لم تكن أوروبا معزولة عن الأزمة المرتقبة حول العالم. فهي مثل كل الدول، تبنّت سياسات نقدية توسّعية في مواجهة الإغلاقات الناتجة من انتشار جائحة «كورونا»، ثم احتضنت الوجهة الأميركية في مواجهة روسيا. خطوتها الأخيرة، تثير الاستغراب إذا كان الاتحاد الأوروبي غافلاً عن مدى انكشافه الاستراتيجي على الغاز الروسي، وعن تداعيات سلوكه الذي يجعل التضخّم السيئ الذكر، يتحوّل إلى ركود تضخمي عميق في ظل تفاقم الطلب على السلع الأساسية، ولا سيما القمح، والمعادن الأساسية للصناعات العالمية. لم يحسب الاتحاد الأوروبي أنه سيضعف في مواجهة انخفاض قيمة عملته الموحّدة، وأنه سيصبح وقوداً في معركة أصبحت أكبر بكثير من مجرّد انقطاع في سلاسل التوريد. فأوروبا تعيش كابوساً مقلقاً مستمراً إلى وقت غير معلوم. هي مهدّدة بانقطاع مصادر الطاقة الأساسية، وبموجة تضخمية ناتجة من ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء. لكن خلافاً لما ستقوم به أميركا لجهة عكس المسار النقدي التوسعي، فإن أوروبا تقف عاجزة عن القيام بأي خطوة، ما أفقد اليورو 11% من قيمته أمام الدولار منذ نهاية السنة الماضية.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

ما قامت به أميركا لجهة رفع أسعار الفائدة، أدّى إلى انخفاض قيمة اليورو مقابل الدولار. ورغم أن الفيدرالي الأميركي رفع الفوائد بأكثر من 1% منذ شهر نيسان الماضي، إلا أن المصرف المركزي الأوروبي ما زال مصراً على معدّل فائدة سلبي (-0.5%). أدّى ذلك، إلى انزياح المستثمرين نحو السندات الأميركية التي باتت العوائد عليها المتأتية من الفوائد مرتفعة بينما هي تصنّف خالية من المخاطر. فالسندات الأوروبية باتت بهذه الحالة تنطوي على مخاطر أعلى، وبالتالي فإن التضحية بها من أجل الاستفادة من العوائد الأميركية هي سلوك بديهي للمتاجرين الدوليين. وبهذا السلوك، تتكوّن موجة هجرة رؤوس أموال من الأسواق الأوروبيّة إلى الأميركيّة، ما يعني التخلّي عن اليورو والتحوّل نحو الدولار، أي زيادة في عمليات بيع اليورو وشراء الدولار وهذا كافٍ لينتج منه انخفاض في سعر اليورو مقابل الدولار.
في الواقع، هناك سوق بكاملها قائمة على التجارة بالعملات بهدف الربح والتحوّط. ومثل كل الأسواق، تتحفّز هذه السوق بالتوقعات التي تميل مسبقاً نحو التخلّي عن اليورو والاحتفاظ بالدولار كعملة استثمار. يخلق ذلك نمطاً سلوكياً بين المستثمرين تجنباً لأي خسائر محتملة باليورو ليزداد وضعه سوءاً وتتدنى قيمته أكثر. بمعنى أكثر وضوحاً، لم يكن الاقتصاد الحقيقي، بتقلباته، هو الدافع نحو انخفاض قيمة اليورو. فبلدان الاتحاد الأوروبي انخرطت منذ زمن طويل في عملية «الأمولة» - أي تحويل الجزء الأكبر من الاقتصاد إلى عمليات مالية مختلفة جداً عن النشاط الإنتاجي الذي تقابله سلع حقيقية - فضلاً عن أنها تحوّلت إلى مستورد نهم للسلع المستوردة، وأبرزها الطاقة.
إزاء هذا التطورات في الأسواق المالية الأوروبية، كان يفترض أن تطبق أوروبا الحلول الرأسمالية الكلاسيكية: رفع الفوائد. هذا الخيار كان يفترض أن يقوم به البنك المركزي الأوروبي بشكل بديهي للحدّ من هجرة رأس المال نحو أميركا، إنما لم يقم بذلك، تاركاً السوق في حالة استغراب شديدة. فعلى ما يبدو، يخشى المصرف المركزي الأوروبي أن يؤدي رفع أسعار الفوائد على اليورو إلى الإضرار بدول الاتحاد الأوروبي التي تعاني من مستويات ديون مرتفعة. رفع الفوائد يعني ارتفاع كلفة الدين على هذه الدول بما يرتّبه ذلك من مخاطر عدم السداد التي تعزّز الذعر لدى المستثمرين.

بالأرقام

13.5
مليون برميل من النفط يومياً، هي معدّل استيراد الاتحاد الأوروبي من النفط في عام 2021
14%
هي نسبة سلع الطاقة التي استوردها الاتحاد الأوروبي من إجمالي وارداته في 2021


عملياً، تحقّقت هذه المخاوف في حزيران الماضي. قبلها كانت التوقعات تشير إلى أن البنك المركزي الأوروبي سيرفع أسعار الفوائد بنسبة 0.5% في أيلول المقبل. أدّت هذه التوقعات إلى ارتفاع «عائدات» (Yields) السندات الإيطاليّة، إلى أكثر من 4%. وفي العادة لا يرتفع الـYields إلا في حال ارتفاع معدلات الفائدة أو في حال انخفاض أسعار السندات عندما يتخلص منها المستثمرون بأسعار أقل من قيمتها السوقية بسبب ارتفاع المخاطر. ويحصل التخلّي عن السندات بشكل جماعي، ما ينعكس عميقاً في أسعار السندات ويؤدي إلى خسائر دفترية هائلة.
وليست هذه كل مخاوف البنك المركزي الأوروبي. فمن جهة ثانية، هناك خشية أن يؤدي رفع الفوائد إلى ركود اقتصادي حتمي. فأوروبا متضرّرة أصلاً بشكل مباشر من الحرب الروسيّة - الأوكرانيّة، ولا سيما لجهة التوقعات السلبية حول مستقبل الطاقة في أوروبا بفعل ارتباطها بالغاز الروسي، بالإضافة إلى احتمالات اتساع الحرب لتشمل عدداً من دول أوروبا، وهو ما يهرّب الشركات الأوروبيّة ويدفعها إلى إعادة النظر في استثماراتها المستقبليّة. ومن دون هذه الاستثمارات لا يمكن أن ينمو الاقتصاد. لذا، فرفع الفوائد هو بمثابة رفع لكلفة الاستثمار وزيادة في كلفة خدمة الديون. وهذا كافٍ لتحويل فرص الاستثمار من ضئيلة إلى معدومة، تليها صعوبة في النمو، ثم ركود حتمي يحاول المصرف المركزي الأوروبي تجنّبه بعد سنتين مكلفتين من تفشي جائحة كورونا.
إذاً، ماذا يعني يورو أضعف لأوروبا؟ تميل التفسيرات الأساسية إلى اعتبار انخفاض قيمة العملة في بلد ما خبراً جيداً للمصدّرين. وقد يكون هذا هو الحال في أوروبا أيضاً، إذ إن انخفاض اليورو يعني أن البضائع الأوروبيّة ستكون أكثر تنافسيّة في الخارج لأن أسعارها ستنخفض نسبياً. وأوروبا، بكليّتها، تتميّز بفائض مستقرّ تقريباً في ميزانها التجاري، إلا أن هذا الفائض يعود إلى صادرات بعض الدول، مثل ألمانيا التي تصدّر أكثر من 1.3 تريليون دولار في السنة. لكنّ الفارق بين ألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية الأُخرى المصدّرة مهول، إذ تصدّر كل من هولندا وفرنسا وإيطاليا مجتمعةً، ما قيمته نحو 500 مليار دولار، أي أقل من نصف ما تصدّره ألمانيا. وهناك دول في الاتحاد الأوروبي ليست مصدّرة بل مستوردة. هذا يعني أن انخفاض اليورو ستكون تبعاته جيّدة على بعض الدول دون أخرى.

هناك خشية أن يضرّ رفع الفوائد بدول الاتحاد الأوروبي التي تعاني من مستويات دين مرتفعة


من ناحية أخرى كانت الدول الأوروبيّة تعتمد على يورو قوي لاستيراد طاقة رخيصة، إذ إن الاتحاد الأوروبي هو مستورد للنفط والغاز ولا ينتجهما محلياً إلا بكميات صغيرة. لذلك فإن انخفاض قيمة اليورو يعني كلفة أعلى على استيراد الطاقة، علماً أن الأسعار العالمية للطاقة مرتفعة أصلاً، وهي تشكّل جزءاً كبيراً من التضخّم الذي يشهده الاقتصاد الأوروبي، ما يعني تضخّماً إضافياً، وأن أي ارتفاع إضافي في كلفة الطاقة بسبب انخفاض قيمة اليورو، قد يلغي الانعكاسات الإيجابيّة التي يتسبب بها هذا الانخفاض على الصادرات الأوروبيّة، إذ إن الطاقة هي مدخل أساسي في الإنتاج، وإن ارتفاع كلفتها يعني ارتفاع أسعار المنتجات، ومن شأن ذلك أن يلغي أثر انخفاض اليورو على أسعار الصادرات ويتحول إلى خسائر إضافية تعيق الدورة الاقتصادية وتراكم زيادة نسب التضخم، وتعمّق معاناة المستهلكين في الدول المعنيّة.