خلال العقود الماضية، كان القطاع الصحي في لبنان من القطاعات «الناجحة» لجهة تنوّع الخدمات التخصّصية وجودتها العالية. جزء أساسي من هذا النجاح كان مموّلاً من الخزينة العامة. فمن أصل فاتورة صحية إجمالية تُقدّر بنحو 4 مليارات دولار، كانت الخزينة تسدّد سنوياً نحو مليار دولار بشكل مباشر، ومبالغ أخرى بطرق التفافية. في قانون موازنة 2019 بلغت قيمة مخصّصات الصحة والاستشفاء نحو 1500 مليار ليرة (مليار دولار في ذلك الوقت)، وفي مشروع موازنة 2022 بلغت قيمة هذه المخصّصات نحو 2800 مليار ليرة (الدولار الصحي بحسب نقابة المستشفيات يساوي 70% من دولار السوق، أي ما يوازي بأسعار اليوم 26,600 ليرة، وهذا يعني أن قيمة هذه المخصّصات لا تتجاوز 105 ملايين دولار).
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

هذا الأمر كافٍ وحده للدلالة على مفاعيل الانهيار. لكن يمكن رسم صورة أكثر دقّة للوضع الناشئ في القطاع الصحي بعد انهيار قيمة العملة، والانكماش الاقتصادي. فقد سجّلت أسعار الصحة بحسب أرقام الإحصاء المركزي اللبناني، ارتفاعاً منذ بداية عام 2019 ولغاية تموز الماضي بنسبة 1110%. ويشير البنك الدولي إلى أن تضخم الأسعار ليس فقط مصدره انهيار قيمة العملة مقابل الدولار، بل إن الأمر يعود أيضاً إلى ارتفاع كلفة النقل التي تشمل نقل المستلزمات الطبية والأدوية ونقل العاملين في القطاع الصحي أيضاً. وانعكس الأمر سلباً على توافر السلع اللازمة لتقديم الخدمات الصحية، سواء مستلزمات طبية أو أدوية في ظل عدم رغبة الدولة في الاستمرار بدعم أسعار هذه المستلزمات والأدوية. ويضاف إلى ذلك مسألة حيوية أيضاً، هي النقص في العاملين في القطاع الصحي. وفق تقديرات منظمة الصحة العالمية التي ترد في تقرير مراجعة المالية العامة الصادر عن البنك الدولي أخيراً، فإن النقص في العاملين في القطاع يُراوح ما بين 30% و40% بسبب هجرة هؤلاء بشكل دائم أو مؤقّت.
بنتيجة هذا الوضع، لم يعد سهلاً على أيّ مقيم في لبنان الحصول على الخدمة الطبية اللازمة، سواء كانت زيارة إلى الطبيب أو شراء الأدوية أو الحصول على خدمات استشفائية. كل هذه الخدمات التي كانت مموّلة بشكل أساسي من أحد الصناديق الصحية الضامنة (ضمان اجتماعي، صناديق عسكرية وجيش، صناديق تعاضد، تعاونية موظفي الدولة، وزارة الصحة...)، لم تعد متوافرة بسبب انهيار التمويل من الخزينة، وبالتالي فإن ما يُدفع من جيوب الأسر صار هو أساس الحصول على الخدمة أو الدواء. ففي السابق، كان ما نسبته 55.6% من المقيمين في لبنان يتمتعون بنوع من أنواع التغطية الصحيّة ومن بينهم 45.5% مشمولون بتغطية الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، و20.1% تغطي خدماتهم الصحية صناديق المؤسّسات العسكرية، و11.5% تحت تغطية مؤسسات الأمم المتحدة، فيما 5.9% تحت تغطية تعاونية موظفي الدولة، و15.3% كانوا يحصلون على خدماتهم الصحية تحت مظلة شركات التأمين الخاصّة. أما الذين كانوا لا يتمتعون بتغطية صحيّة، فكانت وزارة الصحّة العامة تتكفّل بتمويل استشفائهم، إما في المستشفيات الرسمية أو في المستشفيات الخاصة، كملاذ أخير.
بشكل أوضح، كانت الكلفة الإضافية التي تُسدّد من جيوب الأسر للحصول على التغطية الصحية على مسار تصاعدي، إذ ارتفعت حصّة الفرد من تمويل الفاتورة الصحية، من 190 دولاراً في عام 2015 إلى 230 دولاراً في عام 2018، ويُقدّر أن الأفراد والأسر يموّلون من جيوبهم أكثر من 90% من فاتورة الصحة. فإذا كانت الفاتورة تساوي 4 مليارات دولار، فإن حصّة الفرد من تمويل هذه الفاتورة لا تقل عن 500 دولار. وبأسعار اليوم تساوي هذه الكلفة نحو 19 مليون ليرة، أو ما يساوي 9.5 مرات الحدّ الأدنى الرسمي للأجور البالغ 2 مليون ليرة.
إذاً، خسر أكثر من 1.92 مليون فرد مقيم في لبنان، النسبة الكبرى من التغطية الصحية التي كانوا يحصلون عليها من تمويل الخزينة، لكنّ المشكلة أن هذه الخسارة لم تصبح نهائية بعد، بل هي عدّاد متواصل في ظل غياب أي معالجة للمسألة. فالحدّ الأدنى المطلوب لتقديم الخدمات الصحية الأساسية، يبلغ 200 مليون دولار وفق تقديرات البنك الدولي، إنما مشروع الموازنة لم يصل إلى نصف هذا المبلغ بعد.
عملياً، أصبح معظم المقيمين في لبنان مكشوفين صحيّاً. والقطاع يواجه نقصاً في الأطباء والممرضين، ما أسهم في انخفاض نوعيّة الخدمة، إذ يُتوقع أن يسجّل ذلك تراجعاً في الكثير من المؤشرات الطبية، مثل العمر المتوقّع عند الولادة، موت الأطفال الحديثي الولادة... لكنّ القلق أيضاً هو أن يؤدي الأمر إلى نهاية المستشفيات الحكومية ومراكز الرعاية الأولية، إذ ستكون نسبة وصول الأسر إلى الخدمة الطبية، في ظل التغطية الصحية الشاملة، ضعيفة إلى أقصى حدود.