كل شيء يوحي بأن أمير كوستوريتسا مختلف تماماً. بساطته. تواضعه. نظراته الذكية. وتعليقاته المقتضبة الساحرة. والكاريزما التي يتمتّع بها بدرجة تفوق النجوم. تعاطيه المعافى تماماً من أي تصنّع أو تكلّف مع الناس، لدرجة يمكنه أن يستجيب لأن يلتقط بنفسه صوراً تذكارية لكل من يطلب منه ذلك! الرجل يرأس لجنة تحكيم المسابقة الدولية في الدورة 43 من مهرجان القاهرة السينمائي.رغم أن المخرج الصربي المعروف يحكي بمنطق مختلف عما تفهمه العامة عن فيلمه «مارادونا»، لكنّه صار معروفاً شعبياً على مستوى واسع من قبل جمهور ربما لم يهتم يوماً بالسينما كما فعل مع كرة القدم، بعدما صنع هذا الشريط. لأنه حبكه بغوص عميق في الكواليس الخلفية لحياة اللاعب الاشهر في العالم. فكانت النتيجة قصة متينة عن أسطورة كرة لا تتكرر! هكذا، صار لأمير كوستوريتسا شعبية مختلفة جذرياً عن غالبية عظماء السينما في العالم، بذريعة هذا المنجز الثري الذي قال عنه أمس في حوار مفتوح مع جمهور «مهرجان القاهرة السينمائي»: «عندما صورت هذا الفيلم، سألت لماذا تنتج فيلماً عن مارادونا؟ فقلت لن أعرف إنجاز فيلم عن بيكهام مثلاً! نعم هو لاعب بارع، لكن ليس في حياته ما يجذبني لأنتج فيلماً عنه. مارادونا حطّم حياته، عندما يحطم بيكهام حياته، سأصوّر عنه فيلماً» فيما يجيب على سؤال حول ما إذا كان يعرف نجم الكرة المصري محمد صلاح، وماذ إذا كان مهتماً به سينمائياً يوماً ما، أجاب: «صلاح لاعب ممتاز ورشيق ويتمتّع بصحة جيدة. نحن نراه يركض بلياقة عالية، ويحرز الأهداف، ويتسم بصفات بدنية ممتازة. لم نره يوماً مغمى عليه من شرب الكحول، أو أنه مطروح أرضاً في زاوية قذرة بسبب تعاطي المخدرات. الأمر كان مع مارادونا مختلفاً». المخرج الصربي حازت أعماله جوائز هامة من كبرى المهرجانات الدولية. فقد فاز شريطه «عندما كان الأب بعيداً عن العمل» (1985) بجائزة «مهرجان كان»، وترشّح للأوسكار، كما نال الجائزة ذاتها في فيلمه «زمن الغجر» (كتابة جوردان ميهيتش) وحصل فيلمه «تحت الأرض» الذي يحكي عن معاناة البلقان على السعفة الذهبية الثانية في «مهرجان كان السينمائي» عام 1995. كذلك، حصل Arizona Dream الذي يعد أول فيلم له باللغة الإنكليزية، على جائزة «الدب الفضي» من «مهرجان برلين السينمائي» عام 1993.
يحكي أمام الجمهور العربي عن هاجسه عندما يقرر أن يصنع فيلماً جديداً فيقول: «دائماً أشعر كأني متّ وعدت لأخبركم عما حصل معي» فيما يروي مصادفة دخوله للسينما. المفترق الذي وضعته عليه عائلته: «كان دخولي السينما لحظة مفصلية. خلّصني من الانحراف والاجرام. الشذوذ والخروج عن المألوف في أفلامي ليس انعكاساً لحياتي، إنما هي محاولة إبهار. أتذكّر علاقتي الأولى بالسينما كانت كممثل. قلت جملة في فيلم، وحذفت لاحقاً في المونتاج لأنّ صوتي كان متهدجاً بسبب التوتر الهائل، لذا حتى الآن أعتقد أنني ممثل جيد في الحياة ورديء في السينما.. لاحقاً كان على والدي ووالدتي أن يخلّصاني من الانحراف بدراسة السينما. المفارقة أنّه عندما بدأت الدراسة، قال لي أساتذتي أنت عنيد بما فيه الكفاية، لكن لا نلمح فيك أي نوع من الموهبة وتباعاً غيروا آراءهم».
يستطرد صاحب «زمن الغجر» في استرجاع ذكرياته مع فيلّيني ليقول كان عليّ أن أحضر واحد من أهم أفلامه أثناء دراستي في براغ وكان فيلم Amarcord (كتابة تونينو جيرا وفيلني وإخراج فليني) ويحكي كيف وصله خبر من أنّ حبيبته التي تركها لا تزال تحبّه، فكان عليه أن يسافر 27 ساعة في قطار قذر وخطر ليراها، وعندما يصل كان يفشل في رؤيتها، ومن ثم يعود ليحاول اللحاق في الفيلم، لكنّ مجرد مرور التتر كان ينام ليصحو على صالة خالية من الجمهور، ثم يتلقى توبيخ زملائه في الدراسة في اليوم التالي؟ الأمر نفسه تكرر ثلاث مرات، دون أن يتمكن من متابعة الفيلم بسبب تعبه من السفر المتكرر دون جدوى إلى سراييفو ومن ثم لاحقاً التقى حبيبته وحضرا الفيلم معاً فقالت له عليك ألا تقص عليّ حكاية الشريط، فطمأنها بذلك «القصة انتهت بأننا حضرنا فيلليني معاً، وقبّلنا بعضنا داخل الصالة، وكان هذا الفيلم شاهداً على تلك القصة المؤثرة ونقطة تحوّل في حياتي المهنية».
وعن مشكلة السينما المعاصرة، يقول: «إنها تسعى اليوم أكثر من أي وقت مضى وراء الحقيقة. علماً بأن هناك جمهوراً لا يريد منك أن تجمّل الحقيقة بل أن تصفعه بأحداث متخيلة تماماً عنها» فيما يعتقد مخرج «تحت الأرض» بأن الموسيقى هي التي تفرز بين الغث والسمين في السينما، وبأن البساطة المهنية أمر ليس عفوياً بقدر ما هو نتيجة تراكم ينضوي على الكثير من الأمور المعقدة. فلو سألت كوبولاً مثلاً لماذا فيلم «العرّاب» بسيط؟ لن يجيبك على ذلك.
يسوق مجموعة نصائح للمخرجين الشباب أوّلها أن تكون القراءة أكثر ما يشغفهم «لأنّها أهم من مشاهدة الأفلام، ولأنّ الوقت الحالي يبني جدراناً صلبة في مواجهة أي شخص يسعى وراء الحياة الثقافية الحقيقية» ثم يقول بأن المخرج الجيّد عليه أن «يفكّر بألا تكون حركة كاميرته طبيعية! يجب أن تعمل عدسة الكاميرا ما تنجزه الجاذبية الأرضية، أي أن تقنع المشاهد بأن شخصياتك لا تتمتع بهذه الجاذبية الأرضية إنما تحلّق بشكل حرّ في فضائك السينمائي».
يعرّج أمير حول واقع البثّ هذه الأيّام وحضور عملاق العرض الأوّل في العالم أي شبكة نتفليكس، فيقول: «بأنّ هذه التجربة ستستمر في النجاح المبهر، لأنّ هناك محاولة دائمة لإعادة هيكلة العالم، لن تتوقف حتى إقفال آخر دار سينما أبوابها، فاليوم بثمن تذكرة فيلم واحد تقريباً، تستطيع أن تشترك لعام كامل على نتفليكس».
وفي سؤال «الأخبار» عن زيارته لسوريا سنة 2009 وغياب الجمهور عن الندوة المشابهة التي عقدها حينها، بينما كان يتقفى أثر هيفا وهبي ضيفة المهرجان في العام نفسه، وإن كان يود زيارة هذه البلاد اليوم بعدما أنهكتها الحرب، يقول لنا: «معطيات مشاهدة السينما اختلفت اليوم. اليوتيوب والمواقع تتيح لك مشاهدة أفلام عرضت وأنت صغير مثلاً ولم يتسن لك حضورها. قبل ذلك، لم يكن هذا متاحاً. في سوريا، أعتقد بأنّ هناك كماً كبيراً من الممثلين المصريين والعرب يحظون بشهرة واسعة والسيدة التي ذكرتها هيفا وهبي تتمتع بذلك. بالنسبة لي أحافظ على علاقات جيدة مع سوريا، ومع أشخاص يعرفونني تماماً وأعرفهم بشكل ممتاز. للأسف عقب زيارتي، اندلعت الحرب. رغم أن بلادكم مهد للحضارات والديانات المسيحية والإسلامية، ومن الموجع حقاً أنها تعرّضت لهذه الهجمات الشرسة. سأكون صادقاً لو قلت لك بأنني أتمنى من قلبي زيارة بلادكم مرة جديدة أن أرى فيها كل من أعرفه».
نسأله أيضاً إن كان قد يفكر في إنجاز شيء جديد عن مارادونا بعد وفاته التي تركت إشارات استفهام عميقة حول ما إذا كان موتاً طبيعياً أو مفتعلاً، كما أنها أرست مشاعر بليغة في جميع أنحاء العالم فيرد: «بالنسبة لمارادونا لم أصنع فيلماً إعلانياً أو ترويجياً عنه، ولم يكن مجرّد فيلم عن لاعب كرة قدم مشهور حقق حضوراً كبيراً حول العالم. إنما كانت التجربة فقط لأن حياته تستحق ذلك. أنا لا أضع الأشخاص ضمن إطارات محددة، ولا أتقفّى أثر المشهورين». أخيراً يبرع كوستوريتسا في الإجابات المختصرة عندما يتلقى سؤالاً عن رأيه في الوقت والحب، فيقول: «الوقت غير موجود سيصبح حاضراً فقط عندما تقع في الحب!». وفي الختام يردد ما قاله في الافتتاح: «كلّنا نحب أن ندخل الجنة، لكن لا أحد منّا يتمنى أن يموت».