استندت هيمنة الدولار الأميركي إلى حقيقة أنّ مالكي الثروة في العالم قرروا اعتبار الدولار «بنفس جودة الذهب» كعملة احتياطات عالميّة، وذلك حتى عندما لم يعد يمكن تحويل الدولار إلى الذهب بسعر ثابت، أي بعد سقوط نظام بريتون وودز. وأصحاب الثروات هؤلاء، على نوعين: أفراد ومؤسّسات خاصة، ومصارف مركزية تحتفظ باحتياطات النقد الأجنبي لبلدانها. يستند هذا الاعتبار إلى توقعات بألا ترتفع أسعار السلع والخدمات - التي يتحرّك معها سعر الذهب بشكل متزامن - بشكل غير ملائم مقارنة مع الدولار، أي أن يحافظ الدولار على استقرار أسعار هذه السلع. وبُني هذا الأمر على اعتقاد بأن معدلات الأجور في الولايات المتحدة كانت تحت السيطرة من خلال وجود جيش احتياطي من العمالة غير العاملة. وكان يفترض أن يظلّ سعر أهم مُدخلات الإنتاج، أي النفط نسبة إلى الدولار، مستقراً رغم التقلبات قصيرة الأمد، وذلك بفضل قدرة الولايات المتحدة على فرض «الانضباط» على منتجي النفط.
عوامل إضافية
في حالة المصارف المركزية، كان هناك عامل إضافي. لقد احتفظت هذه المصارف باحتياطاتها من الدولار، لأن الدولار كان أيضاً وسيلة التبادل في جزء كبير من معاملات التجارة الدولية. وهذه المعاملات متعدّدة الأطراف بطبيعتها. أما في التجارة التي تتم من خلال اتفاقات ثنائية، كان بإمكان كل دولة أن تسجّل مطلوباتها على الطرف الآخر بعملة الدولة المقابلة، على أساس التوقّع بأن هذه المطلوبات سيتم شطبها بمرور الوقت من خلال معاملات تجاريّة معاكسة.


بشكل عام، كانت التجارة الثنائيّة لا تحتاج إلى عملة محايدة، على افتراض أنه مستقبلاً سيكون هناك تعادل تجاري في الاتجاهين. لكن في الاتفاقات التجارية متعدّدة الأطراف، حيث لا يوجد نطاق بسيط لمثل هذا التناسب التجاري بين الدول، لا بد من وجود عملة مشتركة للاحتفاظ بالاحتياطيات. وهذه الاحتياطات يجب أن تكون بعملة لا يُتوقع أن تنخفض قيمتها مقارنة مع السلع بشكل غير ملائم، أي بمعدل انخفاض أكبر من أكلاف الاحتفاظ بهذه السلع. لأنه إذا كان معدّل انخفاض قيمة العملة أكبر من تكاليف الاحتفاظ بالسّلع، سيكون الاحتفاظ بالسلع بدلاً من العملة أقل كلفة على الدول. لذلك، وقع الاختيار على الدولار للقيام بهذا الدور.
كان هذا الواقع في طور التغيّر عملياً، لكن فرض العقوبات على روسيا عقب بداية الحرب مع أوكرانيا أدّى إلى تسريع وتيرة هذا التغيير. فقد أدّت العقوبات إلى ارتفاع حادّ في أسعار النفط والغاز الطبيعي، علماً بأن روسيا مصدّر رئيسي لهما. إنما لم ينجم هذا الارتفاع من نقص فعلي في السلع، بل كان نتيجة نشاط المضاربات التي خلقتها توقعات السوق بارتفاع الأسعار بعدما فرضت الولايات المتحدة حظراً على شراء هذه السلع من روسيا. بالنتيجة، زادت هوامش ربح شركات النفط الأميركية بشكل كبير، ما ساهم في الارتفاع الحاد في معدلات التضخّم. باختصار، تم قطع الارتباط الضمني بين النفط والدولار، ما وضع الدولار تحت الضغط. في المقابل، منذ أن تم تثبيت سعر النفط مقارنة مع الروبل، ظهر الروبل كعملة مفضلة «بنفس جودة النفط»، وهي في طريقها لأن تصبح «بنفس جودة الذهب».
وقد تعزز الطلب على الروبل أكثر بسبب إصرار روسيا على أنها لن تبيع النفط والغاز الطبيعي إلا للمشترين الذين يدفعون ثمنها بعملتها المحليّة. وبالتالي، فإن امتلاك الدولارات لا فائدة منه في الحصول على النفط والغاز الروسييْن، ما جعل المشترين المحتملين يندفعون للحصول على الروبل بدلاً من الدولار.
رغم أهمية هذين العاملين، إلا أنهما لا يمثّلان كل الحكاية. فيتم اليوم إحياء ترتيبات تجاريّة ثنائية مع روسيا من قبل عدّة دول بما فيها الهند. كانت مثل هذه الترتيبات التجاريّة موجودة في السابق، في أيّام الاتحاد السوفياتي، ولم تنته إلا بسبب انهيار الاتحاد. بموجب هذه الترتيبات، لم يكن الدولار الأميركي مهماً لمواصلة التجارة بين البلدان المعنيّة. كان هناك سعر صرف معين متفق عليه بين عملات البلدان، وكانت المطلوبات الماليّة الناشئة بسبب الفوائض التجارية، تُسجّل بعملة البلد الذي يمتلك عجزاً تجارياً. هذه الفوائض التجارية كانت تشبه «الاحتياطات» اليوم. لذا، يمكن القول إن انتشار الثنائية التجاريّة هو في الوقت نفسه وسيلة لتنويع الاحتياطات بعيداً عن الدولار.
كل هذه الأسباب ترفع الطلب على الروبل مقارنة بالدولار. وبالتالي ليس مستغرباً أن يكون سعر صرف الروبل الذي هبط بشدّة بعد إعلان العقوبات، قد انتعش الآن إلى مستوى غير مسبوق منذ سنوات. في آب 2021، كان سعر الصرف نحو 72 روبلاً مقابل الدولار، وبعد إعلان العقوبات ارتفع إلى 136 روبلاً للدولار. لاحقاً ارتفع الروبل بشكل حادّ ليبلغ معدله في 11 آب 2022 نحو 61 روبلاً للدولار. خلال فترة الـ 12 شهراً الماضية، من أغسطس 2021 إلى أغسطس 2022، ارتفعت قيمة الروبل مقابل الدولار بأكثر من 22%.

نحو الثنائيّة
بعبارة أخرى، تبين أن العقوبات ضد روسيا هي «هدف عكسي»، ليس فقط في مرمى الاتحاد الأوروبي الذي ترنّح تحت انعكاساتها، ولكن حتى في مرمى الولايات المتحدة. والأهم من ذلك، أن هذه العقوبات عجّلت في الابتعاد عن الاتفاقات متعددة الأطراف ونحو زيادة الاتفاقات الثنائية.
هذه الخطوة تعني أيضاً انتكاسة شديدة للنظام النيوليبرالي. وكان في جوهر هذا النظام فرض الترتيبات متعدّدة الأطراف. في الواقع، ما كان فرض الاتفاقات متعدّدة الأطراف، إلا تأكيد هيمنة الإمبريالية الغربية بقيادة الولايات المتحدة، والتي عُبّر عنها من خلال تفوق عملتها التي سعى النظام النيوليبرالي إلى التمسك بها.
السبب وراء تحوّل العقوبات ضدّ روسيا إلى «هدف عكسي» في مرمى الغرب، هو أنها ارتكزت على سوء تقدير. كان الاعتقاد بأن العقوبات ستُركّع روسيا بسرعة كبيرة، بحيث ينتهي عملها العسكري في أوكرانيا في وقت قصير. حتى إنه كان هناك حديث عن تغيير النظام في روسيا. لكن كل هذا لم يكن واقعياً على الإطلاق. فالعقوبات بطبيعتها تمثّل انتهاكاً للاتفاقات متعدّدة الأطراف لأنها تستبعد البلاد خارج هذه الاتفاقات. لطالما كان أمل القوى الغربية أن يبقى انتهاك تعدّدية الأطراف محصوراً بحالات معينة فقط، وأن ينتهي سريعاً. ولكن إذا تبين أن هذا الافتراض خاطئ، فإن مثل هذا الانتهاك للتعدّدية يصبح عدوى، فهو يتكاثر أكثر وأكثر، ويهدّد النظام العالمي بأكمله. سيكون من السابق لأوانه الاستنتاج بأن تراجع الدولار قد وصل إلى مرحلة نهائية. بالنسبة إلى أصحاب الثروات في العالم، الذين يتألّفون من أفراد ومؤسسات، يظلّ الدولار حتى الآن العملة الأكثر جاذبية بأشواط. في الواقع، مع ارتفاع أسعار الفائدة الأميركية استجابةً للتضخّم الحالي، فإن التمويل الذي تدفّق إلى العالم الثالث عندما كانت أسعار الفائدة الأميركية قريبة من الصفر، بدأ يتدفق عائداً إلى أميركا مرّة أخرى. والنتيجة هي انخفاض قيمة عملات العالم الثالث، بما في ذلك الروبية الهندي، مقابل الدولار. هذا التدفق ليس فقط بسبب حركة أسعار الفائدة التي جعلت الدولار جذاباً، فقد قامت دول العالم الثالث برفع أسعار الفائدة استجابة لارتفاع أسعار الفائدة الأميركية. لكن هذا لم يمنع تدفق رأس المال، لأنه في العالم المجهول الذي ندخله، يشعر رأس المال بالراحة أكثر في قاعدته الأصلية، وهي الولايات المتحدة. بالنظر إلى هذا الواقع، فإن كتابة نعي هيمنة الدولار اعتباراً من الآن سيكون سابقاً لأوانه وسخيفاً تماماً.
السبب وراء تحوّل العقوبات ضدّ روسيا إلى «هدف عكسي» في مرمى الغرب، هو أنها ارتكزت على سوء تقدير


بعبارة أخرى، هناك اتجاهان مختلفان في هذا الصدد في الاقتصاد العالمي المعاصر: الأول هو هروب رؤوس الأموال من العالم الثالث إلى الولايات المتحدة بينما ترفع أسعار الفائدة لمكافحة التضخم؛ والآخر هو الانتشار التدريجي للاتفاقات الثنائية التي تساهم باستبدال احتياطات الدولار باحتياطات بعملات أخرى (خصوصاً بالروبل في السياق الحالي) وبالتالي تقوّض إلى حد ما وضع الدولار في النظام العالمي. يعمل هذان الاتجاهان عكس بعضهما فيما يتعلق بقيمة الدولار. لكن الاتجاه الأخير، أي تزايد الاتفاقات الثنائيّة، لا يزال أقل أهمية مقارنة بالأول، على الرغم من أنه نذير لأشياء قادمة. ومع ذلك، تظل الحقيقة أن النظام النيوليبرالي الذي احتفل بتعددية الأطراف وفرضها في جميع أنحاء العالم يقترب من نهايته.

* نُشر هذا المقال على موقع Peoplesdemocracy.in في 23 آب 2022