ربما لن يخطر في بال أحد من سكّان الشام، وهو يعبر الطريق الدمشقي الشهير الذي يصل «ساحة الميسات» بأوّل «أوتستراد العدوي» أن يسأل نفسه عمّن يقبع تحت القبة الحمراء التي صارت شبه مزار، ويحيطها حديقة. تكاد روحانيّتها تبدو كسمة عامة للمشهد «الشوارعي» الأليف؟! وربما لن يفكّر طويلاً من يسمع معلومة تفيد بأن هذا المقام واسمه «ستي حفيظة» ليس لقديسة تحمل الاسم ذاته، ولا لستة من حفظة القرآن كانوا يجتمعون في هذا المطرح، كما هو متداول للعامة ممن يعنيهم البحث العابر عن الموضوع. وغالباً لن تؤثر كثيراً حقيقة أن المقام يعود لأرغوان الحافظية بحسب مراجع منها: النعيمي، وابن كثير، وابن طولون، وابن العماد الحنبلي... والتي تؤكد بأن السيدة الجليلة المدفونة هنا، سميّت بالحافظية لتربيتها الأمير الحافظ أرسلان صاحب قلعة جعبر! طيّب، ماذا تراكم هذه المعلومة التي يدلي بها الباحث عماد الأرمشي من إجابات لأسئلة وجودية مرعبة تواجه لحظيّاً مواطن مغلوب على حياته، بات يشغله استفسار أصعب عن ثمن ربطة الخبز، في بلاد تتناهشها الأزمات، وقد دخلت حكومتها منذ حين، في موت سريري لدرجة باتت تعجز فيه عن قول كلمة حق واحدة في حضرة سلطة جائرة! هذا بالضبط كلّ ما كان يراودنا ونحن نقصد مكاتب «أفاميا الدولية للإنتاج الفني» (فراس الجاجة) في حي المزرعة مروراً بالمقام الشهير، بعدما طلب صاحبها دعوة «الأخبار» على وجه الخصوص، واعداً بمفاجأة ثقيلة لا يعرف لها مثيل على حدّ زعمه! وبالفعل كل ما سبق سيتجلى في أبهى صورة له، عندما نصل، ونكتشف ماذا ينتظرنا، خاصة ونحن نتخطى طقوس كورونا والتباعد الاجتماعي، ونتعانق مع الممثل السوري المخضرم أسامة الروماني شقيق الراحل هاني الروماني، وأحد المؤسسين للدراما في سوريا، وأبرز وجوه الأبيض والأسود، والذي غادر بلاده منذ عام 1978 بحثاً عن العمل في الكويت وأقام فيها، بعيداً عن الفن الذي قرر ركنه جانباً، ربما لأنه لا يطعم خبزاً نظيفاً! وعاد أخيراً. لم نكن مع الروماني وحدنا في دعوة «أفاميا» بل كنا برفقة شريكه، وخليل دربه الطويل النجم الكبير عبد الهادي الصبّاغ! الرجلان مع بعضهما حالة فلكلورية مبهجة! استعادة لأبرز مرحلة حكى فيها الفن في الشام عن قضايا الناس الصغرى وأوجاعهم وتاريخهم، هما فعلياً بمثابة منفَذان لشهقة أوكسيجين في زمن الموت اختناقاً من كل هذا التلوّث البصري، والانحلال الفني الذي يحدّق بسوريا، والترنّح الاقتصادي والخدماتي أيضاً! الممثلان المخضرمان عاصرا الزمن الذهبي، والمرحلة التأسيسية للفن المسرحي والتلفزيوني في هذه البلاد المنكوبة! لعبا معاً في عروض مسرحية خالدة مثل «غربة» و«ضيعة تشرين». وربما لن يستغرب أحد بأن نجم «الولادة من الخاصرة» (سامر رضوان ورشا شربتجي) ظلّ قرابة نصف ساعة حتى تمكّن من التعرّف إلى صديقه القديم أسامة الروماني، الذي روى لنا بحنين مسيّج بالشغف، كيف كانوا في زمن مترف بالصدق والغيرة المهنية، يحيلون الأعمال التلفزيونية، لما يشبه الشركة المساهمة، عندما يتوازعون الأدوار الأولى لمجموعة ممثلين يتقاضون عليها حوالي 254 ليرة سورية، ثم يتنازلون عنها لممثلين آخرين كي يستفيدوا بالأجر، ويلعبون أدواراً ثانوية بأجور لا تتعدى 170 ليرة سورية. ويضرب مثالاً على ذلك ما حصل في مسلسل «هذا الرجل في خطر» (1975 كتابة عادل أبو شنب وإخراج علاء الدين كوكش/13 حلقة) عندما كانت كلّ حلقة بطولة أربع ممثلين رئيسين وآخرين ثانويين يتناوب عليها الجميع!
يسرد بعدها عبد الهادي الصبّاغ عن ذكريات «الموكامبو» في حلب أيّام كانت تجول أكثر عروض جماهيرية بتاريخ البلاد وهي عروض دريد لحّام على المحافظات السورية، وتظلّ مشعّة بتزاحم مشاهدين ينتظرونها على أحرّ من الجمر، وكيف مرّة رمى أحد المعجبين أبناءه في حضنه ليلتقطوا معه صورة تذكارية، ثمّ جلس هذا المعجب إلى جانبه، وجّرب تقبيله بحرارة على فمه، فأبعده ببراعة لاعب ملاكمة (وهي الرياضة التي كان يزاولها آنذاك) ثم يستطرد الاثنان معاً بتفاصيل دقيقة عن الليلة السوداء التي أصيب فيها نهاد قلعي بشلل نصفي على خشبة المسرح، أثناء أحد عروض «غربة»؟ يقول الروماني بأن الجمهور بسبب ثقل لسان «حسني البورظان» ظنّ بأنه صعد على الخشبة وهو سكران، لكّن لم تمض دقائق حتى أوقف دريد لحّام العرض معلناً إصابة أستاذ السيناريو السوري الأوّل في سوريا بالشلل، وكيف أكمل العروض الراحل تيسير السعدي بديلاً عن قلعي، ثم أصّر «غوّار» على أن يرافقهم شريكه نهاد في العرض الخاص بالتصوير التلفزيوني. ينفعل أسامة الروماني هنا، وهو يروي كيف تحمّس الراحل نهاد قلعي أثناء تحية الجمهور، وتمكّن من تحريك يده المشلولة لمرة واحدة وأخيرة، قبل أن يعجز عن ذلك بعدها، يقول: «دقّقوا في التصوير التلفزيوني الموجود في الأرشيف لتتأكدوا من صدق ما أرويه». ثم يطول الحديث عن مبتكر الكاركترات الخالدة، وبديهيته الحاضرة في صوغ إجابات بالغة الذكاء، وعميقة الكوميديا، حتى عندما كان يصادفهم معجب يترك لنفسه فرصة الموانة الزائدة، على ممثلين يراهم على الخشبة والشاشة، فيقرر أن له الحق في اقتحام خصوصياتهم..
الملفت بأن أسامة الروماني وهو أحد مؤسسي «نقابة الفنانين السوريين» يحكي بذاكرة متقدة عن أوّل مهرجان مسرحي في دمشق سنة 1969 عندما جيّر وزير الثقافة حينها الراحل فوزي الكيّالي بعض الاتفاقات الفنية لصالح النقابة، ما خوّلها أن تقيم مهرجاناً مهمّاً شاركت فيه فرق مكرّسة من دول عربية وأجنبية عدّة. حينها كان يجري الروماني مقابلات مع ضيوف المهرجان، ويتقاضى أجراً يناهز 10 ليرات سورية على كلّ لقاء مع كبار الضيوف بينهم: روجيه عسّاف ويوسف العاني مثلاً، ثم كان يتبرّع بأجره لصندوق النقابة... يضحك وهو يخبرنا عن الكوميديان المصري الراحل توفيق الذقن الذي أضاعوه قبيل عرضه، ثم وجوده في أحد المخافر بعد مشكلة اعترضته حين قصد أحد البارات فور وصول طائرته إلى دمشق فوراً، لكن ما إن وصل إلى المسرح ودارت البروفة حتى عاد ممثلاً بكامل حلّته وبهائه. يخبرنا الروماني ثم تكتسي حديثه ملامح الفرح عندما يستحضر الراحل محمود ياسين الذي شارك في «دائرة الطباشير القوقازية» (لبرتولت بريشت) مع «فرقة المسرح القومي المصري» وأمضى الروماني وقتاً ليحفظّه دوره بطلب من مخرج العرض. بعد كلّ هذا التاريخ، ستمرّ جملته الاعتراضية عن فصله اليوم من النقابة على يدي النقيب الحالي زهير رمضان؟! النقابة ذاتها التي أسهم في تأسيسها؟ لمَ لا، وقد وصلت المؤسسة الفنية في عهد «أبو جودت» إلى مكان باتت تشبه فيه فرع أمن، ذروة ما تنجزه هو الإقصاء والفصل والتهديد والوعيد! وهل يعني «رئيس كركون حارة الضبع» كلّ تلك الحقائق الفنية المبهجة عن تاريخ بلاده؟!
الجلسة الهانئة، المطوّقة بحسن ضيافة، والبراعة في تمهيد الأرض للبوح، لا يكفيها مقال للإحاطة الشاملة بزواريبها، بل تستحق إعادة تدوير مطلق، لصنع سلسلة وثائقيات عن نجم الزمن الجميل العائد إلى بلاده بعد غياب قارب ربع قرن، وقد كان آخر ما حرره تلفزيونياً هو دور الرئيس السوري الراحل أديب الشيشكلي في سلسلة «حمّام القيشاني». هذا ما ستفعله ربما شركة «أفاميا الدولية» التي يديرها منتج فني يعرف اصطياد اللحظات المهمة، واستقطاب القامات الرفيعة!