هل تبيّن أن الحرب بالوكالة في أوكرانيا ليست سوى مقدّمة لشيء أكبر يشمل مجاعة عالمية وأزمة أسعار صرف للبلدان التي تُعاني من عجز في إنتاج الغذاء والنفط؟من المرجّح أن يفوق عدد ضحايا المجاعة والاضطرابات الاقتصادية التي ستنتج عن الحرب الأوكرانيّة عدد القتلى في ساحة المعركة نفسها. وبالتالي، يجب التساؤل إذا كانت الحرب بالوكالة في أوكرانيا هي جزء من استراتيجية أكبر لإحكام السيطرة الأميركية على نظام التجارة والمدفوعات الدولي. نشهد اليوم استيلاء الدولار الأميركي بالقوّة المالية على الجنوب العالمي وكذلك على أوروبا الغربية. من دون الديون بالدولار من أميركا، وصندوق النقد الدولي التابع لها، كيف يمكن للبلدان أن تبقى واقفة على قدميها؟ وبأي قسوة ستتعامل أميركا لمنع هذه الدول من التخلّي عن الدولرة واختيار الخروج من المدار الاقتصادي للولايات المتحدة؟

(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

ليست استراتيجية الحرب الباردة الأميركية، هي الوحيدة التي تدرس الاستفادة من إثارة المجاعة وأزمات النفط وميزان المدفوعات. فقد أعرب المنتدى الاقتصادي العالمي عن قلقه من أن العالم أصبح مكتظاً بالسكان، أو على الأقل بـ«النوع الخطأ» من السكان. فقد فشلت النماذج النيوليبرالية للاقتصاد في أن تأخذ في الحسبان الانحدار الديموغرافي الناتج من سياساتها. لكن هذا الاتجاه أصبح عالمياً وهو جزء من الأضرار الجانبية لسياسة الولايات المتحدة. السؤال هو: هل هو أكثر من مجرد «إهمال غير مقصود» للعامل الديموغرافي؟ وفي أي مرحلة تصبح سياسة تقليص السكان مقصودة؟ قد يكون الجواب في إلقاء نظرة على كارثة دول البلطيق؛ فمنذ عام 1991، انخفض عدد سكان لاتفيا وإستونيا وليتوانيا بأكثر من 20%، ويرجع ذلك إلى أن السكان في سن العمل اضطروا للهجرة إلى بقية أوروبا من أجل العثور على عمل.
وفي أحد مؤتمرات المستثمرين في وول ستريت، حذّر مدير بنك «جي بي مورغان» جيمي ديمون، من أن العقوبات ستسبب «إعصاراً اقتصادياً عالمياً». في كلامه، كرّر تحذير المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، كريستالينا غورغيفا في نيسان، التي قالت: «بعبارة بسيطة: نحن نواجه أزمة فوق أزمة»، مشيرة إلى أن جائحة كورونا أضيفت إليها أزمة تضخّم، إذ إن الحرب في أوكرانيا دفعت الأوضاع لتصبح «أسوأ بكثير بل تهدّد بالمزيد من انعدام المساواة». وخلصت إلى أن: «العواقب الاقتصادية للحرب انتشرت بسرعة إلى الدول المحيطة وما وراءها، وهي عواقب تُصيب الناس المهمشين في العالم. في الوقت الذي كانت تعاني فيه مئات الملايين من العائلات بسبب انخفاض الدخل وارتفاع أسعار الطاقة والغذاء».
تلقي إدارة بايدن اللوم على روسيا بسبب «العدوان غير المبرر». لكن ضغط هذه الإدارة على الناتو والدول التي تدور في فلكه منع الصادرات الروسية من الحبوب والنفط والغاز.
إذاً، هل المجاعة العالمية وأزمة ميزان المدفوعات، هي سياسة متعمّدة للولايات المتحدة/ الناتو؟ في 3 حزيران، ذهب رئيس الاتحاد الأفريقي ماكي سال، رئيس السنغال، إلى موسكو للتخطيط بهدف تجنّب حدوث اضطرابات في تجارة الغذاء والنفط في أفريقيا إذ رفض أن تصبح دول أفريقيا أدوات في خدمة عقوبات أميركا/ الناتو. يومها قال الرئيس بوتين: «حتى الآن، في عام 2022، تجارتنا تنمو. وفي الأشهر الأولى من هذا العام شهدت نمواً بنسبة 34%». لكن الرئيس السنغالي سال أعرب عن قلقه من أن «العقوبات ضد روسيا جعلت الوضع أسوأ، والآن لا يمكننا الحصول على الحبوب من روسيا، وخاصة القمح. والأهم من ذلك، ليس لدينا إمكانية الوصول إلى الأسمدة».
الاتحاد الأفريقي ليس صانعاً للسياسات. ستتطلب الاستجابة لهذه الأزمة مساعدة دول كبيرة، وهذا يعني أن الاستجابة يفترض أن تكون من خلال الاشتراك مع الصين وروسيا. إن الرد المؤسّسي، الذي قد يؤدّي إلى تحالف استراتيجي على هذا المنوال، هو ما تهدف ضغوط الولايات المتحدة/ الناتو إلى منعه. الديبلوماسيون الأميركيون يجبرون الدول على خيار من اثنين فقط، على حدّ تعبير جورج دبليو بوش: «إما أن تكون معنا أو ضدنا». لكن الاختبار الحقيقي لأميركا وحلفائها هو إذا كانوا مستعدين لإجبار شعوبهم على تجويع وإغلاق اقتصاداتهم بسبب نقص الغذاء والنفط، من خلال وقف التجارة مع دول أوراسيا، من الصين وروسيا للهند وإيران وغيرها.
تصف وسائل الإعلام الغربية السائدة المنطق الكامن وراء هذه العقوبات بأنه يروّج لتغيير النظام في روسيا. كان أملهم في أن يؤدي منع روسيا من بيع النفط والغاز والغذاء وسواها من الصادرات، إلى انخفاض سعر صرف الروبل و«جعل روسيا تصرخ» (كما حاولت الولايات المتحدة أن تفعل مع تشيلي أليندي تمهيداً لدعمها انقلاب بينوشيه العسكري). كان يفترض أن يؤدّي استبعاد روسيا من نظام «سويفت» إلى تعطيل نظام الدفع والمبيعات فيها. كان يتوقع انهيار الروبل نتيجة الاستيلاء على احتياطيات روسيا بالعملات الأجنبية الموظّفة في الغرب والتي تبلغ 300 مليار دولار، ما يمنع المستهلكين الروس من شراء السلع الغربية التي اعتادوا عليها. كانت الفكرة (والتي تبدو سخيفة جداً الآن بمفعول رجعي) هي أن سكان روسيا سيتمرّدون احتجاجاً على ارتفاع كلفة الواردات الغربية الفاخرة. لكن قيمة الروبل ارتفعت بدلاً من أن تنخفض، وسرعان ما استبدلت روسيا نظام «سويفت» بنظام تحويلاتها الخاص المرتبط بنظام التحويلات الصيني. وبدأ الشعب الروسي يبتعد عن الغرب بسبب تصرّفاته العدوانيّة.
يبدو الآن أن الهدف الرئيسي للحرب الأميركية في أوكرانيا بأن تكون عاملاً محفّزاً، أو ذريعة لفرض عقوبات تعطّل تجارة الغذاء والطاقة في العالم. فضلاً عن أن توفّر إدارة هذه الأزمة فرصة للديبلوماسيين الأميركيين ليس فقط لضمان أوروبا الغربية إلى جانبها، إنما أيضاً لمواجهة دول الجنوب العالمي باختيار «الولاء والتبعية للنيوليبرالية أو حياتك». وينتج من هذه العملية تقليص عدد السكان العالم غير البيض الذين يؤرّقون المنتدى الاقتصادي العالمي (كما ذُكر سابقاً).
تمثّل روسيا 40% من تجارة الحبوب العالمية و25% من سوق الأسمدة العالمية (45% إذا احتسبنا بيلاروسيا). كان يمكن أن يتضمن أي سيناريو يدفع نحو الحرب، حساباً مفاده أنه إذا تم سحب كمية كبيرة جداً من الحبوب والأسمدة من السوق، فإن الأسعار سترتفع، تماماً كما حصل مع النفط والغاز. واليوم بات واضحاً أن تلغيم قنوات الموانئ الأوكرانية والبحر الأسود، ومنع المدفوعات إلى روسيا بالدولار أو العملات «الحليفة»، وفرض عقوبات على الدول التي تمارس التجارة مع روسيا، يؤدّي إلى اضطرابات عنيفة في أسعار الحبوب والطاقة العالمية.
وإضافة إلى تهديد إفلاس ميزان المدفوعات في البلدان التي تستورد هذه السلع، يرتفع سعر شراء الدولارات للدفع لحاملي السندات الأجنبية والمصارف المُقرضة. فما قام به الاحتياطي الفيدرالي الأميركي لجهة رفع أسعار الفائدة، أدّى إلى ارتفاع قيمة الدولار الأميركي مقابل اليورو والجنيه الإسترليني وعملات الجنوب العالمي.
أفضل توصيف لما يحصل هو: حالة إهمال لدول الجنوب من قبل دول المركز. ولكن في مرحلة ما يصبح الإهمال غير المتعمّد «إهمالاً خبيثاً». هناك التزام على الدول بالتفكير في عواقب سياساتها العدوانية. فتُعتبر هذه العواقب مقصودة إذا كان توقّعها أمراً واضحاً. في الممارسة القانونية، يُعاقَب الإهمال كما لو أن الطرف المهمل تسبّب في الضرر بشكل مباشر.
يسعى السياسيون الأميركيون إلى تجنّب أي إشارة تدلّ على أنهم يدركون الأضرار الجانبية لسياساتهم. لكن هذا الإهمال يشكل خطراً على العالم. إذا كان سلوك أمّة ما يضر باستمرار بالبلدان الأخرى، فإن التأثير يصبح كأنه مخطط له. هذا هو الحال مع سياسة الحرب الباردة الأميركية الثانية، ومع الاقتصاد النيوليبرالي بشكل عام.
تأسيس بديل من صندوق النقد الدولي خالٍ من اقتصادات التقشّف غير المرغوب فيها ولا يدعم الأوليغارشية العميلة لأميركا


إذا أُخذت الاضطرابات في التجارة والمدفوعات في الاعتبار، يظهر أن ما بدا في شباط حرباً بين الأوكرانيين وروسيا، هو حقاً حافز يهدف إلى إعادة هيكلة الاقتصاد العالمي بطريقة تسمح لأميركا بإحكام سيطرتها على كل من أوروبا الغربية والجنوب العالمي.
لم تمنح سياسة الناتو بلدان الجنوب العالمي أي خيار سوى رفض محاولتها فرض السيطرة الأميركية على المواد الغذائية في الجنوب العالمي من خلال منع أي منافسة من روسيا، وبالتالي احتكار تجارة الحبوب والطاقة في العالم. لسنوات عديدة كان المصدر الرئيسي للحبوب هو القطاع الزراعي الأميركي المدعوم من الدّولة، يليه القطاع الأوروبي في إطار سياستها الزراعية المشتركة المدعومة أيضاً. كان هؤلاء هم المصدّرون الرئيسيون للحبوب قبل أن تدخل روسيا إلى الصورة. واليوم مطلب الولايات المتحدة هو إعادة عقارب الساعة إلى الوراء لاستعادة سيطرتها على الغذاء والنفط.

الخطة الروسية الصينية المضادة
ما يحتاجه سكان العالم، خارج إطار الولايات المتحدة/ الناتو، للبقاء على قيد الحياة، هو نظام تجاري ومالي عالمي جديد. البديل من ذلك، هو المجاعة في كثير من أنحاء العالم. فبسبب العقوبات الغربية سيموت عدد من الناس أكثر ممن سيموتون في ساحة المعركة في أوكرانيا. العقوبات المالية والتجارية مدمّرة مثلها مثل الهجوم العسكري. لذا فإن الجنوب العالمي له مبرّر أخلاقي في وضع مصالحه السيادية فوق مصالح أصحاب الأسلحة المالية والتجارية الدولية.
أولاً، تحتاج دول الجنوب العالمي إلى رفض العقوبات وإعادة فتح قنوات التجارة مع روسيا والصين والهند وإيران وزملائهم الأعضاء في منظمة شنغهاي للتعاون (SCO). لكن المشكلة تكمن في كيفية دفع ثمن الواردات لهذه البلدان، خاصة إذا قام الديبلوماسيون الأميركيون بتمديد العقوبات.
لا توجد طريقة يمكن لدول الجنوب العالمي من خلالها أن تدفع ثمن النفط والأسمدة والغذاء من هذه البلدان، بالإضافة إلى سداد الديون بالدولار التي تمثّل إرثاً لسياسة التجارة النيوليبرالية التي ترعاها الولايات المتحدة. لذا، فإن الحاجة الثانية هي إعلان تأجيل سداد الديون، أو حتى التنصّل منها. سيكون هذا الفعل مشابهاً لتعليق دفع التعويضات الألمانية وديون الحلفاء المستحقة للولايات المتحدة عام 1931. بكل بساطة، لا يمكن سداد ديون الجنوب العالمي اليوم من دون تعريض البلدان المدينة للمجاعة والتقشف.
النتيجة الطبيعية الثالثة التي تنجم عن هذه الضرورات الاقتصادية، هي استبدال البنك الدولي وسياسات التبعية التجارية للولايات المتحدة التي يفرضها، بمؤسّسة تعمل لتسريع التقدّم الاقتصادي الحقيقي. وجنباً إلى جنب مع هذه المؤسّسة، هناك نتيجة طبيعية رابعة بتأسيس بديل من صندوق النقد الدولي خالٍ من اقتصادات التقشّف غير المرغوب فيها، ولا يدعم الأوليغارشية العميلة لأميركا أو للهجمات على عملات البلدان التي تقاوم الخصخصة الأميركية وعمليات الاستحواذ المالية.
المطلب الخامس هو أن تحمي الدول نفسها من خلال الانضمام إلى تحالف عسكري مواجه لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، لتجنّب التحول إلى أفغانستان أخرى أو ليبيا أخرى أو العراق أو سوريا أو أوكرانيا. الرادع الرئيسي لهذه الاستراتيجية ليس قوة الولايات المتحدة، فقد أثبتت أنها نمر من ورق. المشكلة هي مشكلة وعي وإرادة اقتصاديين عند باقي الدّول.

* نشر هذا المقال على موقع michael-hudson.com في 6 حزيران الماضي