في 19 نيسان 2022 صدر المرسوم 9129 القاضي بتعيين غلاء معيشة بقيمة مليون و325 ألف ليرة لكلّ أجر شهري ضمن شطر الـ4 ملايين ليرة. وقبلها، أي في 10 شباط 2022، أقرّ مجلس الوزراء، ثم صدر القرار بمرسوم، منح العاملين في القطاع العام مساعدة اجتماعية مؤقتة، هي بمثابة تصحيح احتيالي للأجور. أوحى صدور هذه المراسيم بأن الأجراء في لبنان حصلوا على تعويض عن تدهور قدراتهم الشرائية بفعل الأزمة ومفاعيلها الممتدة على نحو ثلاث سنوات. وهذا التعويض يُضاف إليه تعويضاً آخر من خلال قيام مصرف لبنان بإجبار المصارف على استيفاء قروض التجزئة (سكن، تعليم، سيارات...) على سعر صرف 1507.5 ليرات وسطياً. هذا المشهد مضلّل للغاية. فالمستفيدين من هذه الآليات لانتقال الثروة هم استثناء، وليسوا القاعدة، أما المصارف نفسها ومصرف لبنان فهم الذين استفادوا على ظهر ديون الأفراد والمؤسّسات.في الواقع، إن الأجور أصيبت بأضرار فادحة لا تعوّضها مراسيم كهذه، ولا يمكن مقاربتها من خلال قنوات إعادة التوزيع التي خلقتها الأزمة وبموجبها انتقلت الثروة من يد إلى أخرى.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

لنأخذ بضعة أمثلة؛ في أحد أسلاك الدولة العسكرية، ثمة أجير يتقاضى راتباً بقيمة 1.5 مليون ليرة بعد كل الحسومات المرتبطة به. وهو بالفعل كان قد استحصل على قرض سكاني مدعوم من أجل تمويل شراء مسكن له ولعائلته. والمسكن، كما راتبه، مرهونين للمصرف، أي أن المصرف يقتطع من راتبه قيمة السند الشهري فور تحويل راتبه من وزارة المال، ولا يبقى له من راتبه سوى النصف. نصف هذا المبلغ لا يكفي لتنقّلات الأجير إلى مكان عمله، وهو لا يكفي قطعاً لتسديد قيمة فواتير مولّد الكهرباء ولا حليب الأطفال لأولاده ولا أقساط التعليم... التضخّم فعل فعله بأجر هذا الشخص ليصبح مالكاً لمسكن (على افتراض أنه تمكن من تسديد كامل قيمة الأقساط) بقيمة سوقية أقلّ ممّا كان عليه بأكثر من 50%، لا بل إن قيمته قابلة للانخفاض أكثر.
في مثال ثانٍ: هناك موظف يعمل في مؤسسة خاصة وكان راتبه يعادل 3 ملايين ليرة في أيام العزّ حين كانت تساوي 2000 دولار. اليوم قرّرت هذه المؤسسة أن تمنحه زيادة غلاء المعيشة بقيمة مليون و325 ألف ليرة، وصاحب العمل كان قد منحه زيادة من خارج السجّلات الرسمية بقيمة مليونَي ليرة شهرياً. صار لديه راتب بقيمة 6 ملايين و325 ألف ليرة. كان لديه أقساط مصرفية للسيارة والمنزل وباتت تساوي اليوم نحو ثلثَي راتبه. وفيما كان لديه راتب يتيح له العيش ضمن الطبقة الوسطى ويوفّر لأولاده مزايا تعليم في مدارس مكلفة وطبابة مغطاة بالضمان الاجتماعي والتأمين الخاص، صار يملك أصولاً متهالكة القيمة وراتبه لا يكفيه لتغطية أعباء التعليم.
لا حاجة لتعداد الأمثلة، فالمسألة واضحة: الأجراء خسروا أكثر بكثير ممّا ربحوا (مع وجود استثناءات لبعض فئات العاملين والمقترضين). لكن من الذي حقق الربح الفعلي على هذه الجبهة: مصرف لبنان والمصارف التجارية. فلو أنّ النسبة الأكبر من ديون الأفراد والمؤسسات التي كانت في فترة ما قبل الأزمة توازي 108% من الناتج المحلي الإجمالي، تعثّرت وتوقف أصحابها عن السداد، لواجهت المصارف مشكلة إضافية في تكوين المؤونات، وخصوصاً أن 68% من القروض كانت بالدولار، وبالتالي كانت المؤونات التي يفترض على المصارف احتسابها في الميزانيات تحسباً لتعثّر الديون، يفترض أن تكون بالدولار. لكن رغم أن هذه الديون باتت نسبتها 11% من الناتج المحلي الإجمالي، أي أن عبئها على الاقتصاد تدنّى جداً، إلا أنه في المقابل أصبحت الأعباء على أجور العاملين هائلة، إذ تآكلت قيمتها بفعل تضخّم متراكم بنسبة 825% لغاية نيسان 2022. وهو تآكل متواصل بسبب التضخّم المرتقب من ارتفاع أقساط التعليم الذي بدأ يظهر بشكل باهظ، وسينعكس في مؤشّر الأسعار اعتباراً من أيلول المقبل لغاية آخر السنة المقبلة، وارتفاع كلفة الاتصالات، ومن تداعيات ارتفاع أسعار المحروقات سواء بسبب ارتفاع سعر الصرف أو بسبب ارتفاع الأسعار العالمية، على أسعار السلع والخدمات.
المصارف استفادت لأنها وافقت على تسديد الأقساط بسعر للصرف يخفّف من الأعباء المترتبة عليها، وتفاوضت مع الزبائن لتسديد الديون بأسعار صرف مختلفة، وحصلت على شيكات باعتها في السوق وحققت منها أرباحاً طائلة. فقد تقلّصت محفظة التسليفات بالدولار بقيمة 38500 مليار ليرة بين آذار 2018 وآذار 2022، أو ما نسبته 68%. أما محفظة القروض الإجمالية فقد تقلّصت من 88138 مليار ليرة إلى 38884 مليار ليرة. كانت قروض الدولار تمثّل 68% وباتت تمثّل 55%.
في المحصّلة، ما زالت المصارف قائمة وتمكّنت من تكوين مؤونات بالدولار في مواجهة الخسائر المتوقّعة من سندات اليوروبوندز، وفقاً للنسب التي فرضها مصرف لبنان، بينما خسارة الأجور مستمرّة ومتواصلة بفعل آليات التضخّم المعتمدة في خطّة رياض سلامة لتذويب الخسائر. المصارف لديها فرصة للبقاء وتحقيق الثروة، بينما العاملين بأجر لم يعد لديهم أمل في استعادة مكاسب دخلهم السابق قبل العديد من السنوات ولا سيما أن تصحيح الأجور الهزيل هذا هو الثاني منذ 1996 ولغاية اليوم. الخسارة اللاحقة بالأجور ستزداد بمرور الزمن ومفاعيل التضخّم، وفي المقابل ستزداد مكاسب المصارف وصولاً إلى الاستيلاء على مقدرات لبنان من ذهب وثروة نفطية في باطن البحر. ميزان القوة لم يتغيّر بعد.