يثور جدل في لبنان في شأن ما بات يعرف بالتوجه شرقاً، أو ما يعبّر عنه على نحو أدق بتنويع الخيارات. يبدو هذا التوجه بديهيّاً ما دام أن مركز التجارة العالمية بات في الشرق، الذي سيصير أيضاً مركزاً عالميّاً للتكنولوجيا، وتبعاً لذلك ربما مركزاً ماليّاً. لكن لماذا ننخرط نحن في هذا الانقسام الحادّ بشأن قضية باتت بديهيّة بالنسبة إلى غيرنا من الدول، فتجارة كل من الولايات المتحدة الأميركيّة والاتحاد الأوروبي من جهة، والصين والهند وحدهما من جهة ثانية، تلامس 1.5 تريليون دولار سنوياً، كما تعتمد دول الغرب أكثر فأكثر على الدول الآسيوية في ترميم الانقطاعات في سلاسل القيمة عند إنتاجها سلعاً معقّدة وذات تقنيّات عالية، ولا يمكن الاستهانة أيضاً بالحجم المتزايد للتبادل والتجارة بين دول المنطقة، بما فيها دول المشرق العربي وجوارها وضفتَي الخليج، والذي كان مقدراً له أن يفتح آفاقاً أوسع للتعاون لولا انفجار الصراعات الدامية طوال العقد الماضي.في واقع الحال، يُعزى الانقسام في الآراء بشأن العلاقة مع دول الشرق إلى وجود مقاربتين مختلفتين:
ــــ من ناحية، هناك المقاربة الاقتصادية التي يتبناها أنصار «التوجه شرقاً»، وتنطوي على بُعدين: الأول تغيير الاتجاه من اقتصاد يكتفي بتداول القيمة إلى اقتصاد يُعنَى بإنتاجها، أو بتعبير آخر من اقتصاد يرتكز نموّه على الاستهلاك إلى اقتصاد يعتمد على الاستثمار. أما البعد الثاني فهو الانخراط في علاقات اقتصادية وتجارية متوازنة قدر الإمكان وخالية من الاستغلال السياسي، وتأخذ بالاعتبار ما طرأ من تغيّر في نظرة الدول الأخرى لمصالحها الاقتصادية، التي يعاد تعريفها باستمرار.
ــــ من ناحية ثانية، لدينا مقاربة الذين يعارضون التوجه نحو الشرق من زاويتين: زاوية المصالح بحيث سيقوّض تغيير اتجاه الاقتصاد الامتيازات التي يتيحها الوضع الراهن، والتي تأتي في إطار التكامل بين دورة التمويل الخارجي، ودورة استخدام هذه الأموال التي ما إن تدخل البلد حتى تخضع لكل المكائد السياسيّة وتقاسم المشاريع والتلاعب بالمناقصات والمحاصصة...
لكن الأهم بالنسبة إلى المعترضين هو أنّ مقياس قبول الاتجاه نحو الشرق أو رفضه يرتبط بمحصّلاته الجيوسياسيّة، وما يخشونه هو أن يفضي تنويع العلاقات الاقتصادية إلى تحوّل تدريجي، إنما بقدم ثابتة في الخيارات الأساسيّة للبنان بعد طول انضواء في المنظومة الغربيّة، والتي ما زالت تستتبع إليها جزءاً لا يستهان به من الدولة العميقة في لبنان.

نهاد علم الدين ــ لبنان

من نافل القول أنّ تغيير التوجهات الاقتصادية للبلد سيؤثر بشكل ما على مقارباته السياسية، والعكس بالعكس، لكن اعتماد مقاربة مسيّسة إلى هذا الحد في التعامل مع الخيار الشرقي، ينطوي على سوء فهم له وعدم إلمام بمنطلقاته والمفاهيم المؤسّسة له والمشاريع التي تدور في فلكه وانعكاسات كل ذلك على موقع لبنان الجديد في الجغرافيا الاقتصادية الإقليمية والعالميّة المتغيّرة وصراعاتها وتحالفاتها.
لا يمكن اختصار المفاهيم والمنطلقات المؤسّسة لهذا التوجّه بالعلاقة مع الصين وحدها، ولا بالتجاذب بينها وبين الغرب، الأميركي على وجه الخصوص، فالدول التي يُنسب إليها إطلاق هذا الخيار أو الانضواء فيه تزداد باستمرار، ومع ذلك فإن ما لا يمكن إغفاله هو أن تعاظم حجم الاقتصاد الصيني أحدث تغيّرات كبيرة في خطوط الجاذبية التي تتحكّم بفضاء الاقتصاد العالمي، وأملى نمطاً جديداً من التفكير وقواعد العمل، تتعارض وربما تتناقض مع قواعد وأنماط التفكير التي تحكم النظرة الغربيّة للأمور.
في هذا المجال، فإن الوقائع التاريخية تبيّن أن خسارة السيطرة على البحار تفقد القوى العظمى بُعدها الإمبراطوري. تنظر الولايات المتحدة الأميركية إلى هذا النوع من السيطرة بوصفه أساس أمنها القومي وضمانة لتجارتها وأمنها. من المفيد التذكير هنا برأي الأدميرال المعروف الفرد ماهان (1840-1914)، الذي كتبه قبل تطوير الأسلحة النووية والحرب على الإرهاب، المتمثّل في أن مصلحة أميركا الأساسية تكمن في منع أي قوة مناوئة لها من الوصول إلى المحيطات، فالقوة البحريّة بحسب ماهان هي أساس القوة الاستراتيجية العالمية ومن يسيطر على البحار يسيطر على التجارة ويكون الأقوى. وتؤيّد الوقائع ذلك، إذ إنّ أكثر من ثلاثة أرباع التجارة العالمية تمرّ عبر البحر، وما يزيد على 95% من بيانات الاقتصاد والتجارة والصفقات العالميّة تمرّرها الكابلات البحريّة. ومع التقدم التقني وزيادة الاعتماد على الغاز وتشدّد التشريعات البيئيّة، تضاعفت عمليات التنقيب والاستكشاف في المناطق الاقتصادية (البحرية) الخالصة للدول، وتراجعت الاستثمارات في الوقود الأحفوري والفحم بنسبة 40%، التي تساوي انبعاثاتها المضرّة بالبيئة ضعف انبعاثات الغاز الضارة على الأقل. وهذا يزيد من أهميّة البحار بوصفها مصدراً للموارد الحيويّة وليس فقط في التجارة الدولية.
وبرأي جورج فريدمان وآخرين، فإنّ دولاً كالصين وإيران، تعمل على تأمين ممراتها البحريّة، أو على الأقل منع الآخرين من الوصول إليها. فالوصول إلى البحار يشكّل ضرورة اقتصاديّة لبكين، لمنع واشنطن من محاصرتها وخنق اقتصادها وعرقلة نموها. أمّا إيران فإذا لم تقدر على كسر الحصار المفروض عليها، فإن بوسعها على الأقل فرض حصار مضاد على إمدادات النفط.
تتعرض الهيمنة الأميركية على البحار لأشكال متعددة من التهديد. من الناحية العسكرية يتقلّص دور الأساطيل والقطع البحرية التقليديّة في التحكم بقواعد الصراع في أعالي البحار، وتحلّ محلها السفن الحاملة للطوربيدات والغواصات الصغيرة، والصواريخ المعزّزة بالرصد الفضائي، أي أنّ التحكّم بالبر والفضاء صار مفتاح السيطرة على البحار.
يذكر بعضهم أن اهتمام الصين وروسيا وغيرها من الدول المنافسة لواشنطن أو المتصارعة معها، بات منصبّاً على المشاعات العالمية الأربعة التي يمكن الدول الوصول إليها، ولا تخضع لولاية قانونية لدولة محددة، وهذه المشاعات هي الفضاء والجو والبحار والفضاء الإلكتروني. مع ذلك تظلّ القوة البحريّة العنصر الاقتصادي الأبرز، وفي هذا المضمار تنكفئ واشنطن لمصلحة بكين، حيث يتوقع أن تتبوأ القوة البحرية الصينية مركز الصدارة في العالم عام 2030. فيما تراجع عدد السفن الحربية الأميركية إلى أقل من النصف في غضون ربع قرن.
ولا يقف الأمر عند حدود منافسة الولايات المتحدة في البحار أو المشاعات الأربعة المذكورة، بل يتجاوزه إلى إعادة الاعتبار لطرق التجارة وحركة التبادل البري التي تحيط بها ظروف سياسية وجيوسياسيّة معقدة، ويصعب انتزاع الهيمنة عليها من دون صراعات كبرى. وإلى جانب ذلك، فإنّ مدّ شبكات الطرق والسكك الحديد إلى مناطق جديدة يساعد دول الشرق على اختيار الممرات البحريّة الملائمة لها ولا سيما تلك التي يمكن التحكّم بها من البر (كمضيق هرمز وباب المندب)، وهذا يمكّن من سلوك ممرات ومسارات بحريّة تقع خارج متناول النفوذ الغربي.
وتُعدّ مبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها الصين عام 2013 مثالاً بارزاً على دور الاستثمار في قطاع النقل البري والبحري في تغيير الأسس الجيو ــــ اقتصادية التي تقوم عليها التجارة الدولية، والتي باتت تعتمد أكثر فأكثر على الاستثمار في البنى الأساسيّة، وهذه الاستثمارات تساعد من ناحية في اختراق مناطق الهيمنة الأميركية أو الالتفاف عليها، وتحقّق من ناحية ثانية مكاسب اقتصادية للعالم كله من خلال خفض أكلاف التجارة. فعلى سبيل المثال، «يتوقع أن تنخفض مدّة الشحن بين البلدان الواقعة على طول الممر الاقتصادي الذي يصل بين الصين وآسيا الوسطى وآسيا الغربية بنسبة 12% بفضل تحسين البنى الأساسيّة للنقل في إطار مبادرة الحزام الطريق، أمّا إذا نُفّذت كل مشاريع النقل في المبادرة فستنخفض الأكلاف بنسبة تتراوح بين 1.1% و2.2% عالمياً، وما بين 5.1% و8.2% في البلدان المنضمّة إليها، وستستفيد البلدان العربية من خلال التراجع المتوقّع في الأكلاف التجارية التي تتكبدها بما يتراوح بين 1% و3% حسب درجة ارتباطها واستفادتها من تلك المبادرة».
وتؤمّن المبادرة فرصاً للبلدان العربية، وتفرض عليها في الوقت نفسه تحديات. ومع أن أيّاً من هذه البلدان لم ينضمّ بعد إليها بصفة رسميّة، فإن عدداً منها وقّع مع الصين اتفاقات للتعاون ذات صلة بها، ومنها: تونس، السودان، العراق، عمان، قطر، الكويت، مصر، المغرب والسعودية. ومن المرجح أن تؤثّر المبادرة على ديناميات القوى الإقليمية وتنعكس سلباً أو إيجاباً على الدول العربيّة. ويحتمل أن يؤدّي الممرّ الاقتصادي الذي يصل الصين بوسط آسيا وغربها إلى ترجيح كفّة إيران على دول مجلس التعاون الخليجي، كون إيران مؤهلة لأن تكون مركزاً للوجستيات والنقل، ويمكن الاستفادة من قدرتها على الإمداد بالطاقة. ولا يخلو الممرّ الاقتصادي الذي يربط بين الصين وباكستان من منافع على البلدان الخليجية، ولا سيما من خلال تسهيل تجارتها النفطيّة مع الصين لكنه يهدّد مكانتها أيضاً، فميناء غوادار في باكستان يمكن أن يغدو بديلاً لموانئ الخليج ويدفع إلى تحويل التجارة الدولية بعيداً من المنطقة.
الخيار الشرقي ينطوي في مجال النقل العالمي برّاً وبحراً على رفع نسب التجارة البرية وحماية خطوط النقل البحري وخفض كلفة النقل وأجور الشحن


وتضع الحكومة الصينية نصب عينيها دمج لبنان والعراق وسوريا في مبادرة خط الحرير من خلال شبكات طرق سريعة وخطوط سكك حديدية. ويمكن لبنان أن يشكّل منفذاً مهماً بالنسبة إلى الصين على الشاطئ الشرقي للمتوسط وفي إعادة إعمار سوريا، وتنافسه في ذلك موانئ فلسطين المحتلة، وميناءا طرطوس واللاذقيّة اللذان زاد الاهتمام بهما أخيراً من قبل الصين ودول أخرى، كالإمارات التي ترى نفسها معنيّة بالدفاع عن دورها الاقتصادي أمام تقدم المشاريع الإقليمية والدولية الأخرى. وفي العراق تتركز استثمارات بكين في قطاع الغاز والنفط كون هذا البلد ما زال مصدراً أساسيّاً لوارداتها البترولية. وتواجه الاستثمارات الآتية من الشرق عقبات عدّة، فالأمور معلّقة في سوريا على مستقبل عمليات إعادة الإعمار والظروف السياسية المحيطة بها ومستقبل العقوبات التي فرضتها واشنطن على هذا البلد بقصد جباية أثمان سياسية مقابل رفع الحصار عنه، وتؤثر العقوبات أيضاً على لبنان الذي يغرق في أزمة اقتصادية ونقديّة وماليّة حادّة، ومع ذلك يعارض فيه أنصار النموذج القديم أي محاولة لمراجعته، وأي مسعى لتوسيع الأسواق وتنويع مصادر الاستثمار والتمويل ومجالاتهما.
نخلص مما تقدّم إلى أنّ الخيار الشرقي ينطوي في مجال النقل العالمي برّاً وبحراً على ثلاث ركائز:
الأولى: رفع نسبة التجارة البريّة من مجموع التجارة الدوليّة باستحداث شبكات هائلة من الطرقات والسكك الحديد بين الدول.
الثانية: حماية خطوط النقل البحري من خلال تخفيف قدرة الولايات المتحدة الأميركية على التحكم بها، وزيادة القدرة على حمايتها من البر، والاستثمار في المنافذ البحريّة التي تقع خارج نطاق الهيمنة التاريخيّة الراسخة للغرب.
ثالثاً: خفض كلفة النقل وأجور الشحن على المستوى العالمي، بمعدلات ملحوظة.