نشأت البرجوازيات التجارية والخدماتية المرتبطة والمترابطة مع الهيئات التشريعيّة والتنفيذيّة في البلاد، في كنف نظام اقتصادي حرّ محرّر من كلّ القيود التدخليّة للدولة التي يسودها «احتكار القلّة». لذا، خَدَمَت - في ظل حكومات بصلاحيات محدودة - مصالح التجّار ورجال أعمال. فغَزَت الأسواق اللبنانية، وقيّدت المبادرات الفردية والروح التنافسية من جهة، وقاومت بشدّة الإصلاحات الضريبية، وتعاطت بعِداء شديد مع التشريعات التي وقفت عقبة أمام نشاطاتها في تكديس الثَّروة من جهة أخرى، ما ولّد تفاوتاً صارخاً في الضرائب المطبّقة على القطاعات الإنتاجية كالصناعة والزراعة، والقطاعات الريعية كالمصارف والعقارات. فالنظام الاقتصادي الحرّ المقرون بغياب الجهاز التشريعي، بات يُعدّ من أبرز العوامل التي ساهمت في خلق الثروة، وهو أسهم في تراكم الفوائد الفاحشة والأرباح الرأسمالية الطائلة، والرّيوع العقارية. جميعها مظاهر أدّت الى إعادة تَموضع الثَّروة في أعلى الهرم، ونتجت منها اختلالات وشروخ في بنية طبقات المجتمع اللبناني.
الفوائد
عُرض منذ التسعينيات معدلات فائدة على سندات الخزينة اللبنانية هي من بين الأعلى في العالم. قيمة هذه الفوائد نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، تفوق بأضعاف ما تمثّله قطاعات كاملة نسبة إلى الناتج. علماً أن هذه الفوائد لا تشمل سائر الفوائد على الحسابات المصرفية الدائنة الأخرى، إذ لو أضيفت قيم الفوائد المحقّقة من الحسابات الدائنة الأخرى، لازدادت نسبة الفوائد من الناتج أكثر.
ومن خلال المضاربة على مديونية الدولة فقط، جنت قلّة من المصارف وأصحاب الأموال من المضاربين العرب والأجانب أرباحاً طائلة. فغرقت الموازنات بما يفوق 80% من عائداتها في مستنقع خدمة الدين، واستهلكت على الدوام ما يزيد نصف نفقاتها لتسديدها. في المقابل، لم يتضمّن الإنفاق مساعدة القطاع الخاص وبناء الإنتاجية أو دعم المنتجات الوطنية وحمايتها.
هذا التضخم في حجم الفوائد، كان له تأثير قاطع على اتجاه الفوارق الطبقية في لبنان ومدى اتساعها منذ التسعينيات وحتى اليوم. وما يعزّز هذا الاستنتاج هو المستوى المرتفع لمعدلات الفوائد التي سادت خلال الأعوام القليلة المنصرمة من جهة، إضافة الى نسق الودائع المتميز أصلاً بقدر كبير من التركّز من جهة ثانية. فالفوائد في نهاية المطاف تذهب الى من يملك رأس المال، وتظهر بوضوح كنسبة كبيرة من إجمالي أصول القطاع المصرفي. ولا تصيب فئات الدخل المحدود بذات النسق، الأمر الذي يجعلها عامل توسيع في الهُوَّة الطبقية بين أفراد المجتمع.

أرباح فاتورة الاستيراد
ثمة استنتاج واضح يمكن التوصل إليه من خلال تتبّع أرباح التجار منذ ما بعد الحرب الأهلية، إنما يصعب تحديدها بشكل دقيق بسبب غياب أرقام المحاسبة الوطنية. لكنّ الواضح، أنه من ذلك الوقت اتسعت حركة الاستيراد وأُغرق الاقتصاد بسلع مستوردة بالعملات الأجنبية. فمع التثبيت النقدي في مطلع التسعينيات، تَحسّن سعر صرف اللّيرة أمام العملات الأجنبية، وغرقت الأسواق اللبنانية بالسلع المستوردة، إنما لم تُظهر أسعار الاستهلاك (بالليرة اللبنانية) أي تَحسّنٍ على غرار تراجع أسعار الصرف الأجنبية (انخفض سعر الدولار مقابل الليرة من 3000 ليرة إلى 1500 ليرة)، كما يُستدل من مؤشّرات الأسعار المختلفة في ذلك الوقت. وهذا الأمر أخفى أرباحاً ضخمة إضافية لأصحاب رأس المال، الأمر الذي يحمل على القول إن الأرباح الرأسمالية قد اتّجهت، على الأرجح، نحو الارتفاع كنسبة من الناتج المحلي، مستفيدة من واقع العلاقة العكسية بين تحسن سعر صرف الليرة الخارجي من جهة وبين تراجع قوتها الشرائية الداخلية من جهة أجرى.

الريع العقاري
ارتبط مفهوم الريع ارتباطاً وثيقاً بالاقتصاد اللبناني. فكان من بين سماته التاريخية أنه منتج ومولّد للريوع. يتغذّى الريع على حساب نموّ الإنتاج، وفرص العمل، ورفع أكلاف الصناعة، وإعاقة التصدير. لكنه في الوقت نفسه، يؤلّف مصدرَ دخل أساسياً لفئات من الطبقة الاقتصادية المسيطرة، ما يسمح له بتحميل المستهلك العادي أعباء التضخم والبطالة والهجرة.

79%

هي حصّة أغنى 10% في لبنان من الثروة الإجماليّة في الاقتصاد في عام 2021، في حين بلغت حصّة أفقر 50% نحو 0.1% من إجمالي الثروة


العقارات والأراضي لا تزال إلى اليوم من بين «السلع» القليلة التي نجحت في تجنّب كامل المفاعيل السلبية لكل أزمة تضخم جامح. نظراً الى أن الزيادات التي طرأت على أسعارها قد تجاوزت عموماً التراجع الذي تسجّله اليوم. ورغم ظهور معالم أزمة عقارية مستفحلة في الآونة الأخيرة بسبب الخلل بين تركيب العرض وتركيب الطلب، ووسط استمرار انحسار الفورات العقارية، فإن الأزمة لا تقلل على نحو جوهري من أهمية المواقع التي لا يزال يحتلها الريع العقاري عموماً على المستوى الاقتصادي، وخصوصاً على مستوى توزيع الدخل وعلى مستوى تكوّن الأسعار في البلد. ويشار إلى أن الريع لا ينحصر فقط في الشق العقاري، بل يتعداه إلى أشكال أخرى من الريوع التي تنتج من المضاربات، ومن الإفادة من الموقع السياسي أو الإداري أو الاقتصادي وتأخذ في الغالب صفة العمولات. فيدور رأس المال في حلقة مفرغة من التوظيفات القصيرة الأجل التي لا تبتغي سوى الريع والربح السريع. ونبقى أمام واقع عملية واضحة لتوزيع عكسي للثروات، كالتي استخدمتها الحكومة اللبنانية عندما وفّرت أموال دافعي الضرائب لتمويل خدمة الدين العام وإدارته من خلال أذونات الخزينة. وأصبحت هذه الأخيرة أحد المصادر الرئيسية لخلق النقود من جانب المصارف التي تستفيد من الحصول على الأموال المضمونة لاستثمارها في قطاعي البناء والعقارات التي تخلق منتجات القروض الرئيسية – قروض الإسكان – بدعم من المصرف لبنان.

تصحيح ضريبي
من هنا تبرز ضرورة الاستعاضة عن النظام الضريبي المُجزّأ في لبنان بنظام الضريبة الموحّد على الدخل من أجل تقليص حدّة الفوارق الطبقيّة المتجذّرة في المجتمع اللبناني. بحيث تُدرج الرواتب والأجور وكلّ الأرباح الرأسمالية وأرباح الأسهم والفوائد والإيرادات التجارية وإيرادات الأملاك في وعاء ضريبي واحد، من شأنه أن يزيد معدلات الضريبة لتصل إلى ما بين 30 و40% على الأقل على أصحاب الدخل المرتفع. ومن بين أهم ما يلحظه النظام الضريبي الموحّد هو إحداث تقارب ودمج بين معدلات إيرادات الضريبة على الرواتب والأجور وسائر الإيرادات على الدخل، فتُصحّح على أساسها معدلات الضرائب على إيرادات الأملاك المبنية ولا سيما الإيجارت، والتي رغم كونها تصاعدية (4% إلى 14%) لكنها أقلّ من معدلات الضريبة المطبّقة على الرواتب والأجور.

ضريبة الثروة تكاد تكون مُلحّة للغاية في ظل ما تشهده البلاد من ارتفاع مستوى عدم المساواة في التوزيع


كذلك ضريبة الدخل على الأرباح، بما فيها الضريبة على مداخيل المهن الحرة، بالكاد تدر على الخزينة ما نسبته 3% من الأرباح وتشكّل ما لا يزيد عن 8% من مجمل الموازنة في أحسن الأحوال، وهي من أخفض النسب عالمياً. في حين تبلغ في الولايات المتحدة ما يقارب الـ30%. وضريبة الثروة تكاد تكون مُلحّة للغاية في ظل ما تشهده البلاد من ارتفاع مستوى عدم المساواة في التوزيع. فثمة مقترحات لفرض ضريبة على الثروة تُدفع لمرة واحدة في إطار برنامج استقرار لحل الأزمة. وفي السياق نفسه، من المفترض فرض ضريبة على الأملاك العينيّة الشاغرة من أجل العمل على استخدامها في نشاطات إنتاجية أسوة بكثير من الدول.