عندما قال ها-جون تشانغ: «نحن بحاجة إلى حملة محو للأمية الاقتصادية حتى يفهم الناس اللغة التي تستخدمها الطبقة الحاكمة»، ربما كان يفكر في كتب مثل كتاب جون ويكس «وهم الدين». كما يوضح العنوان الفرعي في الكتاب «العيش في حدود وسائلنا والمغالطات الأخرى»، فإنه يهدف، من بين أمور أخرى، إلى فضح الأسطورة التي روّجت لها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، في عام 2008 عن ميزانيات الدولة بالقول: «على المرء أن يسأل ببساطة أي ربّة منزل من منطقة «سوابيا». كانت ستستشهد بالمبدأ الحكيم: لا يمكن للمرء أن يعيش بشكل دائم بما يتجاوز إمكاناته».

يُجري ويكس تشريحاً منهجياً ومضنياً لمثل هذه الحجج الشعبوية التي - كما قيل لنا مراراً وتكراراً من قبل الحكومات - «لا يوجد بديل لها». استخدمت هذه الحجج لتمهيد الطريق لواحدة من أكثر الحروب النيوليبرالية السياسية ضراوة وتدميراً: «التقشّف». جون ويكس يكتب لغير الاقتصاديين بصبر ودفء، ما يجعل الكتاب في متناول شريحة واسعة من القراء. إنه لا يتجنّب استخدام المصطلحات التقنية فحسب، بل يفعل أيضاً ما يسميه بـ«خرق المصطلحات»، موضحاً بلغة بسيطة، العديد من المصطلحات الاقتصادية التي غالباً ما يستخدمها «الخبراء» والسياسيون لممارسة التعتيم. يأخذ الكاتب الأمثلة التي يستخدمها من الحياة اليومية، وليس من الكتب المدرسية الاقتصادية.
في كتابه ينطلق ويكس لفضح ست «أساطير» عن التقشف:
1) «يجب أن نعيش في حدود إمكاناتنا».
2) «يجب أن تعيش حكوماتنا في حدود إمكاناتها».
3) «يجب علينا وعلى حكوماتنا إحكام الأحزمة».
4) «يجب علينا وعلى حكوماتنا البقاء بعيدين عن الديون».
5) «إن السبيل أمام الحكومات للابتعاد عن الديون هو تقليل النفقات وليس زيادة الضرائب».
6) «لا بديل عن التقشف».
التقشف ليس من عمل الشيطان بالنسبة إلى ويكس. إنه مجرد أداة اقتصادية يجب استخدامها بحكمة بهدف خفض التضخّم على سبيل المثال. وينطبق الشيء نفسه على الإنفاق الحكومي من خلال العجز في الموازنات. ولكن كما يوضح ويكس: «يتعلق إنفاق القطاع العام والضرائب بشكل كبير بالسياسة، ثم بالاقتصاد». ففي أعقاب الأزمة المالية الكبرى لعام 2007، كانت السياسة هي التي دفعت موجة التقشف، كما نعلم، بناءً على وصفات الاقتصاديين الذين فشلوا بشكل فاضح في التنبؤ بالانهيار، وكانت سياسات مكافئة لنفس الأقلية التي أدّى جشعها إلى تلك الأزمة المفجعة.
الجمال الحقيقي لكتاب ويكس هو بساطته، ومفارقة أنه ينتقل من مرحلة الخطاب السياسي إلى المرحلة العملية. استهلّ طرح أساطير التقشف مع ادّعاء مارغريت تاتشر في الثمانينيات بأن ميزانيات الحكومات والأسر تعمل في نفس المنطق. يوضح ويكس: «لقد كانت على حقّ جزئياً، لكن للأسباب الخاطئة»، لأنه، تماماً مثل الحكومات، العديد من الأسر - وبطريقة حكيمة - «لا تعمل بميزانيات متوازنة». نعم، حتى سكان «سوابيا»، المهووسون بامتلاك منزل، يأخذون قروضاً عقارية كبرى. هناك العديد من الأسباب الوجيهة للجوء الأفراد إلى الائتمان على المديين القصير والطويل. وغالباً ما يقلل الائتمان الطويل الأجل من الإنفاق. وينطبق الشيء نفسه على الحكومات. كما يشير ويكس، إلى أن غالبية الائتمانات الطويلة الأجل، تُستخدم من قبل الحكومات لشراء الأصول، أي في الإنفاق الرأسمالي الذي ينتج بعضها دخلاً للدولة (مثل الإسكان الاجتماعي)، والبعض الآخر يخدم وظائف مهمة لمجتمعاتنا (على سبيل المثال المدارس والمستشفيات العامة والمواصلات). لم يذهب المال أو يضيع في هذه الحالة. بل يتم تحويله ببساطة إلى أصل أو استثمار. ونعم، تقترض الحكومات أيضاً على المدى القصير لتغطية حالات الطوارئ، كما هو الحال في فترات الركود لمكافحة البطالة والمشقة الاقتصادية.
الهدف من الضرائب ليس الحصول على ميزانية متوازنة ولكن إدارة الاقتصاد وتحقيق التوازن بين التضخم المفرط والبطالة المفرطة


أحد العناصر الحاسمة، كما يشرح ويكس، هو أن غالبية الحكومات في الدول ذات الدخل المرتفع لديها عملات قوية وبنك مركزي قوي، ويمكنها أن تخلق الأموال كما تشاء. والأهم من ذلك أنها لا تحتاج إلى الاقتراض بعملة أجنبية. إن كسب المال هو شيء لا يمكن لأي أسرة أن تفعله، لأنها لا تنتج عملتها الخاصة. لا تستطيع الحكومة أن تخلق الأموال فحسب، بل يمكنها أيضاً الاقتراض عن طريق بيع السندات، وحتى شراء السندات (الديون) الخاصة بها عن طريق البنك المركزي أو المؤسسات العامة الأخرى، والادّخار من خلال عدم الاضطرار إلى دفع الفوائد. لكنّ السندات المباعة للجمهور لها وظيفة مهمة، وهي تزويد المواطنين، وصناديق المعاشات، والمصارف بأصول آمنة للاستثمار فيها.
بعبارة أخرى، الدين الحكومي ليس شيئاً سلبياً، بل هو ببساطة أنه يمكن لأصول الأفراد والمؤسسات أن تلعب دوراً إيجابياً في الاقتصاد. يستغرق ويكس وقتاً لتحليل إيجابيات وسلبيات كلتا طريقتي تمويل العجز. في ما يتعلق بالعجز الحكومي، حتى الألمان، ذلك النموذج صاحب الميزانية المتوازنة، لم يكن لديهم فائض في الموازنة سوى لسبع من السنوات الأربع والعشرين الماضية، وكان أكثر من نصفها في السنوات الأربع الماضية.
يستمر ويكس بالعمل بنفس الطريقة المنهجية مع الأسطورة الثانية: «يجب على الحكومات موازنة دفاترها». والمسألتان الخلافيتان اللتان يتعامل معهما هما تشكّل «عبء ديون منهك» وعجز ينتج عنه تضخم. يدرس النفقات الحكومية، وعلى الجانب الآخر، السياسات الضريبية. ويشرح ويكس أن الهدف من الضرائب ليس الحصول على ميزانية متوازنة، ولكن إدارة الاقتصاد، وتحقيق التوازن بين التضخم المفرط والبطالة المفرطة. تتمتع الحكومة أيضاً بتفويض سياسي في ما يتعلق بشؤونها المالية، وفي تحديد الأولويات في تعزيز مصالح ورفاهية مواطنيها.
تركز الأسطورة الثالثة «يجب علينا إحكام الأحزمة»، على المزايا الاجتماعية وتمويلها، ولا سيما لجهة الخطاب الليبرالي الجديد بشأن التسونامي الديمغرافي وشيخوخة السكان. أما الأسطورة الرابعة، «عدم الخوض في الديون أبداً»، فتدرس الفرق بين الديون المنتجة والديون الأخرى التي تؤدّي إلى كوارث. هنا يبدأ ويكس بدراسة الديون الخاصة التي دفعت الاقتصادات الغربية إلى الأمام منذ أن بدأ الهجوم على أجور العمال في عهد تاتشر وريغان. من ناحية، يوجد «الدين المضمون» السائد، المدعوم بأصول، وخاصة الرهن العقاري، ومن ناحية أخرى هناك «الدين غير المضمون»، وهو يوجد أساساً بين من هم أقل ثراءً في المجتمع. بمعنى آخر، يأخذ الأثرياء الديون لشراء الأصول لزيادة ثرواتهم، ويقترض العامل فقط من أجل البقاء. المال الحكومي لا علاقة له بالديون المضمونة وغير المضمونة، لأن الأمة لا تمتلك أصولها المادية فحسب، بل تمتلك أيضاً أصولاً أكبر، أي شعبها. إن إدارة هذا العنصر الأخير هي التي تهمّ ويكس بشكل خاص. فالمجتمع الذي تتم إدارته بشكل جيد (البنية التحتية، التعليم، الصحة، والبيئة، إلخ)، ويتمتع برفاهية كهدف له الأولوية، سيكون قادراً على التعامل مع ديونه.
يقوم ويكس بانتقاد الأسطورة الخامسة، «الضرائب عبء»وتوابعها مثل «الضرائب تقلّل من قدرة الناس على الإنفاق». يفحص ويكس مَنْ يخضع للضريبة وكيف - بمعنى أنه يدرس الضرائب كوسيلة لتعزيز الأهداف السياسية، مثل الحدّ من عدم المساواة أو انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون. وتقرّر الحكومة أيضاً إذا ما يجب دفع الخدمات المجتمعية مباشرة من قبل الفرد أو من خلال المساهمات الموزّعة في جميع أنحاء المجتمع. ويواصل ليشرح أننا نتبع الرواية الخاطئة: فبعد التخفيضات الضريبية الهائلة للأثرياء، ما أدّى إلى زيادة الدين العام، فإن الجواب ليس خفض الدين (التقشف)، إنما زيادة الضرائب التصاعدية.
«لا بديل من التقشف». هي الأسطورة السادسة التي تبدأ بمسألة التخلّف عن السداد من قبل الدول. فغالبية البلدان التي تخلّفت عن السداد من البلدان الأقل تقدماً، اقترضت بالعملات الأجنبية، وبالتالي فقدت القدرة على التحكم بمواردها المالية. من المثير للاهتمام، كما يسلط ويكس، أنه من بين الحالات الأحدث للتخلّف عن السداد من قبل الدول المتقدمة، كان الثلاث جميعها في منطقة اليورو: اليونان (2012 ، 2013 ، 2015) ، أيرلندا (2013) والبرتغال (2013). ويرى ويكس أن هذا الأمر له علاقة سببية سياسية، مدعومة بالأساطير المعتادة التي تم تناولها في الفصول السابقة، وليس علاقة سببية اقتصادية.
يختتم ويكس بتحدّي المبدأ القائل: «لا يوجد بديل من التقشف» الذي اشتهرت به تاتشر. هناك دائماً بدائل، خاصة في ما يتعلق بالميزانيات المتوازنة العقائدية ذات الدوافع السياسية. يمكن أن يسمى هذا بالأسطورة السابعة: «سرد الاقتصاديين الكلاسيكيين الجدد». بالطبع ويكس يختتم بإدراج وشرح ماهية هذه البدائل.
يقول إتش جي ويلز: «الحضارة هي سباق بين التعلّم والكارثة». فمن خلال كتاب «وهم الديون» قدّم جون ويكس مساهمة كبيرة في جلب الاقتصاد إلى الناس. دعونا نأمل أن يقدّروا هذه الأداة المفيدة.

* صحافي استقصائي ومحرّر في «Brave New Europe»