بتاريخ 16 آذار 2022، عُقد مؤتمرٌ صحفيٌّ في مقر إدارة الإحصاء المركزي، لإعلان قيام الإدارة بتصميم دليل متعدّد الأبعاد لقياس الفقر باتّباع منهجية أوكسفورد – برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. قامت الإدارة باحتساب نسب الفقر (الحرمان) حسب هذا الدليل انطلاقاً من بيانات مسح القوى العاملة والأحوال المعيشية للأسر 2018 – 2019 على المستوى الوطني والمحافظات والأقضية. وبناءً على هذه الحسابات، أتت نسبة الفقر (الحرمان) 53% من السكان (المقيمين)، ومن أصلهم 16% يعتبرون فقراء/ محرومين جداً. وعلى صعيد المحافظات، فإن أعلى نسبة حرمان سُجّلت في عكار (70%)، وأدناها في جبل لبنان (43%). وعلى مستوى الأقضية، فإنّ أعلى نسبة سُجّلت في قضاء المنية – الضنية (77%)، وأدناها في كسروان (25%). وهذه النسب تصف الوضع حتى الفصل الأول من عام 2019، أي أنها سابقة على الانهيار الكبير الذي حصل نهاية صيف – بداية خريف 2019.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

والمسح الذي استند إليه القياس، هو الأحدث والأكثر تمثيلاً مقارنة بكلّ ما نُشر خلال السنتين السابقتين من تقديرات وأرقام، ليكون بذلك نقطة انطلاق لمن يرغب في التعمّق في دراسة ظاهرة الفقر وغيرها من الانعكاسات الاجتماعية للأزمة التي يمر فيها لبنان.
وهذا المقال يتوجّه إلى جمهور مثلّث المكوّنات: أولاً عموم المواطنين والمقيمين؛ ثانياً المهتمون بدراسات الفقر والناشطون في هذا المجال؛ وثالثاً من يرغب ممن هم في موقع مسؤول معني بالموضوع. ويتراوح مضمون المقال بين ما هو موجّه للجميع، وبين ما قد يكون أكثر تخصّصاً مع السعي لجعل الأمور أقرب ما يمكن إلى الوضوح والبساطة.
وقبل الولوج في تحليل المقياس والنتائج، أعبّر أولاً عن تقديري لهذا الجهد وتقييمي الإيجابي الإجمالي لما قامت به إدارة الإحصاء، إذ إنّ تصميم الدليل والقياس قد أُنجز بالدرجة الأولى من قبل فريق من الأخصائيين اللبنانيين مع دعم تقني من البنك الدولي. وتجدر الإشارة إلى أنّ الفريق الوطني قد اعتمد في هذا الدليل عتبات مرتفعة للفقر متناسبة مع الوضع في لبنان – لا بل ربما كانت مرتفعة أكثر مما هو لازم على ما سوف أتطرّق إليه لاحقاً – ولم تلتزم بالعتبات المنخفضة للقياسات الدولية سواء تلك التي يقترحها البنك الدولي أو برنامج الأمم المتحدة الإنمائي على الصعيد العالمي، وهو ما يفسّر نسب الفقر المرتفعة التي توصّل إليها القياس، بدلاً من النسب المنخفضة غير الواقعية التي غالباً ما تؤدي إلى حجب المشكلة بدلاً من الاعتراف بها. وهذه إيجابية هامة تسجّل لإدارة الإحصاء وفريقها. وما سوف يرد من أفكار نقدية ومقترحات للتحسين والتطوير لا تلغي هذه التقييم الإجمالي، لا بل هي تنطلق منه من أجل التشجيع على خطوات بحثية لاحقة أكثر تقدّماً.

توضيحات أولى
من الضروري أن نوضح أولاً بعض النقاط.
أ- في الترجمة العربية استخدم تقرير إدارة الإحصاء المركزي، مصطلح مؤشّر الفقر متعدّد الأبعاد لعام 2019، وفي رأيي أنه كان من الأفضل استخدام مصطلح دليل بدلاً من مؤشّر كتعريب لمصطلح Index، وهذا أكثر اتّساقاً من الاستخدامات الشائعة لأنّ مصطلح مؤشّر يكون تعريباً لـIndicator. لكن النقطة الأكثر أهمية تتعلق بمصطلح MPI – Multidimensional Poverty Index، والذي يُعرَّب بـ«دليل الفقر متعدّد الأبعاد»، وهي ترجمة دقيقة شرط أن يتم نسبة «متعدّد الأبعاد» إلى الدليل لا إلى الفقر. فالمعنى الفعلي هو أنه دليل متعدّد الأبعاد لقياس الفقر، وليس فقراً متعدّد الأبعاد، بما يوحي كأنه تم اكتشاف نوع جديد من الفقر. ففي واقع الأمر ظاهرة الفقر كانت دائماً متعدّدة الأبعاد بحكم طبيعتها، لكن كان لها قياس نقدي (يسمى عادة فقر الدخل وهو قياس الفقر من خلال خطّ الفقر المعبّر عن الدخل، والذي يُقاس عادة من خلال الاستهلاك). أما الجديد فهو استبدال القياس النقدي (الأحادي البعد بمعنى ما) بقياس متعدّد المكوّنات من مؤشّرات اقتصادية واجتماعية تقيس الفقر بشكل مباشر. والمؤسف أنه يتم استخدام هذا المصطلح من قبل منظّمات وباحثين من دون الانتباه إلى ذلك، بما يوحي أن هناك نوعين من الفقر، ونوعين من الفقراء. ويتم استخدام هذا الالتباس لتبرير التباين الكبير الذي يبرز أحياناً من نسب الفقر حسب «خط الفقر النقدي»، وبين نسب الفقر حسب «الدليل متعدّد الأبعاد»، بذريعة أنهما يحدّدان فئات سكانية متباينة وفئات مختلفة من الفقراء، بدلاً البحث في سبب التفاوت الذي غالباً ما يكون ناجماً عن أخطاء في تصميم الأدلة القياسية؛ فاختلاف أدوات القياس يجب أن لا يعني أنّ نسب الفقر يجب أن تكون متباينة بشكل كبير لأن الفقراء هم أنفسهم أياً كانت أداة القياس. وصحيح أنه لا يوجد تطابق كامل في النتائج عندما نبدل أداة القياس، ولكن لا تناقض أيضاً.

بالأرقام

16.2%
هي نسبة المقيمين الفقراء فقراً مدقعاً متعدّد الأبعاد لأنهم محرومون في أكثر من 50% من المؤشّرات
66.8%
هي نسبة انتشار الفقر المتعدّد الأبعاد عند الأطفال الذين تقلّ أعمارهم عن أربع سنوات
53.1%
هي نسبة المقيمين الفقراء فقراً متعدد الأبعاد لأنهم محرومون في أكثر من 25% من المؤشّرات


ب – من المحتمل أن نسمع بعض ملاحظات التشكيك بهذه النتائج وبعمل إدارة الإحصاء. أسارع إلى القول إن الإحصاء علم احتمالي، وما من شك بأنه ثمة ثغرات في هذا العمل – سوف أتحدّث عن بعضها لاحقاً – إلا أنّ منطق التشكيك في غير محلّه لأننا أمام عمل نُفّذ بمنهجية واضحة مكتوبة ومعلنة، ومطبقة على بيانات مسح اعتمد معايير علمية عالية، وهو صادر عن جهة إحصائية رسمية. وبالتالي فإن المقارنة بين هذا العمل وغيره من الأعمال والنتائج التي صدرت عن مراكز أبحاث خاصة، أو عن مراكز استطلاع رأي، أو عن جهات دولية عامة أو متخصّصة انطلاقاً من منهجيات متنوعة وعينات أقل تمثيلية للمقيمين في لبنان، هي حتماً في صالح إدارة الإحصاء. وبالتالي فإن أي ملاحظات نقدية لا بد أن تنطلق من أساس علمي لا من منطلق تشكيكي.
ج – لم يكن هذا الدليل المتعدّد الأبعاد هو الأول المنتج رسمياً في لبنان. فقد سبق أن صدر عن وزارة الشؤون الاجتماعية في لبنان ثلاث تقارير وطنية ورابع مختصّ بمدينة طرابلس، اعتمدت كلها دليلاً متعدّد الأبعاد لقياس الفقر والحرمان.
الأول صدر عن وزارة الشؤون الاجتماعية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، واستند إلى مسح المعطيات الإحصائية للسكان والمساكن (1994-1995) وهو خارطة أحوال المعيشة في لبنان.
الثاني والثالث صدرا عن الأطراف نفسها استناداً إلى المسح متعدّد الاستخدامات الذي نفّذته إدارة الإحصاء المركزي عامَي 2004-2005 ضمن سلسلة أحوال المعيشة نفسها.
الرابع، هو دراسة عن الفقر الحضري في طرابلس صدرت عن وزارة الشؤون الاجتماعية والإسكوا استناداً إلى مسح محلّي نُفّذ عامَي 2011-2012.
كل هذه الدراسات والتقارير استخدمت منهجية مصمّمة محلياً لقياس متعدّد الأبعاد للفقر (التسمية كانت دليل أحوال المعيشة)، وإليها يعود الفضل لأول مرّة في تحديد نسبة الفقر في لبنان عام 1995 بـ35%، وهي النسبة التي رافقتنا حتى ما قبل الأزمة – الانهيار الأخير. ونلفت النظر أيضاً، إلى أنّ أول دليل من هذا النوع صدر ونُشر عام 1998 أي قبل 12 سنة من تصميم ونشر دليل الفقر المتعدّد الأبعاد الصادر عن أوكسفورد وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي عام 2010. ونضيف هنا ملاحظة نقدية أولى، هي أنّ النتائج الجديدة التي أعلنتها إدارة الإحصاء المركزي، غير قابلة للمقارنة المباشرة مع نتائج الدراسات السابقة، لأن تصميم الدليل ومؤشّراته مختلفة عن الأدلة السابقة. وهذه نقطة ضعف في رأيي، إذ كان في الإمكان، من خلال جهد إضافي بسيط، أن يتم قياس نسب الحرمان باستخدام أدلة إضافية مشابهة للأدلة السابقة، بما يسمح بالمقارنة الزمنية، وبما يسمح أيضاً بالمقارنة بينها وبين الدليل الجديد. وعلى كل حال، هذه مسألة قابلة للتنفيذ في الأسابيع والأشهر القادمة إن رغب المعنيون بذلك، ومن دون كلفة فعلية.

تعليق على بعض النتائج
بدت النتائج المعلنة (53%) صادمة بعض الشيء. فقد كانت النسب المحتسبة خلال العقد أو العقد ونصف السابق تُراوح بين 25% و30% (آخر القياسات بما في ذلك خطّ فقر الدخل نفذت عام 2012، وبعد ذلك حصل تداول أرقام كثيرة أثناء الأزمة الأخيرة مستندة غالباً إلى إسقاطات حسابية، أو إلى استطلاعات ميدانية متخصّصة ومحدودة). فهل تعدّ نسبة 53% منطقية وموضوعية أم فيها مبالغة؟
هذه النتائج هي أعلى ممّا هو متوقّع لو أنّ إدارة الإحصاء المركزي استخدمت مؤشّرات وعتبات مشابهة لتلك المستخدمة في دليل أحوال المعيشة. إلا أن ذلك لا يعني أن النتائج هذه غير واقعية أو غير منطقية، بل هي أعلى مقارنة مع القياسات السابقة. ويمكن إرجاع ذلك إلى ثلاثة عوامل هي التالية:
- أولاً، هذا القياس ينطبق على المقيمين، وكذلك دراسة 2008 عن بيانات 2005. إلا أنّ الاختلاف هو أن غير اللبنانيين في حينه كانوا يمثّلون نحو 5% من العيّنة الإجمالية، في حين أنهم يمثلون في عام 2019 نحو 20% غالبيتهم من اللاجئين السوريين. ومثل هذا التغيير الكبير كفيل برفع نسبة الفقر والحرمان نسبة إلى إجمالي المقيمين بشكل محسوس مقارنة بالدراسات السابقة.

يتم قياس نسب الحرمان باستخدام أدلة إضافية مشابهة للأدلة السابقة بما يسمح بالمقارنة الزمنية وأيضاً بالمقارنة بينها وبين الدليل الجديد


- ثانياً، بين 2005 و2019 حصل تراجع في أوضاع البنى التحتية والمرافق العامة وخدماتها، وهي تشكل أحد مكوّنات الدليل المتعدّد الأبعاد لقياس الفقر. لذا، يتوقع أن تكون نسبة الحرمان في ما يتعلق بتوفر الخدمات أعلى مما كانت عليه عام 2005 (عند المقارنة بين دليل 1995 ودليل 2005 كان الأمر عكس ذلك وظهر تحسن في هذه المؤشرات). من جهة ثانية، كان هناك مؤشّرات متعارضة لجهة كل ما يتعلق بالعمل والدخل. فسلسلة الرتب والرواتب عام 2017، حسّنت أوضاع بعض الفئات (دليل أحوال المعيشة لعام 2005 تضمن مؤشراً عن مستوى الدخل من ضمن المؤشرات الـ 24 التي يتشكل منها)، وفي المقابل لم يسجّل تحسّن في مؤشّرات التشغيل والبطالة والإعالة الاقتصادية، كما أن مفعول سلسلة الرتب والرواتب استنزف مفعوله عام 2019. لذا، يتوقّع أن يسجّل ارتفاع في نسب الحرمان في هذين البعدين، في حين أن مؤشّرات التعليم أقل تأثّراً وميلها إلى تحسّن عموماً (على الأقل المؤشرات الكمية)، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الصحة (التأمين الصحي مستقرّ في حين كلفة الرعاية إلى ازدياد مستمر).
- ثالثاً، الدليل الجديد لعام 2019 اعتمد عتبات مرتفعة مقارنة بدليل أحوال المعيشة السابق. فعلى سبيل المثال دليل أحوال المعيشة لعام 2005 اعتمد التعليم الأساسي عتبة للحرمان في التعليم (16 سنة)، في حين أنّ دليل 2019 اعتمد إنجاز المرحلة الثانوية (18 سنة). وفي الطرف الآخر دليل 2019 يعتمد الالتحاق في مرحلة الروضة اعتباراً من عمر 3 سنوات، في حين أنّ العمر الأدنى في دليل 2005 العمر هو 4 سنوات. مثل هذه الاختلافات - في هذه الحالة - تعني أنّ نسب الحرمان في التعليم حسب دليل 2019 سوف تكون أعلى، حتى لو لم يتراجع مستوى الالتحاق والإنجاز التعليمي بين التاريخين، وذلك سبب العتبات الأكثر ارتفاعاً. والأمر نفسه ينطبق على الأبعاد الأخرى في حال كانت العتبات مرتفعة.

النسب التي توصّل إليها دليل إدارة الإحصاء المركزي منطقية، وهي يمكن أن تكون أعلى مما هي عليه لو اعتمدت مقاييس متناسبة مع الأدلة السابقة


- رابعاً، ثمة نقطة أخرى في هذه المقارنة يجدر الإشارة إليها، وهي تتعلّق بالاختلاف بين أدلة أحوال المعيشة الوطنية السابقة ودليل 2019، والذي يتمثّل في اعتماد تقييم ثنائي (حرمان/ لا حرمان) بالنسبة لكل مؤشّر (علامة أو قيمة 1 أو صفر)، وهذه الطريقة لا تلحظ شدّة الحرمان بالنسبة إلى كل مؤشّر؛ في حين أنّ نظام العلامات في دليل أحوال المعيشة بين صفر واثنين يسمح بقياس تدرّج شدّة الحرمان في كل مؤشّر. هذه الطريقة أكثر تعقيداً لكنها تسمح بقياس مجمل أحوال المعيشة من الأكثر حرماناً إلى الأكثر رفاهاً، في حين أن الأسلوب الثاني يقيس فقط وجود الحرمان أو غيابه. وهذا مشابه لدليل الحرمان الحضري المعتمد في دراسة طرابلس 2012. ولا تفضيل هنا لهذا على ذاك، فالأمر عائد إلى خيار فريق العمل وعلى أهداف واستخدامات الدليل.

نحو دليل أكثر استقراراً
بناءً على ما سبق، فإنه من المنطقي اعتبار أنّ النسب التي توصّل إليها دليل إدارة الإحصاء المركزي منطقية بشكل عام، وهي يمكن أن تكون أعلى مما هي عليه لو اعتمدت مقاييس متناسبة مع الأدلة السابقة، ذلك أنّ الارتفاع في النسبة بعضه موضوعي (نسبة اللاجئين التي تضاعفت أربعة مرات مثلاً)، لكن بعضها الآخر يعود إلى المؤشّرات المعتمدة والعتبات المرتفعة، وهو أمر كان بالإمكان تلافيه لو تمت الاستعانة بالخبرات الوطنية وتشكيل فريق مشترك من هؤلاء الخبراء وفريق الإحصائيين في إدارة الإحصاء المركزي، وكان من شأنه أن يؤدي إلى اعتماد دليل لقياس الفقر أكثر استقراراً مع إمكانية المقارنة مع الأوضاع السابقة، وإعادة استخدامه في المستقبل. وفي كل حال هذه مهمّة قابلة للتحقيق في المستقبل القريب فيما لو توافرت الإرادة لذلك.

*مستشار في التنمية ومكافحة الفقر