تجتاح لبنان، حالياً، موجة من العطش الشديد تطال معظم سكانه. الأكثر عطشاً هم سكان المدن الساحلية من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب. أما الموجة، فهي ناجمة عن نقص فاضح في إمداد السكان بكميات وافية من مياه الشفة، رغم أن لبنان يشتهر بأنه «قصر مائي» يملك ثروة مائية هائلة، لو وُزّعت بشكل عادل على سكانه، لجعلتهم يعيشون فوق خط العجز المائي العالمي.تتركز ثروة لبنان المائية في المناطق الساحلية الواقعة بين شاطئ البحر، والمنسوب 240 متراً حيث تتجمّع غالبية السكان. وعلى امتداد هذه المساحة، يصبّ 15 نهراً بشكل دائم في البحر. اللافت أن ست مدن عطشى، على مداخلها تصبّ ستة أنهر المياه العذبة في البحر. فنهر «أبو علي» يشقّ طرابلس إلى نصفين من دون أن تستفيد المدينة من مياهه، وكذلك نهر الجوز يصب في البحر عند مدخل البترون الشمالي، ونهر إبراهيم يحاذي مصبّه مدخل مدينة جبيل الجنوبي، أما بيروت فهي محصورة بين مصبّ نهر الكلب الذي تتدفق مياهه إلى البحر عند مدخل بيروت الشمالي، ومصبّ نهر الدامور الذي يصبّ في البحر عند مدخل المدينة الجنوبي. كما أن نهر الليطاني يصبّ بغزارة في البحر من تحت جسر القاسمية القريب من مدخل صور الشمالي، وتربض برك رأس العين على بعد ثلاثة كيلومترات من مخرج صور الجنوبي... فما الذي حال ويحول دون وصول مياه هذه المصادر الغنية، إلى منازل سكان هذه المدن والقرى المحيطة بها؟

(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

الوقائع تشير إلى الآتي: نصف المياه اللبنانية القابلة للاستثمار، والمقدّرة بنحو مليار متر مكعب، تضيع في البحر أو خارج الحدود نحو سوريا وفلسطين المحتلة بكميات تقدّر بنحو 510 ملايين متر مكعب. وما تبقّى من الثروة المائية، فقد اجتاحتها الملوّثات الصلبة والسائلة، أو تسرّبت إليها مياه البحر المالحة.
أما على مستوى استثمار الثروة المائية، فحدّث، ولا حرج؛ إذ تأجّل تنفيذ مشاريع الريّ العملاقة رغم مرور نصف قرن على إنجاز دراساتها، ولم يُنفّذ من خطة السدود العشرية لبناء 18 سدّاً بقدرة استيعابية تبلغ مليار متر مكعب، إلا سدّان صغيران هما: سدّ الشبروح بسعة 8 ملايين متر مكعب، وسدّ المسيلحة بسعة 2 مليون متر مكعب. إلى جانب ذلك، فإن معظم شبكات توزيع مياه (الري والشفة) مهترئة أو معتدى عليها وتتجاوز نسبة تهريب المياه فيها نسبة الـ 35%.
ورغم هذا التقصير الذي تعيشه إدارة المياه في لبنان، يستمر معظم اللبنانيين بالادعاء بأنهم متقدّمون على أشقائهم العرب. يدّعون ذلك، رغم أن مياه الأنهار الـ 15 العذبة تتدفق على مدار العام نحو البحر، فضلاً عن أن ثلاثة منها تجري خارج الحدود ويستفيد منها العدو الإسرائيلي الذي يسرق أكثر من 310 ملايين متر مكعب. وقد عجزت إدارة المياه في لبنان عن تنفيذ مشروع سدّ بسري الواقع على ارتفاع 340 متراً، ويبعد عن بيروت نحو أربعين كيلومتراً، علماً بأن كلفة استملاكات الأراضي سدّدت بقرض من البنك الدولي قيمته 450 مليون دولار.
أكثر ما يثير الاستغراب هو الآتي: كيف استطاع الفينيقيون، منذ أكثر من 3 آلاف سنة جرّ المياه إلى صور وصيدا وجبيل من برك الرشيدية ورأس العين وهي على ارتفاع 18 متراً، ومن ينابيع عين بوعبدالله وهي على ارتفاع 20 متراً، ومن نبع الخاصكية الواقع في مجرى الأولي؟ إذ ما زالت شبكات الأقنية المقبية التي تصل المدينتين بمصادر المياه الثلاثة قائمة لغاية اليوم، فيما برك رأس العين تلتقي بمياه صور الآتية من ينابيع عين بوعبدالله في مجرى الليطاني عند مفرق البرج الشمالي. كما أن المياه الآتية من ينابيع بوعبدالله، تلتقي بالمياه الآتية من نبع الخاصكية في مجرى نهر الأولي بالقرب من سرايا صيدا.
استمرت هذه المصادر الثلاثة بمدّ مدينة صور وبساتينها، ومدينة صيدا وبساتينها وجنائنها، بالمياه حتى دمج مشروع القاسمية ورأس العين بالمصلحة الوطنية لنهر الليطاني في أواخر عام 1975. لكن مدينتَي صور وصيدا حرمتا من شرب مياه هذه المصادر، بسبب تعدّد الشركاء في اقتسام المياه، وسوء الإدارة التي تولّت الإشراف على استثمار مياه هذه المصادر. فما الذي يحول دون تنفيذ مشروع جرّ مياه ينابيع عين بوعبدالله، مجدداً إلى صيد وصور؟
في ظل الارتفاع الجنوني في أسعار المحروقات الذي أدّى إلى توقف ضخّ المياه من آبار وادي جيلو، وفخر الدين، وتفاحتا، وفي مئات الآبار التي حفرتها معظم بلديات الجنوب، بتنا بحاجة ماسة إلى العودة إلى مصادر المياه السطحية التي تغذّي السكان بالمياه بالجاذبية، كمشروع ريّ الجنوب الذي يحمل مع مياه الري كميات من مياه الشفة تغطّي حاجات تسعين قرية واقعة جنوبي مجرى نهر الليطاني. وكذلك تنفيذ مشروع مدّ مدينتَي صور وصيدا بمياه عين بوعبدالله بالجاذبية. مشاريع كهذه، تؤمن المياه للسكان بصورة مستمرة، ومن دون أكلاف باهظة لقاء ضخّ المياه من مستويات منخفضة كما يحصل الآن.

* مهندس زراعي


مشاريع عربية عملاقة
هناك بُلدان عربية استطاعت تنفيذ مشاريع مائية عملاقة؛ فقد أنجز المغرب بناء أكثر من 500 سدّ مائي، وأنجزت ليبيا بناء مشروع النهر الصناعي العظيم الذي ينقل نحو 3 مليارات متر مكعب من المياه الجوفية في الصحراء الليبية إلى مدن الشمال عبر خطين من الأنابيب يبلغ طول الواحد منها نحو 1000 كيلومتر. كذلك تخطّط السلطات الأردنية لتزويد مدينة عمّان بمياه الشفة، من حقل يقع في الأراضي السعودية على مقربة من مدينة العقبة عبر خطّ من الأنابيب يزيد طوله على 400 كيلومتر تنقل مياه الآبار الجوفية إلى مدينة عمّان الواقعة على ارتفاع يزيد عن ألف متر عن سطح البحر.