وفق تقديرات البنك الدولي، فإن الناتج المحلي الإجمالي في لبنان انكمش إلى 14 مليار دولار. لا ينظر الكثيرون إلى هذا الرقم بوصفه يعكس القعر الذي بلغه المجتمع والاقتصاد اللبناني بفعل المسار الذي اتبعته السلطة اللبنانية في إدارة الأزمة من خلال التضخّم المتعمّد، بل ربما لم يعره الكثيرون أي أهمية. وباستثناء ما قاله السفير الفرنسي بيار دوكان لرئيس الجمهورية ميشال عون أثناء اجتماعهما الأخير، عن ضرورة إنجاز الاتفاق مع صندوق النقد الدولي قبل انتخابات رئاسة الجمهورية بالاستناد إلى مجموعة أسباب؛ من أبرزها أن الناتج تقلص إلى هذه الحدود الضيّقة جداً، فلم نشهد أي تعليق فعلي رسمي أو شبه رسمي على المراجعة التي قام بها البنك الدولي للمالية العامة في لبنان خلال فترة الجمهورية الثانية بعنوان: «بونزي مالي؟».في الواقع، يقدّر أن الناتج المحلي الإجمالي سيخسر في نهاية 2022 نحو 75%، أو ما قيمته 41 مليار دولار من القيمة التي كان عليها في عام 2018. وفي السياق نفسه، تقلّصت حصّة كل لبناني من الناتج إلى 2300 دولار سنوياً مقارنة مع 9 آلاف دولار في 2018. وهذه الخسارة هي عبارة عن نتيجة مباشرة لمسار إدارة الأزمة القائم على تمويل العجوزات الضخمة المتراكمة في ميزان المدفوعات من خلال تعدّدية أسعار الصرف، والتضخم المتواصل والكبير لكل الأسعار. ولهذا الأمر نتائج مباشرة متّصلة بمعدلات الفقر وتعمّقه وتعدّد أبعاده وبمؤشرات الحرمان كافةً، وهي ليست مؤشرات مرتبطة فقط بأوضاع ظرفية، وإنما ستكون تبعاتها عميقة ويصعب التخلّص منها أو تعديلها من دون استثمارات ضخمة في الموارد البشرية والخبرات من خلال تصحيح كبير في معدلات الأجور، وفي الاستثمار في البنية التحتية.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

هنا يصبح السؤال المطروح: كيف نفعل ذلك؟ المشكلة في الجواب هي أنه لا يمكن فعل أي من ذلك من دون إنهاء مسألة توزيع الخسائر التي تتطلب موازين قوّة جديدة تكون فيها مصالح المجتمع واستمراريته وإنتاجيته أولوية على المصالح التي كانت سائدة في الجمهورية الثانية وربما قبلها أيضاً. وحتى مع الموازين الجديدة، فإن الحسابات لا تتوافق مع القدرات الفعلية. فالبنك الدولي رسم عدداً من السيناريوات في سياق مسألة توزيع الخسائر؛ من ضمنها إعادة هيكلة الدين العام. وتبيّن أنه مهما جرى زيادة الهيركات على سندات اليوروبوندز، وسواء جرت مراعاة المصارف وميزانياتها أو لم يتم الأمر ضمن هذه الصيغة، فإنه يصعب بلوغ نسبة مقبولة من الهيركات تضمن بلوغ المستويات الآمنة في عملية إعادة الهيكلة والأهداف المتوخاة منها. والمستوى المقبول في إطار ما يسمّى «استدامة الدين»، هو أن تنخفض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى ما دون 100%. بمعنى أوضح، يصعب التوصّل إلى إبقاء الدين العام في لبنان أقلّ من الناتج المحلي الإجمالي ضمن فترة متوسطة المدى.
عملياً، يقول البنك الدولي إنه لا يمكن خدمة الدين العام بقيمته الاسمية الكاملة، إذ إن مدفوعات الفائدة ستكون باهظة، وهذا سيناريو مستبعد لأنه غير مستدام. أما إذا أخذ في الحسبان أن هناك سيناريوين متاحين «سيناريو جيّد» و«سيناريو سيئ» للبنان في مفاوضاته حول إعادة هيكلة سندات اليوروبوندز، فإن هيركات بنسبة 50% يمثّل «الجيّد»، وهيركات بنسبة 25% يمثّل «السيئ». اختيار الاستدامة يقتضي دراسة نتائج السيناريوين انطلاقاً من مؤشرين للديون: (1) نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، أي القدرة على تحمّل الديون على المدى المتوسط، و(2) كلفة الفائدة على الإيرادات الحكومية والتي تمثّل الحيّز المالي المتاح للحكومة لإعادة توجيه الموارد الشحيحة نحو قطاعات الاقتصاد الأكثر إنتاجية.
في السيناريو الجيّد، ينخفض معدّل الدين للناتج المحلّي بنسبة 116%، إنما حتى هذا الانخفاض الكبير لا يكفي لاستدامة الدين. إذ تبقى نسبة الدين العام إلى الناتج المحلّي 159%. في المقابل، تنخفض كلفة خدمة الدين إلى إيرادات الدولة بنسبة 220%، لكنها تبقى مرتفعة كثيراً عند 232% من الإيرادات.
يستنتج من ذلك أنه إذا بقيت معدّلات الفائدة مرتفعة، وهو أمر يتعلّق بارتفاع مخاطر البلد، وإذا بقيت مسارب الهدر المالي موجودة في الدولة، فستعود هذه المعدلات إلى الارتفاع بسرعة. وحتى مع خفض معدلات الفائدة بنقطتين مئويتين، وشطب كل سندات اليوروبوندز (سندات دولار) وسندات الخزينة (سندات ليرة) التي يحملها مصرف لبنان، وهيركات على الباقي بنسبة 50%، وحتى لو جرت مراعاة ميزانيات المصارف في إطار الهيركات، فإن «أياً من هذه الإجراءات سيؤدي إلى خفض مستوى الدين العام إلى ما دون 100%». لذا، فإن الإجراءات هذه غير كافية، «والنموّ الاقتصادي يبقى أساسياً».
كلام البنك الدولي لا يلغي ضرورة اللجوء إلى إجراءات من نوع الهيركات، وشطب ديون الأسر، وفرض ضريبة على الثروة، وتصحيح النظام الضريبي بكامله، إنما يشير إلى أن المسار الحالي لتوزيع الخسائر هو مسار تدميري وعبثي لا يمكن أن يحصل في ظلّه نموّ اقتصادي بدليل الخسارة التي تكبّدها الناتج لغاية اليوم، بينما لبنان يحتاج بشدّة إلى هذا النموّ فوق كل هذه الإجراءات حتى يؤمّن استدامة الدين ويتاح له الانطلاق من قعر الأزمة صعوداً.