خلال أقلّ من سنتين، خصّصت المصارف العاملة في لبنان نحو 28 ألف مليار ليرة لتغطية خسائرها المتوقعة في سندات اليوروبوندز. مصرف لبنان حدّد احتساب هذه الخسائر في التعميم 542 الصادر في 3 شباط 2020 بنسبة 45% على سندات الخزينة بالعملة الأجنبية. كان ذلك قبل أن تعلن الحكومة، التوقف عن الدفع بنحو شهر، إذ كان الحاكم يحاول الترويج بأنه هو من يقود عملية احتساب الخسائر وتوزيعها للالتفاف على أي خطّة تفرض عليه الإقرار بخسائر أكبر. وعلى هذا الأساس بدأت المصارف، تعمل على جبهة إطفاء الخسائر.وبحسب إحصاءات مصرف لبنان، فإنه في نهاية شباط 2020 كانت المصارف العاملة في لبنان تحمل سندات يوروبوندز بقيمة 11.6 مليار دولار، بينما تسجّل في ميزانياتها لغاية نهاية 2021 نحو 4.78 مليار دولار من هذه السندات. وفيما كان يعتبر الفرق بين الرقمين، هي سندات تخلّصت منها المصارف عبر بيعها لمستثمرين أجانب، تشير المعطيات إلى أن الفرق ناتج من شطب مطلوبات المصارف من هذه السندات. باختصار، المصارف جمعت مبلغ يوازي 5.2 مليار دولار لتغطية خسائرها المتوقعة ائتمانياً (Expected credit losses) في الفترة الممتدة بين مطلع آذار 2020 ونهاية كانون الأول 2021، وزادت فوقه مبلغاً لتغطية خسائر سعر الصرف المتصلة بهذه الخسارة، أي إن معدّل سعر الصرف لهذه السندات يبلغ 5380 ليرة.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

يثير هذا الأمر سؤالاً أساسياً: من أين حصلت المصارف على كل هذه الأموال بينما هي تزعم أنها ليست قادرة على تسديد الودائع بقيمها الفعلية وبعملتها المودعة فيها؟
في الواقع، الأمر مثير للاهتمام. ففي هذه الفترة كانت المصارف دخلت في حالة التوقف الكامل عن الدفع بالعملة الأجنبية بعد توقّف جزئي عن تسديد ودائع الزبائن ومربوط بسقوف شهرية متدنية. إنما حصل أمر آخر في هذه الفترة، إذ إنه في 13 شباط 2020، أصدر مصرف لبنان التعميم 544 الذي خفض بموجبه الفوائد على ودائع الزبائن ضمن سقوف متدنية جداً، وأبقى الفوائد على ودائع المصارف لدى مصرف لبنان على حالها، ما أتاح للمصارف الاستفادة من هوامش أرباح هائلة مصدرها الفائدة. فالمعروف أن القسم الكبير من ودائع الزبائن كان مودعاً على فترات قصيرة لا تتجاوز في المتوسط ثلاثة أشهر، بينما توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان تتجاوز خمس سنوات بمجملها. وأتى التعميم المذكورة ليخفض الفوائد على الشكل الآتي: بالنسبة لودائع الدولار فإن الحدّ الأقصى للفائدة على الأموال المودعة حدّدت بـ 2% والمودعة لستة أشهر 3%، والمودعة لسنة وما فوق 4%. أما بالنسبة لودائع الليرة فإن حدّها الأقصى لشهر هو 5.5% ولستة أشهر 6.5% ولسنة وما فوق 7.5%. هكذا ارتفعت هوامش الربحية من الفائدة من 1.11% على ودائع الليرة في نهاية 2019، إلى 4.27% في نهاية 2021. وبالنسبة للفائدة على ودائع الدولار، ارتفعت من 1% إلى 3.62%.
والمصارف توظّف لدى مصرف لبنان ودائع وشهادات إيداع بقيمة 164,277 مليار ليرة من بينها نحو 123 ألف مليار ليرة بالعملة الأجنبية، والباقي بالليرة اللبنانية. والفوائد على هذه التوظيفات ظلّت سارية وأدّى سريانها إلى رفع هوامش الربحية من الفائدة. لكن لم يكن ذلك كل ما جنته المصارف من عوائد في الفترة المذكورة. فالمصارف قرّرت خلال هذه الفترة الاستفادة من توسيع حصّة العمولات من مصادر أرباحها، ولا سيما أن هذه العمولات تفرض على حسابات «الفريش».
في عام 2018، أي العام الذي سبق الانهيار، جمعت المصارف من هوامش الفائدة والعمولات وسائر الإيرادات التشغيلية نحو 24479 مليار ليرة، أما اليوم فإن الخسائر المشطوبة مقابل سندات اليوروبوندز وحدها، وخلال فترة تقلّ عن سنتين، تبلغ 28 ألف ليرة، علماً بأن اكلاف المصارف لم تزد أو تقلصت لجهة الرواتب والأجور والأعلاف التشغيلية الأخرى. هذه نتائج مذهلة لمصارف مفلسة. وكل ذلك تم بقيادة وإشراف مصرف لبنان، على حساب المجتمع والاقتصاد.