أحد أوجه الأزمة اللبنانية الأسوأ انعكس في الكارثة التي حلّت في قطاع المحروقات، بالأخص في الفترة التي سبقت رفع الدعم، إذ أصيب القطاع بشحّ كبير في المشتقّات المعروضة في السوق، ثمّ في الفترة التي تلت رفع الدعم ارتفعت أسعار المحروقات، ما كان له تبعات متشعّبة على الاقتصاد والمجتمع. لذا، من المهمّ النظر في الحلول المتوسّطة والطويلة الأمد التي قد تسهم في حلّ جزء من أزمة المحروقات وتصحّح بعضاً من العبء الواقع على ميزان المدفوعات بسبب الاستيراد المركّز للمشتقات النفطية بفاتورة بلغت 3.1 مليارات دولار في نهاية 2020، وترفع جزءاً من كلفة التشغيل واستدامة توفير المواد اللازمة للداخل، فضلاً عن إعادة لبنان إلى موقع استراتيجي حيوي. وأحد هذه الحلول، إنشاء محطات تكرير للنفط تسمح للبنان بلعب دور الوسيط بين النفط الخام ومنتجات النفط القابلة للاستهلاك والتصدير، وهذا الأمر لن يفيده فقط في السوق المحلية، بل سيدرّ عليه عائدات مهمّة ويخفّف عنه أكلاف كبيرة.
(الأخبار)

عملياً، العرض الروسي الذي تلقّاه لبنان لإعادة بناء محطات التكرير يفتح الباب أمام فرص الاستثمار المتاحة. إذ يمكن للبنان الاستفادة من موقعه الجغرافي القريب نسبياً من العديد من الدول النفطية، التي تبيع نفطها الخام إلى دول أوروبية وأميركا لتكريرها هناك. تبلغ القدرة الاستيعابية لمحطات التكرير الموجودة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ما نسبته 39% فقط من مجمل قدراتها الإنتاجية للنفط الخام. في المقابل يجري تصدير 61% من إنتاج النفط في المنطقة على شكل نفط خام. قرب لبنان من هذه الدول يتيح فرصة الاستفادة من محطات التكرير التي يفترض أن تدار بعقل استراتيجي من خلال جهات لديها أصلاً حصّة دولية في السوق. من ميزات لبنان في هذا المجال، أنّ لديه تمديدات موجودة مع العراق لنقل النفط الخام.
في هذا الإطار، الطرح الروسي يتضمّن إنشاء محطّتَي تكرير مكان المحطتين القديمتَين في الزهراني وطرابلس، والاستفادة من هذين المرفقين الموجودين لخفض الأكلاف الرأسمالية التي تترتب على إنشاء محطّتَين جديدتين في موقعين آخرين. لقد كانت قدرة محطة التكرير القديمة الموجودة في الزهراني مؤهّلة لتكرير فقط 17 ألف برميل من النفط الخام يومياً، فيما كانت تلك الموجودة في طرابلس تكرّر نحو 21 ألف برميل يومياً. يشمل الطرح الروسي إنشاء محطّة في طرابلس تملك القدرة على تكرير 1.5 مليون طن في السنة، أو ما يعادل 30 ألف برميل نفط خام يومياً، يمكن أن تنتج العديد من مشتقات النفط بما فيها البنزين والمازوت والكيروسين، بالإضافة إلى غاز الهيدروكربون والزفت. كما تضمّن طرح الشركة إنشاء محطة تكرير في الزهراني بقدرة إنتاجية كافية لتكرير نصف مليون طن من النفط الخام سنوياً، أي ما يوازي 10 آلاف برميل يومياً.
إن هذا الاستثمار، حتى لو لم يكن كافياً، هو مهم بالنسبة لمستقبل قطاع المحروقات في لبنان. ويمكن البناء عليه لتوسعة المحطات مستقبلاً


هذا الأمر يعني أن المحطّتَين مجتمعتَين لديهما قدرة إنتاجية تساوي نحو 40 ألف برميل من النفط يومياً. إلّا أنّ هذا الرقم لا يكفي لتغطية حاجة لبنان من استهلاك النفط، التي بلغت في عام 2019 نحو 168 ألف برميل من الخام المكرّر يومياً، بحسب إحصاءات وكالة الطاقة الأميركية. و في المناسبة هذا الرقم هو رقم هائل بالنسبة لبلد مثل لبنان. فبالمقارنة مع سوريا قبل الحرب، أي في عام 2011، كان الاستهلاك اللبناني يساوي نحو 60% من الاستهلاك السوري من هذه المادة الذي كان يبلغ 294 ألف برميل يومياً. علماً بأن عدد سكان لبنان في عام 2019 كان يوازي 28% من عدد السكان السوريّين قبل الحرب. لكنّ الأمر يعود إلى الاعتماد المفرط للبنان على الوقود الثقيل لإنتاج الكهرباء، وعلى استهلاك البنزين المفرط بسبب سياسات النقل التي تعتمد على السيارات الفردية بدلاً من النقل المشترك. لذا، يجب أن يكون أحد الأهداف هو خفض الاستهلاك المفرط للمشتقات النفطية عبر إنشاء مشاريع نقل مشترك في قطاع النقل بالإضافة إلى الانتقال لإنتاج الكهرباء على الغاز الطبيعي.
يُشير الطرح الروسي إلى أهمية موقعَي الزهراني وطرابلس لإنشاء محطّتَي تكرير فيهما. وذلك يعود إلى توافر محطات استقبال بحرية للنفط في الموقعين، بالإضافة إلى محطّة ضخّ من المرفأ إلى محطة التكرير في الزهراني، ووجود خط النفط العربي القادم من العراق في طرابلس. بالإضافة إلى وجود خزانات نفط كبيرة ومحطة تحميل للصهاريج. كما أنّ هذين الموقعين لديهما البنية التحتية لإنشاء محطة كهرباء في داخلهما، بقدرة 1.1 ميغاواتاً في الزهراني و0.6 ميغاوات في طرابلس. لكن تشير الشركة إلى أن هناك بعض المشاكل التي تعيب الموقعين، منها أنّ المعدات والمنشآت الموجودة أصبحت متهالكة بسبب قدمها وعدم استخدامها منذ زمن.
إن هذا الاستثمار، حتى لو لم يكن كافياً، هو مهم بالنسبة لمستقبل قطاع المحروقات في لبنان. ويمكن البناء عليه لتوسعة المحطات مستقبلاً وبالتالي جعلها كافية لتغطية احتياجات السوق اللبنانية، بعد أن يتم تقليص استهلاك المحروقات فيها قدر الإمكان. ويمكن حتى توسعتها في سبيل تصدير إنتاجها الفائض من المحروقات. كما أنّ لهذا الاستثمار أهمية في ما يخص الاقتصاد السياسي للبلد، بحيث يكون خطوة أولى لتنويع مصادر الاستثمارات في البلد، وذلك للتخلّص من التبعية المطلقة للاستثمارات الغربية، التي قُيّد بها البلد من قبل الحكومات السابقة.



بالأرقام

122
مليون دولار هي قيمة الغاز المنزلي المستورد إلى لبنان في عام 2020 بحسب أرقام الجمارك اللبنانية، أي ما يعادل 243 ألف طن

837
مليون دولار هي قيمة البنزين المستورد إلى لبنان في عام 2020 بحسب أرقام الجمارك اللبنانية، أي ما يعادل 1.8 مليون طن

2.2
مليار دولار هي قيمة المازوت المستورد إلى لبنان في عام 2020 بحسب أرقام الجمارك اللبنانية، أي ما يعادل 5.5 ملايين طن