ليس صحيحاً أنّ الإصلاح في لبنان يصطدم فقط بالفساد والتباين السياسي والحمايات وغيرها من الحجج التي يسوّقها الزعماء ضدّ بعضهم البعض لتبرير فشلهم وعجزهم أمام جمهورهم. الإشكاليات الحقيقية التي تمنع الإصلاح هي مسائل لا يتنازع بشأنها الأفرقاء السياسيون، بل قلّما يأتون على ذكرها في خطاباتهم. في الواقع، كانت المشاريع الإصلاحية الجدية التي تهدِّد عن حقّ بنية النظام أو تفتح كوة في جداره، تصطدم غالباً بشبكة من المصالح المالية التي تقف في وجه أي ضرائب تطال أرباحها أو تمسّ امتيازاتها. تتلطّى هذه الشبكة المالية برداء طائفي، وتدّعي نفاقاً أن المسّ بها يهدّد حقوق الطوائف.
نمط سلوكي
تظهر مداولات مجلس النواب أثناء مناقشات مشاريع الموازنة العامة في السنوات الماضية، ومن ضمنها موازنة 2022، بوضوح كيف تصب النقاشات دائماً في اتجاه تقديم الإعفاءات والتسهيلات الضريبية لأصحاب المصالح الكبرى والشركات العقارية والمصرفية والمتعدّين على الأملاك البحرية والعامة، بذريعة تحفيز الاستثمار ودعم القطاع الخاص. في المقابل، لم يكن الاستياء العام من هذه الموازنات يترافق مع المطالبة بالعدالة الضريبية وفرض الضرائب حيث يجب، بل كانت التحركات الشعبية تكتفي برفض الزيادات الضريبية بشكل عام.
في عام 2012، وعد علي حسن خليل حين كان وزيراً للصحة اللبنانيين، في مقابلة مع جريدة الأخبار أنه "سيطبّق مشروع الضمان الصحي الشامل لجميع اللبنانيين قبل نهاية العام". قالها بلغته المعهودة الواثقة والجادة والحاسمة، معلناً أنه سيموّل المشروع من الضرائب على أرباح المصارف والقطاع العقاري. لكن قبل شهر من هذا الوعد، كان علي حسن خليل يصوّت ضد مشروع تصحيح الأجور وضمنه التغطية الصحية الشاملة الممولة من الضرائب على أرباح القطاعات الريعية، الذي قدّمه شربل نحاس، وزير العمل حينها، بذريعة أن المشروع يتجاهل دوره كوزير للصحة ويتعدّى على "حصتنا في الدولة". عباراته أثلجت صدور أعضاء جمعية المصارف. وهكذا زادت الأصفار في حسابات حفنة من الأشخاص بحجّة حقوق الطائفة. يا للصدف. ولما كان المشروع يحمل لأول مرّة، مفهوم الأجر الاجتماعي، تكتّلت في وجهه أيضاً شبكة من المصالح المالية من الهيئات الاقتصادية وأصحاب المستشفيات ووكالات استيراد الأدوية، وصولاً إلى أصحاب العمل الذين كان يفترض بهم تأييد المشروع لأنه يعفي مؤسّساتهم الخاصة من الرسوم والاشتراكات. لكن لا غرابة، فالعديد من هذه المؤسّسات لا تدفع رسومها أصلاً ولم تكن تصرّح عن موظفيها في الضمان الاجتماعي. هذا هو قطاعنا الخاص الذي نقوم بتحفيزه.
وفي تموز 2020، بعد أشهر على انفجار الأزمة، حضر رئيس جمعية المصارف سليم صفير جلسة لمجلس الوزراء. يومها سأله أحد الصحافيين عن سبب حضوره، فاستهزأ قائلاً: "عازميني على كاس ويسكي". استهزاء صفير يختصر النمط السلوكي للطبقة المالية في لبنان، والتي لا تُخفي أنها الحاكم الفعلي وتقوم بما يحلو لها من دون رادع. ثم جاءت فضيحة لجنة مناقشة الخطة الاقتصادية والمالية برئاسة إبراهيم كنعان، وتطيير الخطة التي تفرض على المصارف دفع 20 مليار دولار كجزء من توزيع الخسائر. كانت كل القوى السياسية من أقصاها إلى أقصاها ممثلة في اللجنة ولم يعترض أحد.
تكرر الأمر في شباط 2022، عند إقرار قانون المنافسة الرامي إلى إلغاء الوكالات الحصرية (لم يحصل ذلك إلا تملقاً لصندوق النقد الدولي). حينها تمكن أصحاب الوكالات من تفخيخ القانون بعبارات تجعل القانون نافلاً. أصحاب الوكالات الحصرية معظمهم من المسيحيين، لكن عددهم يقل عن 300 شخص، بحسب "الدولية للمعلومات"، مع ذلك. يُعدّ المسّ بهم تعدّياً على حقوق المسيحيين جميعاً. أما من انبرى خلال جلسات المناقشة، للدفاع عن الوكالات الحصرية، كان الوزير السابق محمد شقير. ما الغرابة؟ شقير مشهود له بحرصه الدائم على حقوق المسيحيين.

سردية اللامساواة
هناك مجموعة من المقدّسات والمسلّمات في البلد تحمل رداءً طائفياً. وبحجتها، تواصل حفنة صغيرة من الأشخاص مراكمة ثروات طائلة. من هذه المسلّمات "لازمة" الاقتصاد الحر. استمرّت هذه اللازمة حتى بعد الانهيار. فبتنا نسمع بضرورة إجراء الإصلاحات لكن من دون المسّ بالاقتصاد الحر. وكأن الذي انهار لا علاقة له بهذه السردية الكاذبة. تريد هذه السردية أن توحي بأن نظامنا الاقتصادي عصري ومتقدِّم، فتتغنى بحرية حركة رأس المال والحرية التجارية والمبادرة الفردية، لا كخيارات اقتصادية، بل كحتميات تاريخية تتعلق بميزة لبنان واستثنائيته. على مدى سنوات، منذ ميشال شيحا مروراً بالمارونية السياسية والحريرية، روّجت لهذه اللازمة قنوات إعلامية، وبخاصة جريدة النهار والنخب الثقافية والفنية والإعلامية وشخصيات نافذة ومؤثرة، واقتصاديون وصناعيون اعتلوا المنابر، برز منهم في السنوات الأخيرة نقولا الشماس ("أبو رخوصة")، ونعمت افرام، ومحمد شقير، وفادي عبود، وغيرهم.
تقوم هذه السردية على تهشيم كل ما يتعلق بالقطاع العام وإلصاق أبشع النعوت به ولا سيما "غياب الحوكمة" - آفة الآفات وأفظع الشرور - كأنها مسلّمة من مسلّمات هذا القطاع. صحيح أن قطاعنا العام ينخره الفساد والمحاصصة وغياب الكفاءة، لكن الوصف لا يأتي بدافع الحرص على تحسين القطاع العام إلا في معرض تعظيم أهمية القطاع الخاص بوصفه عنواناً للشفافية والفعالية. مقابلة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، قبل أيام، خير مثال على ذلك، إذ قال: "إن المشكلة هي في القطاع العام الذي يخلق الثقل على الاقتصاد". ترسّخت هذه النظرة في المجتمع لدرجة أنها لم تتغير حتى بعد انكشاف هشاشة القطاع الخاص في الأزمات مثل أزمة كورونا، وحتى بعدما قامت المصارف اللبنانية، وهي قطاع خاص، بإحدى أكبر عمليات الاحتيال المالي في العالم، وحتى مع إيواء أحد أكبر المطلوبين الدوليين الفارين من العدالة، وهو من رواد القطاع الخاص والحوكمة الرشيدة، كارلوس غصن.
أظهرت دراسة شهيرة قام بها علماء نفس في بيركلي في كاليفورنيا أن احتمال ارتكاب الفرد للسرقة أعلى لدى الأثرياء، مع ذلك، لا يزال مجتمعنا يحيط أصحاب ربطات العنق والثروات بهالة من الاحترام، ولا تتأثر مكانتهم حتى بعد انكشاف سرقاتهم للمال العام والخاص. كارلوس غصن، المطلوب من الإنتربول، يدير برنامجاً تدريبياً في جامعة الروح القدس الكسليك ويحاضر بأفضل الممارسات في إدارة الجودة. ورئيس مجلس إدارة بنك الموارد، مروان خير الدين الذي فرّط، إلى جانب كل المصرفيين، بأموال المودعين، هو أستاذ يحاضر بالاقتصاد في الجامعة الأميركية.
في الحقيقة، فيما كان ينظم الشعر والزجل عن وجه لبنان الاقتصادي المنفتح وضرورة تشجيع الاستثمار ودعم القطاع الخاص، كان يترسخ في لبنان نظام اقتصادي متخلّف ونموذج متوحش من النيوليبرالية. كانت السريّة المصرفية جنّة للتهرب الضريبي، كما كانت الإعفاءات للشركات وشطب الغرامات المتراكمة عليها بالملايين أمراً روتينياً تمر مرور الكرام في مجلس الوزراء. كذلك، مرّ ذات يوم قانون خاص يعفي ورثة الرئيس رفيق الحريري من دفع ضريبة الإرث للدولة.
العديد من المؤشرات الاقتصادية، حتى ما قبل الانهيار، كانت تضع اقتصاد لبنان في أسفل الترتيب العالمي. الهوّة بين الفئات الاجتماعية، وتركّز الثروة فيه، بلغت مستوى يضع لبنان بين اقتصادات العالم الأكثر انعداماً للمساواة. النظام الضريبي في لبنان يُعدّ متخلفاً مقارنة بالبلدان النامية. فبدلاً من الضريبة التصاعدية، وهي أكثر تقدّمية، يفرض لبنان أنظمة ضريبية تنازلية تستهدف بشكل خاص الطبقات الفقيرة والمتوسطة. فعلى سبيل المثال، لا يعتمد لبنان ضريبة الدخل الموحدة، أي ضريبة واحدة على جميع مصادر الدخل والأرباح للأفراد، بل يجزئ هذه الضريبة لتكون الضريبة على الأرباح منفصلة عن ضريبة الدخل، وهو أمر ملائم لطبقة الأثرياء. الموازنة الأخيرة، خلافاً لأي منطق، ولكن عملاً بمبدأ اللاعدالة الضريبية المتبع، أضافت انحيازاً جديداً لصالح أصحاب الأرصدة والدخل بالدولار الفريش، مقابل أصحاب الأرصدة والدخل بالليرة اللبنانية. كذلك يقوم هذا النظام الضريبي على فرض ضرائب متدنية على الشركات بذريعة تشجيع الاستثمار من دون تحديد نوع القطاع الاستثماري الذي نشجّعه. بذات الروحية، تطال الضرائب على الاستهلاك وضريبة القيمة المضافة والضريبة الجمركية موادّ أساسية، فيما تطال الإعفاءات الضريبية عدداً من الكماليات. مثلاً، تحت ذريعة تشجيع السياحة وجذب الاستثمار، يُعفى أصحاب اليخوت من دفع الضريبة الجمركية كلما زاد طول اليخت. الأسوأ، أنه في نهاية الأمر، لم تكن هذه الإيرادات من الضرائب تذهب إلى تحسين الخدمات والبنية التحتية والصالح العام، بل كان معظمها يذهب إلى خدمة الدين العام، أي فوائد لكبار المودعين وأصحاب المصارف. بذلك، قام النظام الضريبي بإعادة توزيع عكسية للثروة من الفقراء إلى الأغنياء.

إعادة توزيع عكسية
كل هذه المآسي لم تغير النظرة الرومانسية لنظامنا الاقتصادي الحالي. لا بل إن الفشل في إحداث تغيير جذري رغم حجم الانهيار، يعود بأحد وجوهه إلى غياب هذه المسلّمات عن النقاش العام وغياب الغضب الشعبي تجاهها. النائبة بولا يعقوبيان سخرت مرّة، من مطلب فرض الضريبة على الشقق الفارغة، وهي ضريبة معتمدة في العديد من الاقتصادات المتقدّمة (ألغت لجنة المال والموازنة هذه الضريبة في الموازنة الجديدة). يتندّر بعض اللبنانيين بوضع بلادنا وسوء الخدمات أو غيابها فيه مقارنة بدول غربية أرست حقوقاً وخدمات مجانية ذات جودة لمواطنيها، لكن إزاء النظام الضريبي المتخلّف ينقلبون إلى مدافعين شرسين عن وجه لبنان الاقتصادي وتميّزه في المنطقة. يتغنّون بالتغطية الصحية في بلدان أوروبية، ثم يروّجون لتقليص القطاع العام في لبنان كأن التغطية الصحية المجانية في تلك البلدان تأتي من القطاع الخاص. حجم القطاع العام في فرنسا التي يحاضر مسؤولوها فينا عن ضرورة إشراك القطاع الخاص، هو من بين الأكبر في العالم. وعبارة القطاع الخاص في لبنان لا تعني فعلاً كل من لا يعمل في القطاع العام، بل هي تورية لحفنة من الأثرياء وأصحاب النفوذ. كذلك، فإن عبارة الاقتصاد الحرّ هي غطاء لحرية نقل الأموال غير الشرعية والتهرب الضريبي والاحتكار.
هناك من يحمّل الناس المسؤولية عن مصائبهم لأنهم يعيدون انتخاب الطقم السياسي ذاته أو لأنهم يرتضون التذلل للزعيم لتحصيل مكاسب. لكن الزبائنيّة في لبنان ليست مجرد امتيازات يحصل عليها مقربون من الزعيم وموالون له، كالوظائف العامة مثلاً، بل تعتمد بعض الأسر على هذه الزبائنية لتأمين حقوق أساسية مثل الاستشفاء والتعليم. في ظل هذا الوضع، ومع غياب برامج الحماية الاجتماعية، لا تعود الزبائنية خياراً بل تصبح نظام الحماية الوحيد للبعض. محاربة الزبائنية لا تكون بضرب القطاع العام بل بإرساء مفهوم الحقوق وتأمينها لجميع المقيمين، كي لا تبقى أداة بيد الزعماء لشراء الولاء السياسي. لكن ما هو مرعب في لبنان ليس مجرد أن موالياً للسلطة يحظى بتغطية صحية على حساب وزارة الصحة من دون استحقاق بل أن نظام الزبائنية يموّل أيضاً من جيوب الفقراء أنفسهم.
يدّعي الزعماء أنهم يدافعون عن الفقراء لكن لا نسمع في خطاباتهم المطالبة بنظام ضريبي يُعيد توزيع الثروة بشكل عادل


نظام لبنان الاقتصادي رجعي وبالٍ فضلاً عن أنه ظالم. لكن لا نسمع في خطابات الزعماء، أي مطالبة بنظام ضريبي أكثر تقدمية يعيد توزيع الثروة بشكل عادل ويقلص الفجوة الاجتماعية ويسمح بتوفير الحقوق والخدمات. بدلاً من ذلك، يدّعي الزعماء رياءً أنهم يدافعون عن الفقراء عبر وقوفهم في وجه فرض المزيد من الضرائب. فيما واقع الحال أن الإيرادات الضريبية في لبنان متدنية نسبياً، ومن أجل دعم الفقراء يجب المطالبة بفرض المزيد من الضرائب على القطاعات الريعية، والضريبة التصاعدية، والضريبة الموحدة على الدخل، والضريبة على الثروة، وبإلغاء كل الإعفاءات المجحفة وغير المجدية اقتصادياً.
لا بد من التصدّي لأكذوبة الاقتصاد الحرّ وفرض النقاش حول العدالة الضريبية. وعندما يصيب هذه الأكذوبة أي اهتزاز، ينبري للدفاع عنها وبنفس الحدة، جميع الأفرقاء على طرفَي نقيض الصراع في لبنان، من القوات اللبنانية إلى حزب الله وما بينهما. لذلك لا يطال الخطاب العام مسلّمات من هذا النوع، بل يوحي الزعماء بأنهم يحملون الدواء الشافي لكل المشكلات لولا التعطيل الذي يأتي من الخصوم. وكأن الإصلاح كان دائماً وشيكاً لولا هذه العثرات السياسية. قاعدة التيار الوطني الحر تتهم الرئيس نبيه بري بالوقوف سداً في وجه خططهم الإصلاحية. مناصرو حزب الله يروّجون لرواية أن مشكلاتنا تُحلّ لو تجرّأ الفريق الآخر على التوجّه شرقاً. يتهامس بعضهم بأن التحالف مع حركة أمل يأتي على حساب الإصلاح لكنه العلقم الذي لا بد منه لدرء اقتتال الأخوة. العجز عن الإصلاح بالنسبة إلى السياديين وبقايا 14 آذار يعود إلى هيمنة حزب الله وإيران. لكن، لو نزعنا الحجج السياسية، بمعزل عن أحقّيتها من عدمها، هل كان أحد من هؤلاء الزعماء ليجرؤ على الوقوف في وجه حيتان المال؟

* صحافية