يشكّل التعميم 161 الصادر عن مصرف لبنان آخر مظاهر «توهّم» الربح لدى المواطن اللبناني. التعميم يقضي بإلزام المصارف بصرف دولارات للعملاء بدل اللّيرات التي يريدون سحبها على أساس سعر صرف منصة «Sayrafa»، فيستفيد العميل من الفرق بين سعر المنصّة وسعر الدولار في السّوق الموازية. يأتي ذلك، بعد خسارة 94% من قيمة الليرة مقابل الدولار، وبالتالي تدهوراً هائلاً في قدرات المقيمين الشرائية. لكن اللّافت أن تصبح الاستفادة القليلة من فرق سعر الصرف بين السوق الحرّة وسوق «صيرفة» هي بمثابة ربح. هذا الأمر لا يمكن تفسيره إلّا من خلال علم الاقتصاد السلوكي، الذي يحاول تفسير سلوكيات الأفراد من خلال دراسة سيكولوجيا الإنسان. هذا العلم يفرّق بين نوعين من الأشخاص، الـ«Homo Economicus»، أو «الإنسان الاقتصادي» الذي يتمتّع بالقدرة اللّانهائية على اتخاذ قرارات عقلانية وهو مصطلح يُشار به إلى الاقتصاديّين عادةً. وبين النوع الآخر هو «Homo Sapien»، أو الإنسان العادي الذي لا يقوم بأخذ القرارات العقلانية بشكل دائم، وهو يُشير إلى الأعم الأغلب من الأفراد. هذا الأخير هو النوع الذي تتركز دراسات الاقتصاد السلوكي حوله.

4.346

مليار ليرة هو حجم النقد الموجود في صناديق المصارف التجارية في نهاية تشرين الثاني 2021، أي بارتفاع قيمته 557 مليار ليرة عن شهر تشرين الأوّل الماضي، بحسب أرقام مصرف لبنان

تتنوّع الخسارات التي ضربت المجتمع اللبناني خلال الأزمة النقدية - المالية - الاقتصادية التي عصفت بالبلد في السنوات الأخيرة. المودعون بالدولار خسروا ودائعهم، ولم يعد لديهم سوى الليرات التي تقطّرها عليهم المصارف على أساس سعر صرف «الدولار المصرفي» الذي تنخفض قيمته عن قيمة الدولار السوقي بأضعاف. والمودعون بالليرة خسروا قيمة ودائعهم بعد تآكل قيمة العملة المحلية بشكل متدحرج. وأصحاب المميّزات، مثل الموظفين في القطاع العام، ومنتسبي النقابات، وحتى المتقاعدين، خسروا الخدمات التي كانت تقدّم لهم من قبل الصناديق الاجتماعية. كل هؤلاء خسروا الكثير ممّا كانوا يملكونه سابقاً. وإذا نظرنا إلى حالهم اليوم نسبة لما كانت عليه منذ سنتين أو أكثر، ليس صعباً أن نلاحظ الخسارة الهائلة التي تعرّضوا إليها. إلّا أنهم من خلال معايشة كل مراحل الخسارة، لم تعد النقطة المرجعية أو سنة الأساس التي يُقاس عليها، هي حالهم ما قبل الأزمة. انتقلوا، من خلال الاعتياد على تدهور قيم مداخيلهم ومدّخراتهم وثروتهم، إلى نقطة أساس مختلفة كل مرّة. فمع كل تطوّر يستقرّ لفترة قصيرة، يصبح هو النقطة المرجعية أو سنة الأساس التي يُقاس على أساسها التطوّر اللّاحق. كلّ تدهور يصبح طبيعياً بعد فترة من الزمن. ومن هنا يمكننا فهم ما قاله رياض سلامة في بدايات الأزمة، «بكرا بيتعودوا»، بشكل علمي، رغم أنه ليس بالضرورة أن يكون ما قاله في ذلك الوقت مبني على شيء من العلم.
أحد أهم النظريات في علم الاقتصاد السلوكي كانت «نظرية الاحتمالية» التي طوّرها دانيال كانيمان وعاموس تفيرسكي عام 1972. هذه النظرية توصّف كيف يقيّم الأفراد احتمالات الربح والخسارة بشكل غير متماثل. هي تعتمد على عدّة عناصر تؤثّر على عملية تقييم الفرد للنتائج التي توضع أمامه ليستنتج إذا كانت هذه النتائج تشكّل ربحاً أو خسارة. من بين هذه العناصر، «الاعتماد المرجعي» الذي يقول بأن الفرد يقوم بتقييم خياراته على أساس نقطة مرجعية، سواء كانت في وقت سابق من الزمن أو الوضع الراهن.

من خلال الاعتياد على تدهور المداخيل والمدّخرات والثروة، انتقل أساس قياس الرّبح والخسارة إلى نقطة مختلفة في كلّ مرحلة


إن تحديد هذه النقطة من قبل الفرد هو أمر أساسي لتحديد إذا كان ما بين يديه يعدّ ربحاً أو خسارة. فمثلاً، إذا استفاق شخص بعد غيبوبة لسنتين وكان يملك حساباً بالدولار في أحد المصارف، ليجد أن المصرف يعرض عليه إعطاءه أمواله بالليرة اللبنانية على أساس 8000 ليرة لكلّ دولار، بينما الدولار في السوق الموازية يساوي 24000 ليرة، سيعتبر أن هذا الخيار هو خسارة مطلقة. لأن النقطة المرجعية لهذا الشخص هي عندما كان قادراً على سحب أمواله بالدولار بالكمية التي يريدها، فيما ها هو اليوم يُعرض عليه سحبها بثلث قيمتها. أما بالنسبة لشخص عاش مرحلة الأزمة كلها، وتشرّبها بشكل تدريجي، تكون النقطة المرجعية عنده أن المصرف عرض عليه أخذ الأموال بالليرة على أساس سعر صرف 3900 ليرة مقابل الدولار. فهو يرى أن عرض سحب أمواله بالليرة على سعر 8000 ليرة لكل دولار هو فرصة للربح، بحسب نقطته المرجعية. علماً بأنه يكون فعلياً قد خسر ثلث قيمة أمواله مقارنة مع سعر الدولار في السوق الموازية.

41.5

مليون دولار هو حجم التداول على منصة «Sayrafa» يوم الجمعة الماضي، بينما كانت تتراوح بين 14 و24 مليون دولار في الأيام التي سبقت فتح كوتا شراء الدولارمن مصرف لبنان على سعر المنصة بموجب التعميم 161


تُفسّر هذه الظاهرة العلمية ما يحدث اليوم في السوق. أي قرار أو تعميم صادر عن مصرف لبنان، يُعيد قليلاً من الخسارة التي تكبّدها أفراد المجتمع، أصبح يُنظر إليه اليوم على أنه فرصة للربح. والأمثلة على هذا كثيرة جداً. فعلى سبيل المثال، يُنظر إلى التعميم 158 باعتباره فرصة للربح لأنه قضى بأحقيّة المودع سحب 400 دولار من حسابه المصرفي بالدولار الورقي، و400 دولار آخرين على سعر 12000 ليرة مقابل الدولار. وهذا الأمر أتى بعد حرمان المودعين من الحصول على أي دولار من المصارف اللبنانية لمدة تزيد عن سنة ونصف السنة. لكن النقطة المرجعية للمودع أصبحت المقارنة بين الحصول على 400 دولار ورقي و400 أخرى على سعر صرف أقل من سعر السوق وبين عدم الحصول على الدولارات. هكذا يصبح التعميم فرصة للربح. وهذا الأمر انطبق أيضاً على التعميم 151، الذي قضى بحصول المودعين بالدولار على أموالهم بالليرة على أساس سعر صرف 3900 ليرة مقابل الدولار، وهو كان أقل من سعر الصرف في السوق الموازية بكثير. وفي هذه الحالة كانت النقطة المرجعية هي عدم قدرة المودعين على الحصول على أموالهم إلا على سعر 1500 ليرة مقابل الدولار، وبذلك أصبح التعميم 151 فرصة للربح.
لا ينطبق هذا الأمر فقط على القرارات النقدية التي يصدرها مصرف لبنان، بل ينطبق أيضاً على التقديمات الأخرى التي تقدمها الدولة. فما حدث في حالة دعم المحروقات هو خير مثال. فبعدما أصبح هناك شحّ في المحروقات، بسبب محدودية الدعم من قبل مصرف لبنان، أصبحت النقطة المرجعية عند الأفراد هو عدم وجود محروقات في الأسواق. عندها أصبح قرار رفع الدعم عنها يمثّل ربحاً، ليس مالياً، إنما على قاعدة وجود الشيء أفضل من عدمه. وهذا ما حدث في قطاع الأدوية أيضاً. وهو اليوم يمثّل ما تحاول الحكومة تطبيقه في قطاع الاتصالات، حيث بدأ الحديث عن احتمال انقطاع الإنترنت والاتصال، لتصبح بعد فترة النقطة المرجعية هي عدم توافر هذه الخدمة، وحينها يصدر قرار رفع التعرفات ليظهر كأمر إيجابي عند المواطنين.
خسر المقيمون في لبنان الجزء الأكبر من مداخيلهم وأصولهم وثروتهم، لكن عندما يحصلون على جزء من خسائرهم لا ينظرون إلى حجم الخسارة الباقية، بل يعدّون الأمر بمثابة تعويض أو حتى ربح.