القاهرة | حين طلب من المايسترو المصري هشام جبر (1972) إعداد تصوّر عن حفلة ضمن «مهرجانات بعلبك» هذا العام، وجد أنّه أمام مسؤولية كبيرة، بخاصة أنّ إدارة المهرجان رغبت في إحياء تجربة مشاركة أم كلثوم في المهرجان قبل حوالى خمسين عاماً. بعد تفكير وتبادل اقتراحات مع إدارة المهرجان، وجد جبر أن أمّ كلثوم قدمت بأشكال مختلفة، وهناك من يعتقد أنّ تجربتها قد استنفدت، في حين أنّ الحقيقة كما تجلت له بعدما انتظم في الاستماع إلى غنائها سعياً إلى تحليله وإدراك أسراره، أن أم كلثوم لا حدود لها. هكذا، قرر جبر المغامرة بتقديمها في قالب سيمفوني. فكرة لاقت قبولاً واسعاً من إدارة المهرجان، وسيتم الكشف عن محتواها مساء الجمعة المقبل أمام الجمهور.
انتهى جبر من كتابة الألحان وتوزيعها في هذا القالب. يقول لنا: «لن نقدم أغنيات معينة وإنما برنامج من جزءين موزعين على صوتين قادرين لمروة ناجي ومي فاروق اللتين تعدان من أفضل الأصوات القادرة على غناء أم كلثوم». داخل هذا القالب، هناك اشتغال على مقاطع معروفة لسيدة الغناء العربي على توزيعات أوركستريالية بمصاحبة عازفين من مصر ولبنان.
لم تكن هذه التجربة هي أولى تجاربه مع الموسيقي الشرقية. إذ قدم من قبل موسيقى ابن بطوطة في افتتاح «المسرح الوطني» في البحرين وغيرها، فضلاً عن إنجازه موسيقى تصويرية لعديد من الأفلام الروائية فيها استثمار لإرث الموسيقي الشرقية الطويل.
تزامن خوض هذه التجربة مع حدث فريد في مسيرة هشام جبر، تمثل في حصوله على وسام فارس من الحكومة الفرنسية. ذات يوم من أيام عام 2017، تلقى جبر رسالة من القنصل الفرنسي في الاسكندرية تخبره بترشيحه للحصول على وسام ولقب فارس الفنون والآداب من الحكومة الفرنسية تقديراً لجهوده في نشر الثقافة. أغلق الرسالة الالكترونية التي جاءته، معتقداً أنها تخص شخصاً آخر، وجاءت بطريق الخطأ، أو أنها خدعة من الخدع الالكترونية المعتادة. ارتاح لهذا الاستنتاج لاعتقاده بأن هذا الوسام يُمنح لمن هم أكبر سناً. كما أن ثقافته ليست فرنسية إجمالاً، وبالتالي عليه الانتظار لمزيد من السنوات حتى يحلم بمثل هذا التقدير.
وتحت ضغوط القلق الشخصي والاضطراب المعتاد في مثل تلك الحالات، بادر جبر واتصل بالقنصل الفرنسي الذي أكد له هذا الترشيح، هو الذي عمل لسنوات خلال إداراته مركز الفنون التابع لـ «مكتبة الاسكندرية»، على ترسيخ أشكال التعاون مع المؤسسات الثقافية الفرنسية. كما أن تجاربه كقائد أوركسترا في قيادة فرق موسيقية من العالم، كانت دائماً تعطي للموسيقي الفرنسية ما يلائمها من اهتمام. كان على جبر أن يستعد جيداً لاستقبال اسمه ضمن قائمة شرف تضم نجيب محفوظ وجمال الغيطاني وانجي افلاطون ومحمد سلماوي وعلاء الاسواني. ما يعني أنه أصبح «الأصغر سناً بين جميع الحاصلين على الوسام في مصر». كما أنه الموسيقي المصري الوحيد الذي حصل عليه وهذه مسؤولية كبيرة ومفارقة من نوع خاص لأن التقدير جاء من «الغرب» وليس من الداخل.
بين الترشيح لنيل الوسام والحصول عليه رسمياً، قطع هشام جبر مسافة عام حافل بالتجارب. استقال من العمل الإداري في المكتبة وأصبح «موسيقياً متفرغاً». خيار ــ على صعوبته ــ يبدو ملائماً لمزاج الفنان الذي رأى في توقيت منحه الوسام «رسالة» تقول إنه يمشي في الطريق الذي ينبغي أن يسلكه كفنان أثقلته المهام الإدارية وعطلته كثيراً عن المسار الذي كان ينبغي أن يكمله.
في الوقت الحالي، يمضي «المايسترو» كما يناديه الأصدقاء المقربون ومن بينهم الصحافي عبد الله السناوي، بعض الوقت في مقهى في حي الزمالك ترتاده نخب سياسية وفكرية تشغلها طبيعة الأوضاع السياسية في مصر.
يرى جبر أنه من الأشخاص الذين يعنيهم جيداً فهم ما يجري، لكنه لا يعتبر نفسه سياسياً. فالتزامه يتعلق بالموسيقى، لكنه يؤكد أن خياراته في الحياة العامة كانت ابنة انحيازات معينة كونها على امتداد تجاربه في الحياة والتي يكرس الكثير منها للإنصات للشعر.
من يتابع صفحة هشام جبر على فايسبوك، سيجد عشرات الأدلة على هذا الولع بالشعر، إذ يحتل صلاح عبد الصبور مكانة فريدة هو ووديع سعادة الذي قاده إلى أجيال أحدث مثل السوري رياض الصالح حسين، أو سوزان عليوان التي يراها شاعرته المفضلة. لم يلتق بها أبداً ويحب فيها ـ إلى جانب بساطتها المدهشة ــ تعدد أسلافها من الشعراء على نحو يعمق من هوياتها المتعددة ويجعلها تمثل جيله بامتياز.
على الصعيد الموسيقي، يعتقد جبر جازماً أن ما يحصل عليه الموسيقيون المحترفون في مجال الموسيقى الكلاسيكية من تقدير، لا يوازي الجهد المبذول عبر سنوات لإعداد موسيقي جيد. إعداد يقوم على الكثير من التفاني ويحتاج إلى نوع خاص من الإيمان، أو قل «الزهد» لأن عائدها المادي لا يضمن للفنان عيش حياة كريمة. فهذه الموسيقى في مجتمعاتنا العربية إجمالاً، لا تحظى بالكثير من الدعم والانتشار، بل التقدير الذي يمكن وصفه بأنه «أضعف الإيمان». بالتالي، فإن أصحابها يقدمون الكثير من التضحيات كي يستمروا في هذه المغامرة وتقديم ما يحبون.
يأمل هشام جبر أن يتغير واقع الموسيقي الكلاسيكية في مصر مع تولي عازفة متميزة مثل ايناس عبد الدايم تقاليد الأمور في وزارة الثقافة. فقد عانت الكثير في مسيرتها كعازفة، وهي على علم بما يعانيه الزملاء من موسيقيين.
رغم هذه الرهانات، يرى جبر أن تذوق الفنون يعاني من التدهور، والدولة الوطنية في عصر الفضائيات والانترنت وتطور وسائل البث والإنتاج لم تعد قادرة على إدارة الوضع ولا تملك ما كانت تملكه في الماضي من قدرات لتوجيه الرأي العام والتحكم بما يطلبه المستمعون. في الماضي، كان العامل البسيط ورئيس الحكومة يشتركان في الاستماع الى أم كلثوم في تواقيت محددة لكن الأمر لم يعد كذلك اليوم. ربما يضمن التطور ميزة حقيقية يلمسها موسيقيو الاندرغراوند والموسيقى البديلة، لكنها أيضاً تنطوي على مغامرة الخضوع لشروط الاستهلاك. وهنا لا يطلب جبر من السلطات أن تشارك في المنع بل بأن «يسهم الإعلام الرسمي في خلق خيارات ترفع من الذوق الموسيقي وتدعم الفن الجيد لا الانجراف خلف أنماط الابتذال».
برنامج من جزءين موزعين على صوتين قادرين هما مروة ناجي ومي فاروق


يضرب مثالاً تجربته في إدارة مركز الفنون في مكتبة الاسكندرية. إذ نجح في مضاعفة أعداد جمهور الحفلات إلى ثلاثة أضعاف ما كان قائماً من قبل. كما عمل على تصميم برامج فنية تتميز بالتنوع والجاذبية لقطاع كبير من الجمهور، من دون الإخلال بالمستوى الفني لتلك الأنشطة الفنية، ما أدى إلى زيادة ملحوظة في عدد العروض الفنية التي وصلت إلى حوالى ٣٠٠ في العام، مع اهتمام متزايد من الجمهور.
يعتبر جبر أن السر الأساسي في هذا النجاح مرتبط بثقة الجمهور في التزام المؤسسة بمسؤولياتها تجاهه بداية من الحفاظ على مواعيد الحفلات وانتظامها مروراً بخلق مناخ ملائم واحترام تقاليد الاستماع بكافة أشكالها. و«بفضل هذه الثقة، آمن الجمهور بالتزامنا وجديتنا في كل ما نفعل. والأهم أننا في المقابل آمنّا بحقه في الاستماع الى تجارب متنوعة سواء في الأنواع الموسيقية أو أجيال العازفين، فضلاً عن انفتاحنا أمام تجارب عربية مختلفة. فقد سعينا خلف مرسيل خليفة وكاميليا جبران وريما خشيش وغادة شبير بالقدر نفسه الذي حافظنا فيه على وجود الموسيقى الكلاسيكية أيضاً، إلى جانب الإيمان بتجاور الفنون على مختلف أنواعها، لأنّه من الصعب أن يبقى الفنانون والجمهور في جزر منعزلة. التكامل بين الفنون هو تعبير عن شكل من الشراكة والحوار بهدف خلق تيار أو تنمية خيار العيش الأفضل وهذا ما سعيت إليه دائماً». لا يرى «المايسترو» أنّ استقالته من المركز «خسارة شخصية»، بل على العكس، هو يؤمن أنّها جاءت في الوقت المناسب لأن الإدارة دائماً ما تكون على حساب التزام الفنان تجاه نفسه. ويضيف: «نشاطي كمؤلف موسيقي وقائد أوركسترا زائر لعديد من فرق العالم، تأثر سلباً».

* «بعلبك تتذكر أم كلثوم» مع مي فاروق ومروة ناجي بقيادة هشام جبر: 20:00 مساء الجمعة 20 تموز (يوليو) ـــ مهرجانات بعلبك الدولية ـ baalbeck.org.lb