أظهرت أرقام مصرف لبنان عن نهاية النصف الأول من شهر تموز، أن ما تبقى لديه من سيولة بالعملة الأجنبية يبلغ 10.08 مليار دولار، أي ما يوازي كلفة استيراد لمدّة 10.8 أشهر قياساً على حجم الاستيراد في السنة الماضية. وإذا اعتبرنا أن كل هذه السيولة مخصّصة حصراً لتمويل الواردات، فإن لبنان سيعاني من أزمة ضخمة قبل نفاد الاحتياطات، إذ ستنفجر المشكلة عندما يتّضح مسار تسارع نفاد الاحتياطات.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

إذاً، أي مسار يسلكه مصرف لبنان في استعمال الاحتياطات؟ في عام 2016 كان المعدل الشهري لتدنّي الاحتياطات 336 مليون دولار. وفي حينه لم تكن تدفقات الودائع قد توقفت نهائياً بل كانت بدأت تشحّ، ما يعني أن وتيرة استعمال الاحتياطات كانت مبرّرة نسبياً. وفي عامَي 2017 و2018، انخفض المعدل الشهري لتدني الاحتياطات إلى 200 مليون دولار ربطاً بمزيد من التدفقات المحفّزة بالهندسات المالية. لكن الحقيقة تكشفت في عام 2020 علماً بأنها بدأت تظهر فعلياً اعتباراً من 30 أيلول 2019. ففي هذا التاريخ أصدر مصرف لبنان التعميم 530 الذي يحصر استعمال الاحتياطات بغرض الاستيراد، بسلع أساسية: بنزين، مازوت، غاز، الأدوية، ولاحقاً أضيفت المستلزمات الطبية، ثم أضيفت أيضاً سلّة من السلع الغذائية والزراعية والمواد الأولية. وفي عام 2020، بلغ المعدل الشهري لتدني الاحتياطات ما قيمته 1098 مليون دولار شهرياً. لكنه رغم كل الإجراءات التي اتخذت لجهة وقف الدعم، وكبح الاستيراد عبر رفع الأسعار الداخلية وإفلات سعر الصرف ليغذي معدلات التضخم، لم يتمكن من العودة إلى معدلات ما قبل الانهيار، بل سجّل في عام 2021 تدنياً شهرياً بمعدل 521 مليون دولار، وفي النصف الأول من السنة الجارية سجّل 416 مليون دولار شهرياً.
هذا يعني أن كل إجراءات إدارة الأزمة التي حُصرت بيد مصرف لبنان والسياسة النقدية التي يتبعها، وهي سياسة تهدف إلى تكبيد المجتمع أكبر ضريبة ممكنة لكبح استهلاكه وبالتالي تقليص الاستيراد، بما يتيح لمصرف لبنان هامشاً أوسع في إدارة السيولة النقدية بالدولار (ما يحمله من احتياطات، وما يأتي من الخارج على شكل تحويلات مغتربين أو تحويلات للسوريين النازحين، أو غيرها)... كل ذلك لم يمنع من استهلاك نحو 23.4 مليار دولار منذ أيلول 2019 لغاية منتصف تموز 2022.
انحدار وتيرة التدني ليس وحده المؤشر على ما سيحصل، فهناك مؤشّر آخر معتمد في الكثير من المؤسسات الدولية، وهو نسبة الاحتياطات إلى الكلفة الشهرية للاستيراد. في نهاية عام 2016 كانت الاحتياطات كافية لتغطية 20 شهراً من الاستيراد (مجموع الاستيراد في عام 2016 بلغ 18.6 مليار دولار مقابل احتياطات بقيمة 30.9 مليار دولار). وهذا المؤشّر لم يتغير كثيراً في السنوات التالية إذ ارتفع إلى 23 شهراً في 2018، ثم بدأ رحلة انخفاض ليبلغ 19.5 شهراً في نهاية عام 2021. المفاجأة حصلت في عام 2022، أو في النصف الأول هذه السنة، إذ تدنّت الاحتياطات إلى 10.08 مليار دولار ولم تعد تغطّي أكثر من 10.8 أشهر. وهذا يعني أن المرحلة الثانية من الأزمة بدأت تقترب وقد تكون مرحلة قاسية جداً لأنه عندما تنفد الاحتياطات ستبقى إدارة السوق مبنية على تدوير التدفقات الواردة وذلك إذا كانت لدى مصرف لبنان السلطة والقدرة والأدوات على إدارة كهذه. إذا بلغنا المرحلة الثانية من الأزمة، فإن المشكلة ستكون في توفير الأساسيات من بنزين وقمح ودواء وغيرها من السلع الأساسية والضرورية. هذه المرحلة ستكون على مستوى آخر من الأزمة شكلاً ووتيرة ونوعاً.