بدأت تظهر مع الربع الأخير من عام 2019 معالم الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي الذي نعيش، والتي تفاقمت بشكل كبير مع اتخاذ حكومة دياب القرارين الكارثيين؛ أوّلهما التوقف عن دفع الديون بلا خطّة للتعامل مع الدائنين والتعافي الاقتصادي، والثاني انتهاج سياسة الدعم العشوائي لمروحة واسعة من السلع من دون أي مسوّغ منطقي، ومن دون أي دراسة علمية. بمعزل عن كل تفاصيل إدارة الأزمة التي اندلعت، فإن النتائج يمكن قراءتها من خلال بعض المؤشرات الأساسية:
1- معدّل الفقر
سجّل لبنان بحسب آخر الدراسات معدّلات فقر مخيفة جداً. وفقاً لوكالة «موديز» بلغت 82% في عام 2021. وبمقارنة بسيطة مع تقرير world population review عن عام 2020 يتبيّن أن الدولة الوحيدة التي تزيد فيها نسبة الفقر عن لبنان هي جنوب السودان بنسبة 82.8% ما يشكّل كارثة وطنيّة بحدّ ذاتها ولا سيما عند مقارنة الزيادة الهائلة في نسبة الفقر في لبنان بين عامَي 2019 و 2021.



2- حجز الودائع وتهريبها إلى الخارج
بلغ إجمالي قيمة الودائع في المصارف اللبنانية في أيلول 2019 نحو 162 مليار دولار. وبلغت حصة 90% من المودعين فقط 10% من إجمالي قيمة الودائع بقيمة حدّها الأقصى 100 ألف دولار للمودع، أي أن نحو 2,610,000 مودع لديهم حسابات تساوي أو تقلّ عن 100,000 دولار، وأنه كان بالإمكان تغطية كامل قيمة هذه الودائع فقط بالأموال التي صُرفت على ما يسمّى «دعم»، ولكان ذلك قد أسهم في وقف الانهيار المالي والنقدي وأنقذ العائلات اللبنانية من شبح الفقر والجوع.
لكن بدلاً من ذلك، عمدت المصارف اللبنانية إلى حجز أموال المودعين لديها بطرق غير شرعية. وقام مصرف لبنان بمحاولة تغطيتها عبر سلسلة من التعاميم هي بحدّ ذاتها مخالفة للقوانين وتتجاوز إلى حدٍ ّبعيد الصلاحيات المناطة بحاكم مصرف لبنان، إذ قيّد السحب بالعملات الأجنبية بمبالغ تافهة، كما أُلزم الساحب على قبضها بالليرة اللبنانية في أغلب الأحيان وعلى أساس أسعار صرف تقلّ بشكل ملحوظ عن سعر السوق. في الوقت نفسه عمدت بعض الجهات السياسية والاقتصادية والمصرفية النافذة إلى شحن الأموال بالعملات الأجنبية إلى الخارج بكمّيات كبيرة جداً. إن إخراج هذه المبالغ من النظام المصرفي في الوقت الذي مُنع فيه الأغلبية الساحقة من المودعين من سحب أموالهم يُعتبر مخالفة للدستور الذي كرّس العدالة بين المواطنين، يوجب تدخّل الجهات القضائية لملاحقة الموضوع وتبيان الحقيقة بالأرقام والأسماء وعرضها على الشعب اللبناني.

3- انهيار القدرة الشرائية للرواتب
تراجعت القدرة الشرائية للرواتب في لبنان بشكل كبير،. فقد تدهور الحد الأدنى للأجور خلال فترة سنتين من 450 دولاراً في كانون الأول 2019 إلى أقل من 25 دولاراً في كانون الأول 2021. فقد أدّى ارتفاع كلفة المعيشة بالمقارنة مع مستوى الأجور، إلى انهيار القدرة الشرائية لمعظم العائلات اللبنانية التي بغالبيتها تتقاضى أجوراً بالليرة اللبنانية، وإن كان القطاع الخاص قد أدخل بعض الزيادات على الرواتب خلال عامَي 2020 و2021 إلا أنها غير فعّالة في مواجهة التضخّم الكبير الذي وصلت إليه الأسعار. فقد شهدت بعض السلع زيادة بلغت 12 ضعفاً، كما أن نحو ثلث القوى العاملة في لبنان تعمل في القطاع العام (الإدارات العامة، الجامعة اللبنانية، المدارس والثانويات والمهنيات الرسمية، القضاء، المؤسسات العامة، البلديات...) أي أن رواتبها لم تسجّل أي زيادة خلال العامين المذكورين.

4- انهيار وعجز قطاع الكهرباء
شهد لبنان تراجعاً كبيراً في عدد ساعات التغذية الشهرية قبل وبعد الانهيار. كان المعدل قبل الانهيار أعلى من 7 ساعات يومياً، لكنه تدنى اليوم إلى نحو 3 ساعات يومياً. ويأتي هذا المعدل مع بعض التفاوتات في بيروت والمناطق، ولا سيما تركّز التغذية في بيروت الإدارية بشكل أعلى من المناطق. وبينما يقدّر الهدر في الكهرباء قبل الانهيار بنحو المليار ونصف المليار دولار سنوياً، وهو عبارة عن عجز موزّع على عدّة مصادر، فإن حاجة لبنان الإجمالية من الكهرباء تُقدر بنحو 3500 ميغاوات كان يمكن تأمينها بسهولة تامة وبكلفة متدنية نسبياً. ففي فترة ما قبل الانهيار لم تكن الكلفة تزيد عن 3 مليارات دولار للاستثمار في معامل إنتاج تغطي كل حاجة لبنان، وكان يمكن الحصول على هذا المبلغ بشكل سهل مقارنة بأكثر من 10 مليارات دولار أُنفقت على الدعم وحده.



فرملة الانهيار؟
بالنسبة إلى توقّعات 2022، فلا ضمانة أو دليل على إمكانية فرملة الانهيار، ولا سيما مع شلل المؤسسات الرسمية. هنا يمكن تقديم طروحات تفتح الباب للخروج من الحالة الكارثيّة إنما يتطلب الأمر توافر الإرادة السياسية:
• إلغاء كلّ أسعار صرف العملة الوطنية واعتماد آلية السوق.
• استيراد المشتقّات النفطيّة والغاز بعقود مباشرة بين الدولة اللبنانية والدول المصدّرة.
• إقفال معظم البعثات الدبلوماسية في الخارج والإبقاء على موظّف مولج بتصديق العقود والمستندات الرسمية، مع استثناء الدول الكبيرة والتي يوجد فيها أكثر من 25000 لبناني، حيث يقلّص حجم البعثة إلى الحدّ الأدنى.
• ربط الحدّ الأدنى للأجور بسعر الصرف على أن يُحدّد بمبلغ 200 دولار، وتعديل بدل النقل ليرتبط بسعر صفيحة البنزين والمسافة الفاصلة بين المنزل ومكان العمل.
• وضع سلسلة رتب ورواتب موحّدة وواحدة لجميع قطاعات الدولة من قضائية وعسكرية وتعليمية وإدارية بالإضافة إلى المؤسسات العامة بما فيها مصرف لبنان والجامعة اللبنانية، وكذلك لمستخدمي البلديات واتحاداتها، وإلغاء كلّ التعويضات الأخرى مهما كانت تسميتها باستثناء تلك المرتبطة بالإنتاجية على أن لا تتعدّى بمطلق الأحوال 40% من الراتب الملحوظ في السلسلة، وإقرار مجّانيّة الاستشفاء لجميع القطاعات العامة ولجميع المواطنين فوق 64 عاماً وذوي الاحتياجات الخاصة.
• إعادة النظر في المدارس الرسمية وتقليص عددها وتعديل شروط التعليم ووضع سقف لعديد القوى الأمنية والعسكرية.
• عقد اتفاقيات مع الدول الصناعية الكبرى لإقامة معامل في لبنان وتقديم تسهيلات ضريبية وإدارية وعقارية.
• استئناف مفاوضات ترسيم الحدود البحريّة.
إن منظومة الفساد التي أدّت إلى الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي، وسرقت أموال الخزينة وأموال المودعين، وأفقرت الأغلبية الساحقة من الشعب اللبناني، لا تزال تتحكّم بمفاصل السلطة السياسية والمالية، وبالتالي لا يمكن أن نتوقّع منها أي عملية إصلاحية.

* باحث مالي واقتصادي، أستاذ جامعي