كما تسير الأمور في الأسواق اليوم، ليس هناك من لا يتوقّع أن يشهد سعر صرف الدولار قفزة كبيرة قد ترفعه إلى أعلى مستوياته. وفيما يبدو أن السوق يشهد سعر صرف للدولار مستقراً نسبياً، لأن مصرف لبنان يضخّ يومياً كتلة من الدولارات تطفئ حرارة حركته، فإنه في حال توقّف المصرف المركزي عن التدخّل، ستتحوّل توقعات تدهور سعر صرف الليرة، تلقائياً، إلى واقع. هذا بديهي، لأنه بمجرد توقف مصرف لبنان عن ضخّ العملة الخضراء، ستنكمش كتلة الدولار الموجودة في السوق، وبالتالي يصبح عرض الدولار أقل من الطلب عليه، ما يسهم في ارتفاع سعره. لكن القضيّة هنا لا تخضع فقط لقانون العرض والطلب. فمسار الأمور ليس طبيعياً، بل يتحكم فيه ما ينتج من المبالغة في ردّ فعل السوق على ما هو متوقع بأنّه آتٍ. بمعنى أوضح، وعلى سبيل المثال، إذا كان سعر الصرف من المفترض أن يرتفع 20% بسبب توقف مصرف لبنان عن ضخّ الدولار، فإن مفاعيل التوقعات التي لا تستند إلى واقع مدروس، تؤدّي إلى رد فعل مبالغ فيه يرفع سعر الصرف بنسبة 30% وربما أكثر. (هذه الأرقام هي مجرد أمثلة لتوضيح الصورة وهي ليست أرقاماً قائمة على أي حسابات).
لاعقلانية السوق
السوق بطبيعتها غير عقلانية. الفاعلون فيها هم أشخاص غير عقلانيين، وهذا لا يقتصر على لبنان فقط، بل إن أي سوق مالية في العالم يتّسم فيها الفاعلون باللاعقلانية. علم الاقتصاد السلوكي يفسّر هذا الأمر بوضوح. صحيح أن الاقتصادي جون ماينارد كينز يشتهر بمساهماته في علم الاقتصاد الكلّي، إلا أن الأسس الاقتصاديّة التي بنى عليها نظرياته ونماذجه قامت على نظرته للاقتصاد السلوكي. يشرح كينز المقصود بـ«لاعقلانيّة» السوق، من خلال تشبيه الاستثمار في الأسواق الماليّة بمسابقات ملكات الجمال التي كانت تنشر في الجرائد.

(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

فالمسابقة هي عبارة عن صور لـ 100 فتاة، والمتسابقون هم قرّاء الجريدة. على كل متسابق أن يختار ستاً من الفتيات اللواتي يَراهنّ الأجمل، والفائز هو من كانت خياراته الأقرب إلى معدّل خيارات جميع المتسابقين. بهذه الطريقة، تصبح المسابقة عبارة عن اختيار الصور التي يعتقد الأشخاص أن معظم المتسابقين سيختارونها، بدلاً من أن يكون المعيار هو اعتقاده الشخصي بجمال الصورة. وإذا طبقنا هذا الأمر على جميع المتسابقين، لا تعود المسابقة معبّرة عما يعتقده المتسابق، بل ستكون تعبيراً عن الرأي الوسطي لجميع المتسابقين، لا بل هو توقّع لما سيتوقّعه المتسابقون الآخرون. وبالتالي ستكون النتيجة هي حاصل المعدّل الوسطي للآراء. وبالطريقة نفسها يتعامل الفاعلون في الأسواق الماليّة مع خيارات الشراء أو البيع.
يستخدم كينز هذا المثال للإشارة إلى أن «المستثمرين المحترفين» مثل مديري صناديق الاستثمار والتحوّط، يفكّرون بهذه الطريقة أيضاً، وهم غير عقلانيين، مثلهم مثل باقي الفاعلين في السوق. هم لا يشترون السهم لأنهم يعتقدون أن قيمته الفعليّة اليوم هي أعلى من قيمته السوقيّة فقط، بل يحاول هؤلاء أن يحدّدوا الأسهم التي سيعتبر السوق، في المستقبل، أن قيمتها الحقيقيّة أعلى من قيمتها السوقية، وبالتالي ستتجه السوق إلى شرائها على هذا الأساس، وهذا ما يرفع سعرها.
في الواقع، إن المتعاملين الفاعلين في سوق الصرف اللبنانية ليسوا مديري صناديق استثمار ولا صناديق تحوّط، بل إن معظمهم مضاربون على العملة أو مستوردون يحتاجون إلى الدولار لاستمرار أعمالهم. والمضاربون هم عدّة أنواع؛ هناك المضاربون الصغار، أي الأفراد الذين يحاولون أن يحفظوا قيمة ثرواتهم بالليرة، أو يحاولون تحقيق أرباح ضئيلة من خلال تقلّبات سعر الصرف. وهناك المضاربون الكبار الذين يؤثّرون على سعر الصرف من خلال تدخّلاتهم في السوق، وهؤلاء لا يدخلون في النقاش المطروح لأنهم يستغلّون لحظات معينة ليتلاعبوا في السوق بغية تحقيق أرباح هائلة (في أغلب الأحيان يكون لديهم نفوذ يمنحهم وصولاً إلى معلومات لا يصل إليها الآخرون)، ولا يمكن تقدير تأثيرهم في السوق بشكل واضح ودقيق. عموماً، الفاعلون الذين يدخلون في النقاش هم غير عقلانيين، بحسب تفسير كينز، فتحرّكهم في السوق يعتمد على التوقعات والإشارات القادمة من السوق. فالتاجر، على سبيل المثال، لا يشتري الدولار اليوم لأنه يعتقد أن سعره يمثّل القيمة الحقيقية للدولار مقابل الليرة، بل لأنه يعتقد أن جميع الفاعلين في السوق يعتبرون أن قيمة الدولار مقابل الليرة سترتفع مستقبلاً وهو لا يريد أن يفوته القطار، أو بمعنى آخر يريد أن يحمي نفسه من ارتفاع سعر الصرف. والعكس صحيح.

ردّ فعل مبالغ
مع لاعقلانية السوق، كما شرح كينز، يمكن الاستنتاج أن السيطرة هي للتوقعات، لا للتحليل الحقيقي للقيمة. هذا الأمر يفتح الباب أمام مبالغة السوق في ردّ الفعل على الأخبار الآتية. فمثلاً، يتوقع الجميع اليوم أن مصرف لبنان سيتوقّف عن العمل بالتعميم رقم 161 عاجلاً أو آجلاً. لكن ما هو غير معروف هو متى سيحدث هذا الأمر. لذا، أي مؤشّر على احتمال التوقف سيجعل السوق يتعامل مع الموضوع بشكل غير عقلاني. وأكبر مثال على ذلك هو ما حدث بين يوم الاثنين 23 أيار، ويوم الجمعة 27 أيار الماضي. في هذه الفترة، شهد سعر الصرف ارتفاعاً من 32 ألف ليرة إلى 37 ألف ليرة مقابل الدولار، أي ما يقدر بنسبة 16% في غضون أربعة أيام فقط. وقد ساد في ذلك الوقت الحديث عن أن مصرف لبنان توقّف عن العمل بالتعميم 161، ما يعني أن توقعات السوق بالتوقف عن العمل بالتعميم وارتفاع سعر الصرف بدأت تتحقق، وذلك أدّى إلى ردّ فعل مبالغ فيه من السوق وارتفاع مفرط بسعر الصرف.
يمكن الاستدلال على أن هذا الارتفاع كان عبارة عن رد فعل مفرط من خلال ما حصل في 27 أيّار، أي في اليوم الذي بلغ فيه سعر الصرف أعلى مستوياته تاريخياً (37500 ليرة للدولار الواحد). يومها أصدر مصرف لبنان عصراً (وكان يوم جمعة)، بياناً يشير فيه إلى أنه يعتزم الإكمال في العمل بالتعميم 161، مانحاً السوق إشارة قويّة من خلال قوله بأنه سيطلب من المصارف العمل حتى الساعة السادسة مساءً لتلبية طلبات الزبائن. ما حدث هو أنه في غضون ساعات قليلة، انخفض سعر الصرف من 37500 ليرة للدولار إلى 29 ألف ليرة، وأكمل انخفاضه في اليوم التالي ليبلغ 27500 ليرة، أي انخفض بنسبة 27% في غضون ساعات على بيان مصرف لبنان وضخّ إشارة قويّة في السوق بخصوص استمرار عمله بالتعميم بسقف مفتوح. كان هذا دليلاً على أن الحركة في سعر الصرف التي حدثت قبل إصدار البيان لا تعبّر عن حقيقة انخفاض عرض الدولار في السوق، بل على ازدياد الطلب عليه بسبب توقع الفاعلين، بأن توقعات الفاعلين الآخرين، تكمن في ارتفاع سعر الدولار وهو ما أدّى إلى ارتفاع سعر الصرف بشكل مبالغ فيه.

الصدمة الآتية
ما تقدم هو مجرّد نموذج عما قد يحدث عندما يقرر مصرف لبنان بالفعل التوقّف عن العمل بالتعميم 161. فكل الظروف مهيأة لتكرار النتائج مجدداً وربما بوتيرة أكثر حدّة. فالتوقعات بالتوقف عن العمل بالتعميم، وبالتالي ارتفاع سعر الصرف لا تزال موجودة. ما ينقص هو فقط إشارة جديدة للسوق بأن العمل بالتعميم سيتوقّف، لنعود وندخل في دوّامة جديدة من ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة. وقد تكون الصدمة القادمة أسوأ من الصدمة الوجيزة التي شهدها السوق منذ أسبوعين.
التوقّعات بوقف التعميم 161 وبالتالي ارتفاع سعر الصرف ما زالت موجودة، إنما ينقص إشارة جديدة من مصرف لبنان


وكما تأتي الصدمة وردّة الفعل المبالغة بسبب سلوك السوق اللاعقلاني، يمكن استخدام هذا الأمر نفسه لتفادي ردّة الفعل وإعادة سعر الصرف إلى مكانه الطبيعي كما كان من دون تدخّل مصرف لبنان. فإحدى النظريات الأساسية في الاقتصاد السلوكي والتي طوّرها دانيال كانيمان وعاموس تفيرسكي، هي «نظرية الاحتماليّة» التي تصف كيف يقيّم الأفراد احتمالات الربح والخسارة بشكل غير متماثل. تعتمد النظريّة على عدّة عناصر تؤثّر على عملية تقييم الفرد للنتائج التي توضع أمامه لتقدير الربح والخسارة منها. ومن بين هذه العناصر، «الاعتماد المرجعي» الذي يقول بأن الأفراد يقومون بتقييم خياراتهم على أساس نقطة مرجعية، سواء كانت في وقت سابق من الزمن أو في الوضع الراهن. وبما أن حركة الفاعلين في السوق تعتمد على تقييم خسائرهم أو أرباحهم، فإن تحديد نقطتهم المرجعية يعدّ أمراً مهماً بالاستناد إلى عامل الوقت. فمثلاً إذا توقف مصرف لبنان عن ضخّ الدولار بشكل مفاجئ، وأدّى إلى صدمة في سعر الصرف، فسيشعر هؤلاء بأن خساراتهم ستكون فادحة، ما يدفعهم إلى شراء الدولارات بشكل سريع (لأنهم يتوقعون ارتفاع سعر الصرف أصلاً) وهو ما يرفع سعر الصرف بوتيرة أكثر حدّة، وبالتالي يسبّب ردّة الفعل المبالغ فيها. أما إذا تجرّع هؤلاء الأشخاص خساراتهم بشكل تدريجي، بمعنى أن يتوقف مصرف لبنان عن العمل بالتعميم 161 تدريجياً، فسينخفض سعر الصرف بشكل تدريجيّ أيضاً، وبالتالي ستتغيّر نقاطهم المرجعيّة لتقييم خسائرهم بشكل تدريجي أيضاً، بشكل تبدو فيه هذه الخسائر طفيفة نسبياً. وبهذا يتجرّع الأفراد خسائرهم من دون حدوث صدمات مبالغ فيها في سعر الصرف لا تعبّر عن واقع السوق. وقد تكون هذه هي الاستراتيجيّة التي يتّبعها مصرف لبنان قبل التخلّي كلّياً عن التعميم 161.
إذاً، هل الفاعلون في السوق يلعبون بسعر الصرف، أم أن مصرف لبنان يلعب عليهم من أجل إجبارهم على تجرّع الخسائر. هو يدرك سلوكهم مسبقاً، ولديه الخبرة والأدوات لضبطهم على إيقاعه. صحيح أنه فقد الكثير من الأدوات التي تتيح له التحكّم بالسوق، إنما لا تزال لديه أداة اللعب على سلوك الفاعلين في السوق.