تعاظمت العولمة بشكل كبير خلال العقود الثلاث الماضية. كانت التجارة العالمية تنمو بضعف سرعة نموّ الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ما جعل التجارة العالمية «محرّك» النمو الاقتصادي العالمي. وكانت لحظة انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية (WTO) أحد أهم المنعطفات التي فجّرت الاستثمارات من كل حدب وصوب. الأمور كانت مثيرة، والمستقبل يعد بالكثير. لكن مع دخول الاقتصاد العالمي زمن ما بعد 2008، وتعاظم دور الصين وموقعها، ثم توقف كل شيء بسبب الجائحة، وأزمات الطاقة والغذاء والتضخم التي ألمّت بالكوكب... كل ذلك، يقول إنه لم يعد ممكناً استمرار أنماط التجارة والاستثمار التي سادت سابقاً. والغرب، بالفعل، بدأ يعمل على فرض ملامح العالم الجديد متّخذاً من السياسات الحكومية البيئية، والإجراءات الداعمة للصناعات الوطنية، طريقة تحكم قواعد العالم الجديد، حتى تبقى دفّة القيادة بين يديه.
نيلز بو بوجيسن ــ الدنمارك


قواعد الحروب والعولمة
تقول هالي إدواردز - وهي صحفية ومؤلفة كتاب «محاكم الظل: المحاكم التي تحكم التجارة العالمية» - إن اتفاقيات التجارة الحرّة والكيانات التي وُلدت منها مثل «منظمة التجارة العالمية»، أو «GAAT» (الاتفاقية العامة للتعرفات الجمركية والتجارة، سبقت WTO) لم يكن الهدف منها «التجارة الحرة». إذ إن العالم احتاج بعد الحرب العالمية الثانية إلى وسيلة تمنع الدول من غزو بعضها بعضاً. وبدأ العصر الحديث للتجارة الحرة بحسب إدواردز، في عام 1944. عندما اجتمعت «نخب الاقتصاد الليبرالي» في مكان صغير يسمى بريتون وودز، في ولاية نيوهامشر الأميركية، وولدت فكرة أنه إذا كانت الدول ذات القوميات المتناحرة تعتمد على بعضها البعض في سلاسل التوريد الخاصة بها، فلن تتمكن من خوض حروب مع بعضها البعض. فعلى سبيل المثال، إذا احتاجت ألمانيا إلى فرنسا من أجل الفحم، وكانت فرنسا بحاجة إلى ألمانيا من أجل الفولاذ، فلن تتمكنا من الدخول في حرب. كانت هذه هي الفكرة وراء ما أصبح بعد نحو أربع سنوات، اتفاقية الـ«GAAT». وهذه الوثيقة الصغيرة خلقت العالم كما نعرفه اليوم. «المعولم».
هو عالم تحكمه القواعد. والبديل يكون الحرب. لكنه أيضاً عالم غير عادل. فبين القواعد والحروب، تمكّن القوي من فرض معادلات لم تكترث لأحد ولا لشروط المنافسة الحرة. وأحدث أنواع الخلل في هذه القواعد حصل الأسبوع الماضي، إذ انتقدت الصين التشريع الأميركي الجديد (Chip ACT) الذي يدعم إنتاج وتوطين صناعة أشباه الموصلات داخل الولايات المتحدة. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، وانغ وين بين، إن القانون «سيعطل التجارة الدولية ويشوّه سلاسل التوريد العالمية لأشباه الموصلات». موضحاً أن «الصين تعارض ذلك بشدة».

التنافس على «صناعة» النفوذ
أشباه الموصلات ليست مجرد سلعة. هي عضلات العالم الحديث ودماغه. في السابق، انتهج مركز اقتصاد «العالم الحر» فكرة تجزئة صناعة أشباه الموصلات، ليكون البحث والتطوير في الولايات المتحدة، في مقابل أن يكون التصنيع متركّزاً في آسيا. لكن صعود المارد الصيني، مضافاً إليه جائحة كورونا التي شرذمت سلاسل الإنتاج والتوريد، وسط عالمٍ لم تعد تثيره فكرة العولمة ويتجه إلى الأقلَمَة، صدّع الثقة في التجارة الحرة. خصوصاً أن هذه الشبكة المعقدة من التجزئة لصناعة الشرائح أنتجت نقاط اختناق يمكن أن تستغلها دول لفرض نفوذ سياسي. يشبه الأمر إمساك روسيا بورقة الغاز أمام أوروبا. ومع كل تلك المخاطر الجيوسياسية، تحوّلت صناعة أشباه الموصلات إلى مسألة أمن قومي بالنسبة للولايات المتحدة، ودفعت الحكومة الأميركية إلى دعم قدرات التصنيع المحلية.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

ففي عام 1990 انخفض إنتاج الولايات المتحدة للرقائق من 37% من العرض العالمي، إلى 12% راهناً. ولا تملك الولايات المتحدة حالياً القدرة على تصنيع الرقائق الدقيقة الأكثر تقدماً، مثل أشباه الموصلات ذات قياس 5 نانومتر و3 نانومتر. هذه تنفرد بها شركة «TSMC» التايوانية بشكل مطلق. لهذا، يقدم قانون الشرائح الأميركي الجديد إنفاقاً على الأبحاث يبلغ نحو 200 مليار دولار على مدى 10 سنوات، بالإضافة إلى دعم مباشر للشركات الأميركية المعنية في هذا المجال بنحو 52 مليار دولار بشكل مباشر. وهكذا، تأمل أميركا أن تكون قد قلّلت حاجتها إلى الموردين الآسيويين في هذا المجال، وتؤمن حماية إمداداتها من الشرائح الإلكترونية في حال أعادت الصين ضمّ تايوان التي تنتج ما يصل إلى 90% من الرقائق البالغة الدقة.
لقد أنفق الحزب الشيوعي الصيني عشرات المليارات من الدولارات في تطوير صناعة أشباه الموصلات داخلياً. لكن الولايات المتحدة تحرم الصين من التقنية عبر منعها من الاستحصال على جهاز (euv lithography) الذي تنتجه شركة «ASML» الهولندية، والذي لا يمكن لأحد أن ينتج أشباه موصلات بقياسات دقيقة من دونه. لهذا، تستطيع الصين إنتاج شرائح متوسطة الحجم على غرار تلك المستخدمة في السيارات والأجهزة الكبيرة الحجم. من دون وجود قدرة على تأمين شرائح للهواتف الذكية والأجهزة الأخرى المتطورة.
ويُشير مقال نشرته «نيويورك تايمز» بعنوان «في واشنطن، التجارة الحرة لم تعد إنجيلاً»، إلى أن إدارة الرئيس الأميركي الحالي، جو بايدن، لم تختلف عملياً عن إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، إذ تخلّت الإدارة عن فكرة التجارة الحرّة كهدف في حد ذاتها. وأنه لعقود من الزمن، كان لمبدأ التجارة الحرّة نوع من القدسية الدينية بين معظم السياسيين الأميركيين. وبرّروا ذلك بأنها تسهم في «انتشار الديموقراطية» ورأسمالية السوق. ولكن هذه القدسية لم تعد هي الرأي السائد في أروقة واشنطن السياسية.

حزام الصدأ الأميركي

«rust belt states» يضم الولايات التي غادرتها الشركات الصناعية وأكل الصدأ منشآتها الصناعية. وهو تعبير اشتهر في الثمانينيات، ويستخدم لتوصيف انهيار النتاج الصناعي وما نتج منه من تدهور اقتصادي وانخفاض في عدد السكان، واضمحلال في المناطق الحضرية. يمتد الحزام من نيويورك نحو الغرب من خلال بنسلفانيا، ثم ولايات فرجينيا الغربية، أوهايو، إنديانا، ثم ينحدر إلى شبه جزيرة ميشيغان، وينتهي في شمال إلينوي وشرق ولاية ويسكونسن.


خلال ولايته، جهد ترامب لإظهار الجانب المظلم للتجارة الحرة والعولمة. الرجل صاحب مقولة «أميركا أولاً» وشعار «لنعد لأميركا عظمتها»، لم يترك فرصة تمرّ من دون أن يتحدث عن كيف دمّرت بلاده وتجرّدت من الصناعات الكبرى مثل السيارات والصلب خصوصاً في ولايات حزام الصدأ. كان ترامب يردّد مراراً أنه من غير المقبول أن يكون استيراد أنابيب الصلب الكبرى من الخارج، بسعر أبخس من صناعتها داخل أميركا. وبدأ الرئيس الـ45 للولايات المتحدة، في حينه، يهدّد بإلغاء الصفقات التجارية القديمة التي قال إنها أرسلت وظائف الأميركيين إلى الخارج، وأراد إعادة التفاوض على صفقات جديدة. لكن سياساته ورغم وقعها الجميل على آذان الأميركيين، إلا أنها انتهت بزيادة الحواجز والعراقيل أمام التجارة بدلاً من خفضها. بما في ذلك مع كندا والمكسيك والصين كما وضع تعرفات جمركية ضخمة على المنتجات الصينية والمزيد من القيود على واردات السيارات إلى أميركا الشمالية.
بالنسبة إلى البعض، كانت سياسيات ترامب التجارية غير واضحة وربما فوضوية. لكن إذا تمّت قراءة ما حصل خلال خطٍ زمني نستنتج التالي: كانت تغريدات ترامب وحدها كافية على إرغام شركات السيارات على نقل مصانعها من المكسيك إلى الولايات المتحدة. الرجل انقلب على الاتحاد الأوروبي، واشتكى أن الألمان لا يشترون ما يكفي من سيارات «شيفروليه»، بينما يشتري الأميركيون العديد من سيارات «بي إم دبليو». هذه العقلية الترامبيّة ليست جديدة، منذ عام 1990 كان ترامب يطالب بفرض تعرفات جمركية على سيارات شركة «مرسيدس بنز». ومع وصوله إلى البيت الأبيض، وضع خطة شاملة مع بيتر نافارو، أقرب مستشار تجاري له، ووزير التجارة ويلبر روس، يمكن تلخيصها بالآتي: يجب إعادة التفاوض على جميع الصفقات التي تؤدي إلى عجز تجاري للولايات المتحدة.
تعرقلت مساعي ترامب مع جائحة كورونا، وتنامي حدّة الانقسام الداخلي في الولايات المتحدة. ولم ينجح في وضع قواعد تجارية جديدة ثابتة. لكنه نجح في صنع رأي يتعاظم كل يوم، يريد الخروج من قواعد اللعبة القديمة بأي ثمن. وبطبيعة الحال، لا يوجد لدى «مركز العالم الحر» رؤية موحّدة أو مصلحة في ارتقاء سكان الكوكب اقتصادياً، هو من يضع القواعد أساساً، يحتال عليها، ويبدلها حين لا تخدم مصالحه كالسابق. ويمكن ملاحظة أن سياسات الإدارة الأميركية الحالية، ورغم أنها أقل فجاجة من سياسات ترامب، إلا أنها تعمل بشكل بارد على تغيير جذري.

الكل في مواجهة الصين
أبرز معالم النظام العالمي الجديد هو تبريد الكوكب. وتحت مظلة حماية الأرض من التغيّر المناخي، يتم فرض قواعد جديدة وسياسات حكومية حول العالم، لكن في جوهرها هي تحاول قمع أو إبطاء تقدّم الصين. في ورقة بحثية نشرها موقع «CSIS» (مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية)، تفيد أنه مع بدء الجهات الفاعلة الدولية، ولا سيما الاتحاد الأوروبي، في وضع الجيل القادم من سياسات التخفيف من تغير المناخ الخاصة بها، تحتاج الولايات المتحدة إلى استكشاف أي السياسات أكثر جدوى في نموذجين: خارجياً في عالم متعدّد الأقطاب، وداخلياً. وبحسب الورقة البحثية، تشير الإجراءات التي اتخذتها الإدارة الأميركية الحالية، إلى أن منحها الأولوية لتغير المناخ يتضمن ميلاً حمائياً في سياستها التجارية يتماشى مع وجهة نظر متزايدة في الكونغرس الأميركي، مفادها أن الحكومة يجب أن تفعل المزيد لدعم الابتكار في التكنولوجيا الخضراء والصناعات الرئيسية استجابة لأزمة المناخ، وكذلك لمنافسة الصين بشكل أفضل. وتوضح الورقة أن مثل هذا الميل قد يجعل عملية التوصل إلى اتفاق دولي بشأن نهج مشترك لسياسة التجارة المناخية أكثر صعوبة. خلاصة هذه الورقة تعطي ملامح عن شكل العالم الأخضر القادم. بحيث ستحاول الولايات المتحدة الأميركية وشركاؤها الغربيون، إنفاق تريليونات الدولارات من أجل رفع مستوى جودة المنتجات لتصبح أطول عمراً، كما إخضاعها لمعايير بيئية وأخلاقية قاسية.

مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية: على أميركا إنفاق تريليونات الدولارات لرفع مستوى جودة المنتجات وإخضاعها لمعايير بيئية وأخلاقية قاسية


عملياً هذا زلزال سياسي عالمي. إذ يُراد إزاحة الصين عن عرش أكبر منتج ومصدّر للعالم، تحت حجة المعايير البيئية التي ستصبح إنجيل سياسات العالم الحديث. وحتى عندما تتقدم الصين في تقنيات الطاقة المتجددة مثل الألواح الشمسية (بحسب وكالة الطاقة الدولية تنتج الصين 80% من كل ألواح الطاقة الشمسية في العالم، ويتوقع وصولها إلى 95% خلال الأعوام القادمة) قامت الولايات المتحدة في ظل الإدارة الحالية، بفرض عقوبات على كل صادرات منطقة شينغ يانغ الصينية بحجّة أنها تفرض العمل الجبري على الأويغور. وتجدر الإشارة إلى أنه بحسب فايننشال تايمز، فإن شينغ يانغ تنتج 40% من مادة البولي سيليكون التي تستهلك في صناعة ألواح الطاقة الشمسية حول العالم.