بتوجيه الإنذارات إلى نحو 188 صرافاً يمتنعون عن تسجيل عملياتهم على المنصّة، أي أكثر من ثلث الصرافين المرخّصين. أصلاً ما الداعي لتسجيل كل هذه العمليات على المنصّة طالما أن عمليات تحويل الأموال من الليرة إلى الدولار لا تعكس حقيقة الطلب السوقي، وأن هناك الكثير من العمليات الكبيرة المغفلة عن الهيئة، رغم أن مشاهدها تردّدت على وسائل التواصل الاجتماعي، مثل الفيديوهات التي قيل بأنها تعود لأحد الصرافين الذي يدعى «علي النمر» والذي كان يشتري الدولارات بالليرات الواردة إليه بصناديق مكدّسة ومغلّفة بشكل محترف، أي أنها لا تأتي إلا من مصرف لبنان. سواء كان علي النمر المعروف، أو غيره، فإن المضاربة على الليرة هي النمط السائد في السوق، وهو نمط لا يمارسه القطاع الخاص فقط، بل مصرف لبنان أيضاً، لأن آلياته تخلق قنوات المضاربة وتوقفها أحياناً. فعندما قرّر المركزي أن يمنع المصارف من المتاجرة بشيكات الدولار، فجأة صار لسعر دولار الشيك المصرفي قيمة أكبر من قيمة سحبه على كونتوار المصارف بكل ما يترتب على ذلك من عمليات بيع وشراء ومضاربة، وقد استمر الأمر لفترة طويلة قبل أن يقرّر مصرف لبنان رفع سعر الدولار المصرفي من 3900 إلى 8000 ليرة بشكل مفاجئ وبلا إعلان موجبات أو خلفيات.
فلنأخذ مثلاً نتائج التعميم 161 في الأيام الأخيرة من عام 2021. فخلال أسبوعين ضخّ مصرف لبنان نحو 55 مليون دولار، وقد استُبدلت هذه الدولارات سحوبات بالليرة تُقدر بنحو 1200 مليار ليرة، علماً بأن معدّل سعر الصرف على المنصّة بلغ 22766 ليرة مقابل الدولار الواحد في الفترة نفسها، ما يعني أن الكتلة الحرّة بالليرة اللبنانية التي ما زالت متداولة في السوق تبلغ 1000 مليار ليرة، وقيمتها السوقية بالدولار توازي 33 مليون دولار بسعر 30 ألف ليرة لكل دولار، أي 60% من كل ما ضخّه مصرف لبنان في السوق. بالفعل، خطوة كهذه تشير إلى أن مصرف لبنان بقيادة سلامة ونوابه الأربعة ومديري المالية العامة والاقتصاد هم المضاربون الأكبر على الليرة.