بعد انهيار نظام «بريتون وودز»، في مطلع السبعينيّات، سيطر اتجاه العولمة المالية، الذي اعتمد بشكل كبير على تحرير حركة رأس المال بين الدول تحت عنوان التكامل المالي بينها لتحفيز النمو الاقتصادي العالمي. جون مينارد كينز، وهاري ديكستر وايت، عرّابا «بريتون وودز»، حذّرا من مخاطر هذا التحرير الذي يصبّ في مصلحة المصارف الدولية والمضاربين على العملات، وتضرب مصالح العمّال والمنتجين. تحذيراتهما تفسّر التحوّلات التركية في العقود الأخيرة التي بدأت بـ«التحرّر الاقتصادي» في أوائل الثمانينيات. فمنذ ذلك الوقت انكشف الاقتصاد التركي على العوامل الخارجية وعلى الخضّات المالية، لا بل أصبح، أخيراً، معرّضاً لخضّات سياسية لا سيما مع دول المصدر لتدفقات رؤوس الأموال. لذا قد تكون التّطورات الأخيرة، من تدهور قيمة الليرة التركية وانخفاض معدّلات الفائدة فرصة لعكس هذا المسار الذي انتهت مدّة صلاحيّته. إنّما الأمر ليس سهلاً، بل يكبّد الأفراد والمؤسّسات في تركيا أكلافاً باهظة.
راينر هاشفيلد ــ ألمانيا

في الواقع، ينطبق على تركيا ما قاله الأكاديمي المختصّ بالشؤون المالية مايكل بيتيس (Petis) عندما أشار إلى أن السنوات الأربعين الأخيرة من العولمة المالية شهدت حركة قصيرة الأمد لرأس المال هي «عبارة عن مضاربات على العملات، وتحرّكات مالية تبغي الربح السريع من خلال استغلال تفاوت الظروف المالية بين البلدان، والبحث عن أصول آمنة لحفظ قيمة الاستثمار». فاقتصار حركة رأس المال على هذا النوع من التدفّقات، يجعل الدول النامية التي تسعى لاجتذاب رأس المال، عُرضة لأي خضّات داخلية أو خارجية. وهذا بالضبط ما حذّر منه كينز، الذي ربط بين تحرير حركة رأس المال وازدياد مخاطر حدوث الأزمات المالية في الاقتصاد، وهذا ما تظهره عدّة أوراق بحثيّة أعدّها الاقتصادي جوزف ستغليتز من أبرزها «العلاقة بين تحرير الأسواق المالية والنموّ الاقتصادي وانعدام الاستقرار».

«لبرَلَة» الاقتصاد التركي
بدأت محاولات «تحرير» النظام المالي التركي في مطلع الثمانينيات. قبل ذلك، اتّسم اقتصاد تركيا، بما تصفه العبارات الرأسمالية، بالـ«قمع المالي». يومها كانت معدلات الفائدة الحقيقية سالبة، بسبب تدخّل السلطات النقدية لمنع رفعها وإبقائها منخفضة نسبةً إلى معدلات التضخّم. كما كانت الضرائب على أرباح النشاط المالي ضخمة جداً، وكانت نسب الاحتياطات والسيولة الإلزامية المفروضة على المصارف مرتفعة جداً. وبعد أوّل صدمة في أسعار النفط العالمية في السبعينيات، والتي أثارت موجة تضخّم عالمية لم تسلم منها تركيا، واجهت هذه الأخيرة مشكلات كبيرة في النموٍّ تزامنت مع تضخّم هائل في الأسعار، فأدّى ذلك إلى الركود.

12

مليار دولار هو حجم صافي الاحتياطات بالعملات الأجنبية في المصرف المركزي التركي في 17 كانون الأوّل الماضي وهو يمثّل انخفاضاً بقيمة 9 مليارات دولار خلال أسبوع واحد بعدما كانت 21.1 مليار دولار في 10 كانون الأوّل


في مرحلة «القمع المالي» سجّل الاقتصاد التركي نموّاً صناعياً وزراعياً كبيراً. ففي تلك الفترة كانت استراتيجية الدولة التركية تعتمد على «استبدال الاستيراد»، أي توجيه الإنتاج في الاقتصاد لاستبدال السلع المستوردة. ولا يمكن أن يتم ذلك من دون تدخل شديد من الدولة بهدف حماية المنتجات المحليّة وضمان تنافسيّتها في الأسواق الداخلية بُغية تحقيق عملية استبدال الاستيراد. خلال عقد ونصف تمتد من مطلع الستينيات إلى منتصف السبعينيات، ارتفعت حصّة الإنتاج الصناعي في تركيا من الإنتاج الكلّي من 22% إلى نحو 32%. أيضاً خلال هذه الفترة، كان الإنتاج الزراعي يشهد نموّاً سنوياً لا بأس به، بلغ معدّله 3.3%، علماً بأن حصّة الإنتاج الزراعي من الإنتاج الكلّي شهدت تراجعاً لحساب الإنتاج الصناعي، إذ انخفضت من نحو 38% إلى 24%.
لكن عام 1976، دخل الاقتصاد التركي في ركود سببه أزمة النفط العالمية. بعدها وقعت تركيا في أزمة ميزان مدفوعات وحلقات من التضخم تزامنت مع اضطرابات سياسية، ما دفعها إلى أحضان صندوق النقد الدولي عبر اتفاقيّتَين في عامَي 1978 و1979 تضمّنتا سلسلة إجراءات لتحرير الاقتصاد.

تحرير حركة رأس المال كشف الاقتصاد التركي على العوامل الخارجيّة وعلى الخضّات المالية الداخلية


هذه المرحلة هي التي أسّست نمط «لبرَلَة» الاقتصاد التركي. علماً بأن انعكاسات الإجراءات المتّخذة، وتلك التي تلتها في السنوات اللاحقة، لم تكن مبهرة. فقد كان معدّل النموّ في الثمانينيّات 4.1% مقارنة مع 6.6% بين عامَي 1963 و1972، ومع 7.2% بين عامَي 1972 و1977، أي في مقارنة مع فترات ما قبل «اللّيبرالية». كما أن تحرير الاقتصاد، جعله تحت رحمة الخضّات الداخلية والخارجية، سواء كانت خضات طبيعيّة أو مفتعلة. وقد اتّضح ذلك في عامَي 1994 و2000. وساهم ذلك الأداء في تحوّل الاقتصاد التركي إلى اقتصاد ريعي. يستدلّ على ذلك من تغيّر بنية توزّع الدخل في تركيا في تلك السنوات، إذ ارتفعت حصّة الأرباح المالية والدخل الريعي، من إجمالي الدخل في تركيا، من 37.73% إلى 70.2%، في حين انخفضت حصّة الأجور من 31.5% إلى 14%. جميع هذه العوامل جعلت من الاقتصاد التركي «المحرّر» اقتصاداً هشّاً، معرّضاً للمخاطر.

إردوغان على سكّة انهيار الليرة
ومنذ وصول إردوغان إلى السلطة عام 2002 حتى اليوم، عانت تركيا من عجزٍ مزمن في الحساب الجاري، وهو الحساب الذي يسجّل صافي الصادرات والواردات والتحويلات الرأسمالية. أكمل إردوغان المسار نحو نهج النيوليبرالية والتوسّع فيه متخذاً من خصخصة المؤسسات العامة عنواناً اساسياً للنشاط الاقتصادي. وفي فترة حكمه، تحوّلت الاستثمارات من القطاعات الصناعية إلى قطاع الإنشاءات السكنية ومشاريع النقل والاتصالات. وبين عامَي 2005 و2016 انخفضت حصّة الصناعة من إجمالي الاستثمارات من 27.6% إلى 18.1%، فيما ارتفعت حصّة مشاريع السكن من الاستثمارات من 20% إلى 29%.

%8.6

هي نسبة الاستثمارات في قطاع الإنشاءات من الناتج المحلي في تركيا عام 2017 مقارنة مع 4.5% عام 2003، وهذا يعني أن الاستثمارات في تركيا تحوّلت من القطاعات المنتجة إلى قطاع الإنشاءات


استمرار العجز في الحساب الجاري وتراكمه كان يعني أن النموذج الذي اعتمدته تركيا بعد «اللَبرَلَة» قد انتهى ودخل في الوقت الضائع. إلّا أن بعض العوامل لعبت دوراً كبيراً في استمرار النموذج حتى السنوات الأخيرة. فبين عامَي 2003 و2008، كانت الاستثمارات الأجنبية المباشرة تغطي نحو 50% من العجز في الحساب الجاري، مقابل تغطية بنسبة 18% للاستثمارات في الأسواق المالية. الخصخصة جذبت هذه الاستثمارات وكان من أبرزها استحواذ شركة «أوجي» اللبنانية على شركة الاتصالات التركية بما قيمته 6.5 مليارات دولار، فيما استحوذت شركة «ترانسغال» الروسية - الكازاخستانية على محطة تكرير نفط «PETKIM» مقابل مليار دولار، كما تمّت خصخصة شركة التنباك التركية، وغيرها الكثير من الأمثلة. هذه العمليات ساهمت في تغطية العجوزات المتتالية في الحساب الجاري التركي في الفترة بين عامَي 2003 و2008.
وعلى وقع الأزمة المالية العالمية التي انفجرت في الفصل الثالث من عام 2008، انخفضت الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي كان يعتمد عليها الاقتصاد التركي لتغطية عجز الحساب الجاري. سجّلت هذه الاستثمارات تراجعاً بنسبة 59.4% بين عامَي 2008 و2009، ما أدّى إلى انكماش الاقتصاد التركي في تلك السنة، ودفع الحكومة التركية والمصرف المركزي إلى اتخاذ إجراءات مالية ونقدية توسّعية، لإنقاذ الوضع.
في عام 2010 بدأ الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بتنفيذ سياسة التيسير الكمّي (Quantitative easing)، وقد كان هذا الأمر بهدف خفض معدلات الفائدة. لذلك اتسمت المرحلة التي تمّت فيها هذه العمليات، أي بين عامَي 2010 و2013، بمعدّلات فائدة منخفضة عالمياً. في ذلك الوقت استغلّت تركيا الظروف المالية العالمية، التي تمثّلت بأسعار فائدة منخفضة، لاجتذاب الاستثمارات في الأسواق المالية. فخلال الفترة المذكورة، غطّت الاستثمارات الأجنبية في الأسواق المالية التركية نحو 44% من العجز في الحساب الجاري، في حين أصبحت الاستثمارات الأجنبية المباشرة تُغطي نحو 18.3% من العجز. وقد شهد الاقتصاد التركي خلال تلك الفترة نمواً معدله 8.2% سنوياً، إلّا أنّ هذا النمو لم يكن نمواً مستداماً، لأن عماده كان التدفّقات المالية الآتية للاستثمار في الأسواق المالية التركية. لذا، عندما توقّفت الاستثمارات الأجنبية بعد عام 2013، بسبب الأزمات السياسيّة التركية مع أميركا والدول الأوروبية، لم تجد تركيا غير الاعتماد على احتياطاتها لتغطية العجز في الحساب الجاري.

على عكس الاتجاه العالمي خلال الجائحة، اضطرّت تركيا في الفصل الثالث من 2020 إلى رفع معدّلات الفوائد للحدّ من نزف العملات الأجنبية


هنا اتّضح حجم الانكشاف التركي على العوامل الخارجية. فعندما تحوّلت الاستثمارات الأوروبية والأميركية بعيداً عن تركيا، ظهر حجم المشكلة الناتج من اعتماد تركيا على تدفّقات العملات الأجنبية من هذه الدول. وقد أدّى ذلك إلى ازدياد الدّين العام التركي بالعملات الأجنبية، ليرتفع من 41.2% من الناتج المحلي في 2013 إلى 52.9% في الفصل الأوّل من عام 2018. وبنهاية 2018، وتحديداً عندما فرض الرئيس الأميركي دونالد ترامب عقوبات طالت وزيرَي الداخلية والعدل التركيّين، وأصدر قرارات تزيد التّعرفات على صادرات الحديد والألومنيوم التركية إلى أميركا، تبيّن مجدّداً حجم الثقب الناتج من العوامل الخارجية، إذ أطلقت قرارات ترامب موجة كبيرة من هجرة رؤوس الأموال الأجنبية إلى خارج تركيا. في 2018 خسرت الليرة التركية نحو 45% من قيمتها مقابل الدولار.

تغيير المسار؟
بعد أزمة عام 2018 اضطرت تركيا إلى رفع معدلات الفائدة. أولاً، بسبب خفض تصنيفها الائتماني من قبل وكالات التصنيف الائتماني. وثانياً، بهدف جذب رؤوس الأموال إليها من خلال تقديم نسب عائدات أعلى. إلا أن هذا الأمر لم يُعالج المشكلة بشكل جذري، بل تفاقمت مع جائحة كورونا التي كان لها مفاعيل إضافية. ففيما اتّجهت معظم دول العالم نحو خفض معدلات الفائدة خلال الجائحة، بهدف تحفيز الاستثمارات والاستهلاك، اضطرت تركيا في الفصل الثالث من 2020 أن ترفع معدلات فوائدها للحدّ من النزف في العملات الأجنبية من الاقتصاد.
ومنذ أيلول 2021، سعى إردوغان إلى خفض معدلات الفائدة، زاعماً أن قصده تحفيز الاستثمارات وخفض معدلات التضخّم، والتي بالمناسبة لم تنخفض عن 10% في السنوات الخمس الأخيرة، بالإضافة إلى زيادة معدّلات التوظيف وتحفيز التصدير. وبالفعل انخفضت معدّلات الفائدة قصيرة الأجل، من 19% إلى 14% في شهر كانون الأوّل مقارنة مع أيلول. ومن أجل القيام بذلك كان لا بدّ من زيادة العرض النقدي في القطاع المالي. هذا الأمر أدّى إلى انخفاض قيمة الليرة التركية بشكل سريع جداً، فبين مطلع أيلول و19 كانون الأول الماضيَين فقدت الليرة التركية 50% من قيمتها. إلا أنه بعد مجموعة إجراءات أعلنتها الحكومة التركية، ارتفعت قيمة الليرة 33%. أهمّ هذه الإجراءات كان عبارة عن تعويض عن خسائر أصحاب الودائع بالليرة التركية في حال انخفضت قيمة العملة بنسبة تتجاوز معدلات الفائدة. فمثلاً إذا انخفضت قيمة العملة بنسبة 15% ومعدل الفائدة هو 14%، يتم تعويض صاحب الوديعة بالفرق البالغ 1%، ويتم هذا الأمر عبر خزينة الدولة. لكن، بحسب تقرير لرويترز، شهدت الاحتياطات التركية بالعملات الأجنبية انخفاضاً بقيمة 9 مليارات دولار خلال أسبوع، أي أنه من المرجّح أن تكون الحكومة قد ضخّت في الأسواق هذه الأموال بهدف إعادة الاستقرار النسبي لسعر الليرة التركية. لذلك، لا يُستبعد أن يكون هذا الاستقرار النسبي مجرّد استقرار مؤقّت.
قد لا يكون ما يحاول فعله إردوغان سيئاً، فاستمرار مسار الاعتماد على التدفّقات المالية الأجنبية لا يصبّ في المصلحة السياديّة لتركيا، علماً بأن خفض معدلات الفائدة قد يحقّق نمواً في الاستثمارات وبالتالي في الإنتاج، ويخلق في المقابل اعتماداً أقل على التدفّقات الخارجية. وإن تزامن هذا الأمر مع انخفاض قيمة العملة المحلية، قد يكون في مصلحة الإنتاج التركي، إذ يزيد من منافسته للإنتاج الأجنبي، سواء في الأسواق المحليّة أو الخارجية. لكن هذه الإجراءات تأتي بكلفة ثقيلة على المجتمع التركي، إذ إن معدلات التضخّم التي ستنتج عن الانخفاض في قيمة العملة لا يستهان بها، وهي ما تفرض على الحكومة استخدام جزء كبير من الاحتياطات بالعملات الأجنبية من أجل محاولة لجمها.
هذا الأمر يضع إردوغان أمام خيارين؛ التراجع عن إجراءاته بشأن الفوائد وانتظار انفجار الأزمة بشكل طبيعي، أو الإكمال في عكس المسار الاقتصادي الذي اتّبعه هو ومن سبقه في الحكم نحو تحقيق السيادة الاقتصادية من خلال إنشاء قاعدة إنتاجية قوية تخفّف من العجز في حساب تركيا الجاري وفي ميزانها التجاري، وبالتالي الاعتماد على حركة رأس المال الأجنبية لسدّ الثغرات.

المصادر
«النمو الاقتصادي والتغيّر الهيكلي في تركيا 1960-1988» - أيدين سيسن، سوت دوغرويل، وفاطمة دوغرويل
«السياسة والمجتمع والتحرير المالي: تركيا في التسعينيات»- أوميت سيزري ساكاليوغلو ، إيرينك يلدان
«نهاية الإزدهار والاقتصاد السياسي لأزمة تركيا»- جيم أويفات



تركيا بيد صندوق النقد
أجرت الحكومة التركية، من ضمن برامج الاتفاق مع صندوق النقد الدولي في نهاية السبعينيات، سلسلة إجراءات، لـ«تحرير» الاقتصاد تضمنّت خفض قيمة الليرة التركية مرّتين؛ بنسبة 23% في عام 1978 وبنسبة 44% عام 1979. وقد كان هذا الإجراء جزءاً من تحويل السياسة الإنتاجية من سياسة استبدال السلع المستوردة إلى سياسة الإنتاج بهدف التصدير، إذ إن خفض قيمة العملة المحلية يسهم في زيادة تنافسية السلع المصدّرة في الأسواق الخارجية، كما عمدت الحكومة إلى خفض الضرائب على الأرباح الناتجة عن عمليات التصدير لتشجيع البيع إلى الأسواق الخارجية. وفي عام 1980 رفعت السلطة النقدية التركية سقف الفوائد على الودائع الخاصّة، كما أُدخلت شهادات الإيداع إلى الأسواق المالية التركية، الأمر الذي زاد هامش تحركات المصارف في الأسواق المالية. ومن الإجراءات، التي اتخذت، تحرير حركة رأس المال من وإلى الاقتصاد التركي، بالإضافة إلى السماح بفتح ودائع بالعملات الأجنبية.