في 15 أيلول صدرت الموازنة النصف شهرية لمصرف لبنان وفيها أن الأصول الأجنبية باتت تبلغ 14.6 مليار دولار من ضمنها سندات يوروبوندز بقيمة 5.03 مليار دولار، ومن ضمنها أيضاً مبلغاً غير محدد هو ما تبقى من حقوق السحب الخاصة التي كانت تبلغ 1.1 مليار دولار علماً بأن هناك القرارات الحكومية المعلنة قضت بإنفاق 269 مليون دولار منها. بهذه الحسبة، فإن السيولة الأجنبية المتوافرة لدى مصرف لبنان هي أقل من 8.7 مليار دولار. ومن هذا الحساب ينفق مصرف لبنان على هواه بمعدّل 400 مليون دولار شهرياً. رغم ذلك، ثمة سردية شائعة بأن هذه الأموال تعود للمودعين باعتبارها جزءاً من الأموال التي أودعوها لدى المصارف وهذه الأخيرة أودعتها لدى مصرف لبنان. وبمعزل عن الوضع القانوني لهذه الأموال المنصوص عنه في قانون النقد والتسليف، يُبنى على هذه السردية كلاماً يُردّد كثيراً بين السياسيين والقانونيين والإعلاميين، عن أن حصول أي من المودعين، سواء أولئك الذين يقاضون المصارف في الخارج، أو الذين يستوفون ودائعهم بقوّتهم الذاتية «يأكلون من حصّة مودعين آخرين».وبالاستناد إلى هذه السردية، إذا أردنا توزيع ما تبقى من سيولة أجنبية لدى مصرف لبنان على المودعين، فإنه حصّة كل دولار مودع من المصارف قد تبلغ 9.1 سنت، أما إذا جرى توزيع الـ8.7 مليار على المودعين وفق حجم الوديعة، فقد يحصل عدد محدود من المودعين الكبار على المبلغ كاملاً قبل أي مودع آخر.
هذه الحسبة قد تقنع أصحاب الودائع أن لا أموال لدى النظام المصرفي ليعيدها إليهم، وأن ما يقوله رُعاة هذا النظام عن إعادة أموال المودعين هو مجرّد كذبة لإخفاء خوفهم من المصارحة العلنية بذلك. حتى الآن، لم يتجرأ أي من أبناء هذه السلطة على الإقرار بأن الأموال تبخّرت، وأن إعادتها بذات قيمتها أمر شبه مستحيل، وأن اقتصاد لبنان ليس قادراً على تغطيتها لأنه انحدر إلى الحضيض متراجعاً بحجمه من 55 مليار دولار إلى 14 مليار دولار، أي أن الودائع العالقة في سجلّات الحسابات المصرفية كانت تفوق 300% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما هي اليوم اليوم تفوق 350% (احتُسبت الودائع على أساس سعر الصرف المعتمد من قبل مصرف لبنان والبالغ 8000 ليرة لكل دولار، ثم اعتمد البنك الدولي سعر الصرف البالغ 38 ألف ليرة فحدّد الناتج بقيمة 14 مليار دولار). هذه النسب تعني أنه يستحيل على الاقتصاد ردّ ما يفوق قيمته ثلاثة أضعاف، علماً بأن هذه النسبة كانت في السابق أحد مؤشرات التشوّه في الاقتصاد. وبعبارة أوضح، فإنه سيكون كارثياً على الاقتصاد استيعاب وهضم كل هذا العبء النقدي خلال فترة قصيرة أو متوسطة أو حتى طويلة المدى.
في الواقع، لا يعلم غالبية المودعين هذه التفاصيل، إنما لديهم إدراك جماعي بأن هناك خسارة ما لحقت بالودائع. مصدر هذه القناعة هو السلوك المصرفي معهم، سواء في القيود غير الشرعية والاستنسابية التي مارستها المصارف اعتباراً من مطلع 2019، والانخفاض المتواصل في قيمة الليرة تجاه الدولار، وإصدار مصرف لبنان عدداً من التعاميم التي تشرّع تعدّدية أسعار الصرف ومنها سعر صرف محدّد للوديعة، وتعدّد خطط التعافي التي يُدرج فيها الهيركات على الودائع بشكل مباشر وغير مباشر، وامتناع السلطة عن إدارة الأزمة وتلزيم إدارة الأزمة لحاكم مصرف لبنان... ولعلّ الناس يشعرون بأن إدارة الأزمة على يد الحاكم وبتفويض من القوى السياسية، تفرض عليهم الكثير مما ليس لديهم خيار في قبوله أو رفضه. فمن ارتضى بخسارة جزء من وديعته أو قرّر الحدّ من الخسارة فيها لم يكن لديه أي أداة لذلك سوى بيعها في السوق بواسطة شيك، ومن قرّر المغامرة بوديعته استناداً إلى أجره، سرعان ما اكتشف أن تضخّم الأسعار وانفلات سعر الصرف قضم قسماً هائلاً من قيمة أجره. وفي الوقت نفسه، وبفعل إدارة الأزمة هذه، جرى خلق سوق شرعية وشبه منظّمة لتجارة الشيكات وعمليات الصرافة. برغبتهم أو خارج عنها، لم يجد الكثيرون خيارات سوى الانخراط بهذه السوق. النظام المصرفي لم يترك لهم أي خيار خارج السوق الجديدة التي خلقها في سياق عملية إدارة الأزمة، لا بل أجبر الكثيرين على الانخراط فيها غصباً عنهم بعدما قضى على مدخراتهم وعلى أجورهم.
الخيارات الأخرى المتاحة، هي الهجرة أو اقتحام المصارف لاسترداد الوديعة. ففي ظل سياسة قضم الأجور والمدّخرات، يجد الكثيرون صعوبة في تلبية حاجاتهم الأساسية من غذاء وسكن وطبابة وتنقل وتعليم... أسعار هذه السلع والخدمات تضخّمت بشكل هائل يفوق 1100% فيما الأجور لم تُصحح رسمياً لغاية الآن بأكثر من 100%.
إذاً يمكن استرداد الودائع بالاقتحام. هو الفعل الذي يدفع النظام المصرفي الناس في اتجاهه. المواصفات المطلوبة لأي مقتحم مصرف هو أن يكون متضرراً من هذا النظام بأجوره أو مدخراته، وأن يكون لديه شخصية قادرة على التعامل مع هذه المواقف سواء باهتمام بالغ بالتبعات، أي أنه سيقتحم المصرف لاسترداد وديعته لأنه يخشى من تبعات المرض على عائلته مثلاً، أو من دون أي اهتمام بالتبعات المتّصلة بالقبض عليه أو اتهامه بالسطو على مصرف. فهو لم يعد يحاجج النظام المصرفي حول سرقة وديعته، بل يحاجج بأنه يستوفي حقّة بيده لأنه مضطر ومجبور على تغطية حاجات أساسية أخرى له ولعائلته أكثر أهمية من القانون. إنها غريزة البقاء.
عند هذه النقطة تصبح مسألة «من السارق؟» من وجهة نظر القانون هامشية. فالأفراد المتمرّدون الذين يرفضون الخضوع للسلوك الذي يمليه عليهم نظام إدارة الأزمة - النظام المصرفي، هو ليس إعلان فوضى، بل هو نتيجة للفوضى التي رسمها هذا النظام خلال فترة انحلاله. مقتحمو المصارف ليسوا مجرّد أدوات كما تم تصويرهم قبل أسبوع عندما بدؤوا يقتحمون المصارف بالجملة، بل هم ضحايا هذه الإدارة - النظام الذين أمعن في سرقة أبنائه وبشكل ما هذه الإدارة تحثّ المودعين على أن «اقتحموا المصارف» لأن الاقتحام يعفي هذا النظام من عبء سداد الوديعة.